افتتاحية قاسيون 564:الحركة الشعبية وبناء النظام الجديد
إن غياب الجماهير طوال عقود مضت عن ساحة الفعل السياسي، الغياب الذي ترافق مع استمرار تهديد العدو الخارجي وتدني مستوى الحريات السياسية، كل ذلك سمح لجهاز الدولة السوري أن يحفظ نفسه بعيداً عن رقابة الناس، وبدأ بالتضخم حتى بات يرى نفسه فئةً مستقلة لها مصالحها الخاصة المتمايزة عن مصالح بقية طبقات المجتمع، الأمر الذي أدى إلى استشراء الفساد داخل بنيته وفصله تدريجياً عن أحد أهم مبررات وجوده كدولة وهو إدارة وتنظيم شؤون المجتمع، ولا شك أن مرحلة اللبرلة لعبت دوراً أساسياً في تجذير الخلل البنيوي داخله، حيث زرعت اللبرلة بذور الأزمة الراهنة التي بدأت إقتصاديةً وتحولت مع الزمن توتراً اجتماعياً أفضى إلى انفجار سياسي انكشف مع بداية الأحداث، وأدت طريقة التعامل مع الأزمة ومحاولات تشويه مضمونها إلى الدخول مرة أخرى ضمن الحلقة المفرغة نفسها: (أزمة اقتصادية- معيشية، توتر اجتماعي، توتر سياسي) ولكن هذه المرة في طور أعلى وأكثر خطورةً..
وقد كشفت الأسابيع القليلة الماضية، بمزيد من الوضوح،العجز الكبير الذي يعانيه جهاز الدولة السوري في أداء مهماته الأساسية، فمن الناحية الأمنية تعيش مساحات لا يستهان بها من التراب السوري حالة فلتان أمني، حيث أدت سيطرة عقلية الحل الأمني وحيد الجانب إلى تعميق العنف والعنف المضاد ورفع منسوبهما، وبالنتيجة تحول الحل الأمني من حل مفترض إلى معمقٍ ومولدٍ إضافي للأزمة، وإلى عامل ضغط مستمر على الجيش السوري الذي بقيت جهوده غير مترافقة مع حل سياسي. ومن ناحية إدارة شؤون البلاد المعيشية وحل الاختناقات الكبرى، أظهر جهاز الدولة ضعفاً واضحاً في الإدارة لا يمكن تعليق سوى جزءٍ منه على مشجب «الأوضاع الأمنية»، في حين أن الجزء الباقي يعود إلى الخلل البنيوي الناجم عن الفساد المستشري داخله إلى الحدود التي تفقده إمكانيات الاستمرار بالطريقة نفسها..
إن انطلاق الحركة الشعبية في سورية إذ جاء ضمن هذه الظروف، فإنه في معناه العميق جاء تحت ضغط ضرورات داخلية تتعلق بالفساد ومستوى المعيشة ومستوى الحريات السياسية، وجاء أيضاً كجزءٍ وامتدادٍ لحركة شعبية عالمية معادية في جوهرها لعفن النظام الرأسمالي العالمي وعجزه عن حل المشكلات المتفاقمة والمتراكمة على المستويات كافة، وسورية باعتبارها دولةً نامية هي أحد الأماكن التي تحاول الرأسمالية تفريغ أزمتها فيها، ولذا فإن الحركة الشعبية في سورية التي تعبر عن النشاط السياسي المتصاعد للجماهير في أشكالها المختلفة، خرجت لتحل مشاكلها المتفاقمة خلال عقود من جهة، ولتؤدي في الوقت نفسه دوراً وطنياً في مواجهة تصدير الأزمة الرأسمالية العالمية إليها.. وصحيح أن أطرافاً داخل النظام وخارجه عملت على إعطائها صبغة طائفية وتشويهها وتسليحها، الأمور التي دفعت حتى الآن أثماناً كبيرة لتدني وعيها السياسي إزاءها، لكن هذه الحركة الموضوعية التي تشمل «المعارضين» و«الموالين»، بدأت تدخل طوراً جديداً يمكن تلمس سماته الأساسية فيما يلي:
- رفض العنف.
- تعقد الظروف المعيشية والأمنية إلى حدود غير مسبوقة، والقناعة بعجز الطرفين عن تقديم الحلول.
ضمن هذه الملامح العامة تتجه الحركة الشعبية في موجتها الجديدة إلى إدارة شؤونها، وذلك عن طريق تنظيم صفوفها لتتحول إلى قوة فاعلة على الأرض في وجه المتطرفين من الجانبين، ويصبح من الضروري البحث عن الآليات التي تسمح للمجتمع بالحفاظ على مؤسسات دولته وإعادة تأهيلها وهيكلتها بما يخدم مصالحه لا مصالحها، ومن نافل القول إن على كل الوطنيين في سورية تسهيل هذه المهمة، ودفعها إلى الأمام، وذلك بالإصرار على ضرورة الحل السياسي والحوار وضرورة الخروج الفوري من عقلية «خلصت» ومن «خلصت» المقابلة، هذا على المستوى السياسي العام، وأما في المستوى الإجرائي فينبغي فهم الأشكال الإبداعية التي تخلقها الحركة الشعبية لتسيير شؤونها وملأ فراغات الإدارة الناشئة، وينبغي التفاعل معها وحمايتها..
إن تعمق الأزمة والاختناقات التي أفرزتها، تضع الحركة الشعبية أمام استحقاق تاريخي كبير هو بناء النظام الجديد بكل ما يعنيه ذلك من تغيير جذري شامل على المستويات الاقتصادية والديمقراطية، بحيث تستكمل سورية الجديدة دورها الوطني في المنطقة على أساس داخلي متين..