هل يجب الحوار مع المسلّحين؟

هل يجب الحوار مع المسلّحين؟

ما زال المتشددون من أطراف الأزمة يتعاملون مع موضوعة الحوار وكأنها مسألة «أخلاقية» بحتة، ويظهر هذا من جانب متشددي النظام بمقولتهم: «لا حوار مع المسلحين لأنّ أيديهم ملطخة بالدماء»، 

ومن جانب متشددي المعارضة بمقولتهم: «لا حوار مع هذا النظام المجرم والملطخة أيديه بالدماء». نناقش هذه الظاهرة هنا، ليس بهدف التحقيق الجنائي في صحة الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، بقدر ما نسعى إلى التحقيق السياسي، في الدافع والمغزى السياسي من هذا النوع من الخطاب، واستجلاء الغاية منه، وتأثيره العملي على مسار الأزمة وحلها.

 الحوار لحقن الدم السوري

بغض النظر عن الآراء والمواقف الذاتية لأي طرف متورط أو غير متورط بالأزمة السورية، لا بدّ من التأكيد على أنّ الحوار بين جميع الأطراف السورية التي تقبل بحضوره دون شروط مسبقة، غير استدارة طاولته، والبدء به بمن حضر، مع ترك الباب مفتوحاً لالتحاق السوريين المتأخرين، كان ومايزال وسيبقى تلك الضرورة الموضوعية، التي فرضتها وخلصت إليها الجملة المعقدة من الأحداث والتطورات الميدانية والسياسية والاقتصادية-الاجتماعية، التي عاشتها البلاد، والإقليم، والعالم بدوله الكبرى والصغرى.

والضرورات الموضوعية في المجتمع كما في الطبيعة، هي عبارة عن ضرورات عمياء. بمعنى أنها تنشأ وتندفع وتتطور من تناقضات معينة موجودة داخل المجتمع، لتحول نفسها من أمر ممكن إلى واقع، يصبح وجوده حقيقياً ومحتوماً، بغض النظر عن أية عواطف أو مشاعر أو رغبات أو منظومات «أخلاقية» بشرية، أياً كانت. ولكن يتصادف مع هذه الضرورات أن تكون أحياناً مؤذية أو مدمرة للبشر، ومثال ذلك من الضرورات الطبيعية، الكوارث كالفيضانات والزلازل والأوبئة. ومثالها من الضرورات الاجتماعية، الحروب الاستعمارية التي شنتها قوى الإمبريالية في القرن العشرين، التي كانت ضرورة موضوعية فرضها التناقض بين حاجة رأس المال الاحتكاري المعولم إلى مزيد من الأرباح من جهة، بحكم قانون سعيه نحو الربح الأعلى دائماً، وبين الواقع المحكوم بقانون انخفاض معدل ربحه مع ازدياد تركيبه العضوي، في الأراضي التي أشبعها استغلالاً.

وفي أحيانٍ أخرى يكون نزيف الدماء أمراً ضرورياً لا بد منه، باعتباره شراً أصغر من أجل درء شر أعظم، ومثال ذلك التضحية بالدم والاستشهاد دفاعاً عن قضايا عادلة، مثل مقاومة الاحتلال الصهيوني والأمريكي، وتحرير المغتَصبات... والعدالة المقصودة هنا، نطرحها من وجهة نظر أخلاقية محددة، هي كل ما من شأنه دفع تقدم الإنسانية، لمصلحة الطبقات المستَغلة الكادحة والفقيرة في المجتمع. فهل نزيف الدم السوري عبر الاقتتال الداخلي هو شر ضروري لدرء شرّ أعظم؟! أم أنه بحدّ ذاته شرٌ عظيم، يهدد وحدة المجتمع السوري وكيان بلده بالتفتيت والدمار، ويستنزف الجيش الوطني السوري في معارك وعمليات، يقال له فيها «اذهب أنت وربّك فقاتلا»، دون أي تكامل في إطار حلّ سياسي ومصالحة وطنية، الأمر الذي يخلط الأوراق ويوسّع الثغرات لتطاول العدو الرئيسي «إسرائيل» بالاعتداء على السيادة الوطنية، التي بناها الشعب السوري وجيشه قبل الأنظمة، ببطولاته ودمه وعرقه. إنّه الشرّ الذي لا يمكن تبرئة أي طرف متورط فيه من مسؤوليته عنه، سواء لطّخوا أيديهم بالدماء مباشرة، أم احتفظوا بنظافة قفازاتهم الحريرية، وهم يعدّون غلّة تجارتهم وتربّحهم من جحيم الأزمة أو من النار التي سبقتها، أو في الزمنين معاً، وهم على الأرائك متّكئون، في «فيلّات» داخل البلاد، أو فنادق «خمس نجوم» خارجها، يتباكون منها على دم الشعب السوري، ويتبادلون الاتهامات بسفكه.

 الحوار الوطني بين السوريين

إذا كان طرف أو جهة أو شخص ما واثقاً ببراءته من الدم السوري فالأحرى به أن لا يخشى الحضور إلى طاولة الحوار، وإن كان سورياً وحمل السلاح تحت ظروف معينة، وتسبب بشكل مباشر أو غير مباشر بإراقة الدم السوري، أثناء محاولته تحقيق أهداف سياسية معينة يعتبرها مشروعة، فإنّ الحوار هو الأسلوب السلمي الوحيد المتبقي للعمل من أجل تحقيق الأهداف السياسية دون إراقة للدماء، وبالتالي فإنّ الإصرار على مقولة «لا حوار مع من تلطخ بالدماء»، لا يدلّ على حرص على «نظافة» الحوار، بقدر ما يدلّ على رفض ضمني مبدئي لفكرة الحوار، مدفوعٍ إما بجهل سياسي ما زال يتوهّم إمكانية كسر عظم الخصوم والانتصار المطلق عليهم بقوة السلاح، أو عن نيّة واعية مسبقة من أجل إعاقة وتأخير الحوار ورفع كلفته للحد الأقصى، من جانب أولئك الذين لا مصلحة لهم نهائياً بأي حوار أو حلّ سلمي، بل يعتاشون حقاً على الدمار والدماء، وجزء من هؤلاء هم المسلحون غير السوريين ومن في حكمهم من تكفيريين وحاملي مشروع التقسيم والتفتيت الظلامي بالقضاء على سورية الوطن الواحد، وتحويله إلى مجموعة ضعيفة من الكانتونات والإمارات الطائفية الخاضعة للمصالح الإمبريالية، وبذلك يتقاطعون عن قصد أو غير قصد مع مصالح العدو الصهيوني-الأمريكي المأزوم، والذي اضطرّ مؤخراً، عبر العدوان على «جمرايا»، إلى قصفٍ عسكري استباقي على الحلّ السياسي للأزمة.

في خصوصية الأزمة السورية، لا يكتسب الحوار السوري-السوري ضرورته من «أخلاقيته»، ولكن رغم ذلك يتصادف بأنّ أهمّيته تنبع من أنّه فعلاً الطريق الوحيد لإيقاف نزيف دماء المواطنين السوريين جميعاً، بوصفهم أبناء الشعب السوري الواحد، بغض النظر عن تصنيفاتهم الثانوية بين موالين ومعارضين، عسكريين ومدنيين، مسلحين وسلميين. هذا هو الطريق الوحيد لاستعادة الوحدة الوطنية، ولا بدّ للبنادق التي ضاعت وجهتها في فوضى الأزمة، من أن توحّد بوصلتها الوطنية صوب العدو الصهيوني والتعبئة من أجل معركة التحرير والتنمية، في جبهة شعبية واحدة كلّ سوري فيها يحمي ظهر أخيه السوري ببندقيته أو معوله أو منجله أو قلمه.

وتصبح المفاضلة بين أكثر أو أقل أخلاقية من وجهة النظر التي ذكرناها، لتكون عن طريق الصراع السلمي في ساحة معركة الحوار السياسي نفسه، وعبر البرامج السياسية، بتفاصيلها الاقتصادية-الاجتماعية والديمقراطية والوطنية، والتصورات التي تطرحها لسورية المستقبل، أيها أكثر خدمةً لمصلحة وتنمية وتقدم القوى المنتجة وعنصرها الإنساني، وأيها يضرّها ويعرقلها ويعزز مواقع وارتباطات قوى الاستغلال والنهب والفساد.