حقيقة «التطورات الميدانية» في الأزمة السورية
بات الحل السياسي للأزمة السورية أقرب من أي وقت مضى. هذا ما تثبته بلا شك جميع العوامل الدولية والإقليمية والداخلية
إلا أنه وفي غمرة هذا التوجه العام نحو الحل السياسي، وجدت قوى التشدد في قطبي الثنائية الوهمية «موالاة-معارضة» ضالتها في سبيل شدّ عصب أنصارها المُثقلين بقوة الضخ الإعلامي، والحفاظ على مستوى عال من التبعية السياسية التي يلتزم بها أنصارها أولئك بمقدار ما يبدو سقف الطموحات المرتفع «الحسم العسكري- إسقاط النظام» هدفاً قاب قوسين أو أدنى من التحقق. فتدرج هذه القوى، التي تتقدم ميدانياً في مكان وتتراجع في آخر تحت ضغط التوازن الداخلي العسكري الصفري، على استثمار «تقدمها» الآني في مسارين اثنين متوازيين، أولهما استخدامه كورقة ضغط أولية على مجموع الاجراءات الدولية المُمهدة لانطلاق الحوار، وثانيهما الحفاظ على حجم الشحن المرتفع لأتباعها.
ماراثون تحت سقف التوازن
في طوري التقدم والتراجع المتعاقبين، ما إن يسيطر أحد الفريقين، المختلفين بالشكل والمتماثلين بالجوهر، على بقعة ما من بقاع الأرض السورية، حتى تشرع وسائل الإعلام التابعة لهما في وصف الأهمية الجيوسياسية التي تمتاز بها هذه المنطقة المستولى عليها بسطوة السلاح، وما تلبث أن تنفي وسائل الإعلام ذاتها هذه الأهمية بمجرد سيطرة النقيض عليها ولتنتقل في الوقت عينه للبحث عن مكامن الأهمية الجيوسياسية لمناطق النفوذ الحالية. يشكّل ما سبق صورة مصغرة عن دخول الإعلام بشقيه في لعبة استثمار الواقع المرئي المجتزأ بما يحرف الأنظار عن رؤية الواقع الكلي الحقيقي غير المرئي المخالف في كثير من الأحيان لما تعكسه الصورة الآنية المقتطعة من سياقها الطبيعي..
في الإطار ذاته، إن أولى سمات التحليل السياسي العلمي والسليم تكمن في مدى قدرته دائماً إلى ردّ المستجد اللحظي والطارئ إلى المشهد العام، ومن ثم الانتقال إلى اتخاذ الموقف من المستجدات السياسية على أساس الفهم العلمي الدقيق لسياقها الطبيعي كاملاً. وإسقاطاً على الوضع السوري حول تأثير التطورات الميدانية على مسار الأزمة السورية، ننطلق من الحقيقة القائلة بسقوط إمكانية تحقيق الانتصار العسكري لأحد الطرفين على الآخر، وتستقي هذه الحقيقة صحتها من واقع التوازن الدولي الصفري الناشئ في أعقاب الفيتو الروسي-الصيني المزدوج، وسقوط هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، وتحولها لقوة عظمى غير وحيدة مقيدة بوجود قوى عظمى جديدة تفرض توازناً جديداً على الساحة الدولية لينعكس بطبيعة الأحوال توازناً عسكرياً داخلياً في سورية..
من هنا نستخلص، أن أي تغيير في الميزان الداخلي العسكري للأزمة السورية مرهون بالضرورة بتغيير يسبقه في ميزان القوى العالمي، ويكون هو المسبب في ترجيح إحدى كفتي الميزان الداخلي، بمعنى آخر إن سقوط التوازن الداخلي العسكري لا يمكن أن يكون إلا تعبيراً عن سقوط التوازن الدولي الصفري. وهنا يبدو التساؤل مشروعاً: إذا كانت قوى التشدد بشقيها تدرك صحة ما سبق عبر التجربة، فإلام ترمي في تعويلها على التطورات الميدانية داخل سورية؟
رافعة بديلة لفقدان الثقل
رفضت قوى التعنت في الطرفين التسليم بصحة طروحات الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير، التي يسجل لها تحليلها الدقيق لواقع التوازن الدولي والداخلي ودعوتها للحل السياسي في الوقت الذي كانت فيه شتى قوى «الموالاة والمعارضة» لا تزال متمترسة خلف شعارات «الحسم- الإسقاط». إلى أن رضخت للحل السياسي مجبرة بعد إثبات فشل الحلول العسكرية عبر التجربة، وما رافقها من سفك للدماء السورية.
إن الحل السياسي بحاجة إلى القوى السياسية التي تملك في جعبتها أوراق حل الأزمة، ولأن قوى التطرف هذه لا تملك من الأوراق إلا تلك التي يمكن الحصول عليها بسطوة أداتها التي لا تتقن استخدام غيرها والمتمثلة بالسلاح. لم تتخل هذه القوى عن «حلولها» العسكرية، بل زاوجت بين العسكري والسياسي، مستخدمة نفوذها العسكري كرافعة لها تعويضاً عن فقدانها للثقل الشعبي، آملة في ذلك تأمين موقع أفضل لها على طاولة الحوار السوري. ولأن ضمان نفوذها العسكري هذا مرهون بالابقاء على ترابطها مع من تبقى من أتباعها، لجأت إلى المزيد من الضخ الاعلامي المتمحور حول تضخيم أهمية التطورات الميدانية والتلويح بعدم نفاذ مفاعيل «الحل» العسكري..
من هنا ترتسم أمام القوى الوطنية السورية كافة مهمة العمل على التسريع بالاتجاه نحو الحل السياسي عبر الحوار، وتذليل العقبات والعراقيل التي تحول دون الوصول إليه بأقل تكلفة ممكنة، فإن ذلك الماراثون الذي يحدث تحت سقف التوازن الدولي بين متشددي الطرفين ممن لم يقتنع بعد باستحالة خرقه يدفع السوريون وحدهم ثمنه دماً ودماراً، فالوطنيون جميعاً مدعوون اليوم للاستفادة من هذا التوازن عبر إعادة الثقل إلى حجم التمثيل الشعبي على أساس الرؤى والبرنامج السياسي الكفيل بتأمين المخرج الآمن والشامل للسوريين من أزمتهم ورسم معالم سورية الجديدة التي يريدونها..