عن التطرف في إدارة الأزمة السورية
يتساءل احد السوريين عن أي تدخل خارجي يتحدث البعض ونحن لا نملك ما يكفي شتاءنا ذا البرد القارس من المازوت.. بعبارة أوضح نحن لا نملك البترول كليبيا والعراق فما الذي يريده الغرب منا؟ يجادل المجتمع في خضم الدماء النازفة بموضوعة التدخل الخارجي محاولا نفي الفكرة قدر الإمكان والابتعاد عنها مهما سولت ضغوط القمع لتراود المقموعين حول الخلاص بأي ثمن..
فأمام مشهد الهجوم على مقر المخابرات الجوية في حرستا المصور بدقة عالية والمعروض على شاشة الجزيرة، يرى الناس المشهد الملتهب في الأحداث السورية وتنعي بذلك الجزيرة أخر التصورات عن سلمية حراك الشارع السوري. يبرر البعض بان من نفذ الهجوم هم جيش منشق وليسوا مسلحين مدنيين بمنطق تبريري يعزون به ذواتهم الرافضة للدماء والمراوغة للقبول بشروط الواقع المر ..
سبق هذا المشهد انتظار كل السوريين قمة الرباط والتي توصلت إلى المزيد من العقوبات الاقتصادية والإعلان عن خطوات تفصيلية حول بروتوكول زيارة المراقبين العرب للأراضي السورية، وكان النظام قد أعلن عبر وزير خارجيته انه سيقاطع الجلسة كرد فعل على قرارات الجامعة العربية السابقة، والتي لم يكن اشد المتفائلين يتوقع أن تأتي بهذا الشكل التصعيدي، فمن تعليق عضوية سورية إلى العقوبات الاقتصادية إلى فتح الباب لتدخل خارجي أوسع عبر المنظمات الدولية..
نعت النظام المبادرة بأنها فصل جديد من فصول المؤامرة والتي رأى بها يوسف الأحمد السفير السوري في الجامعة أنها مشروع قديم خطط له سابقا وأعيد إحياؤه، اكتفى النظام بهذا النعت دون أن يبرر سلوكه المتبع حول هكذا مؤامرة، فلا يمكن لأحد أن ينفي الالتباسات التي رافقت المبادرة وخصوصا فيما يخص رئاسة اللجنة الوزارية العربية والتي تحولت بقدرة قادر من فلسطين إلى قطر، ومع هذا قبل النظام المبادرة ببنود غير تفصيلية متحدثا عن اعتبارت قومية واعتبارات العمل العربي المشترك، وبدل استخدام مبدأ سد الذرائع أو الانتباه لمقتضيات الحل الجذري والمتمثلة في إنهاء العنف والاعتراف بالحركة الشعبية والإفراج عن كل المعتقلين السياسيين ومحاسبة المتورطين بدماء السوريين والشروع بحوار جاد، اكتفى بالإفراج عن 600 معتقل ودعوته لحملة السلاح إلى تسليم أنفسهم ولاحقا أفرج عن حوالي 1200 معتقل ودعا إلى قمة طارئة.. وهكذا تعامل النظام مع المبادرة لا كحل جدي بل بمنطق اللعب الدبلوماسية الذكية في مواجهة أنداده العرب من أتباع واشنطن.
لم يلحظ أن البند الأول والذي ترك معوما( البند الأول من المبادرة والذي ترك معوما بمقولة وقف العنف من كل الأطراف دون أن يطلب النظام تحديد الجهات الأخرى وماهو الأسلوب العملي للتعامل مع المسلحين) وهو سيف ذو حدين يغري المتطرفين في النظام ليفسروا كلمة العنف من كل الأطراف ويطلقوها على من أرادوا ويواجهوها كما شاؤوا ، كما ان هذا البند جعل أصدقاء واشنطن من العربان يقفون بموقع القناص لتفسيرات النظام وترجماته لبند المبادرة الأول على الأرض. ترك البند الثاني المشروط بالأول في مهب الريح، فمع قبول النظام لفظيا له كان مجلس اسطنبول يعلن رفضه القطعي لهذا البند، وبذلك تركت الأوضاع لتتطور باتجاه مشاهد الصراع المسلح والذي سيسم المرحلة القادمة بطابعه الدامي المتمرد على كل مبادرات الحل ...
كانت المبادرة ورغم كل العيوب والثغرات بادرة دفعت معنويات السوريين إلى الأمام، إلا أن الواقع ألقى بكل ثقله على أكتاف السوريين، فالسوريون عموما صاروا وبعد كل هذه التطورات أكثر استشعارا لفكرة التدخل الخارجي، والذي ظل النظام ينفيها بناء على التوازنات الإقليمية والتاريخية والتي قد تؤخر أو تطيل في عمره، ولكنها لن تجعل السوريين راضين عن الحد الأدنى من طموحاتهم بالتغيير أو الإصلاح ومن ثم استمرار نهجهم المقاوم..اكتفى النظام بعرض مسيرات مؤيدة ليري العالم مشروعية بقائه وصنيع المؤامرة الإعلامية دون أن يحث خطاه نحو تغيير جذري يجعل واقع السوريين اقرب للمواجهة بدل الصراع الداخلي..
يوحي هذا السلوك بان البعض في النظام كما البعض في المعارضة مقتنعان بان التدخل الخارجي قضية إرادية، فما إن يطلب السوريون التدخل لحماية المدنيين حتى يهب حماة الديار من الرياض والدوحة وواشنطن وباريس، وإذا مارفض الملايين حتى يذعن الغرب لديمقراطية الأكثرية، طبعا ليست الصورة بهذه البساطة لمن يتبنى حقيقة فكرة التدخل الخارجي، فصحيح أن البعض يراها فقط أداة للضغط على نظام أفرط في قمع معارضيه ويعتقد هؤلاء انه بإمكانهم التحكم بشدتها أو شكلها، إلا أن آخرين يرونها أداتهم للعودة إلى السلطة المفتقدة مثلما ان البعض ضاق ذرعا فأرادها وسيلته في الانتقام...
يتدرج المنطق المقابل الرافض قطعيا لفكرة التدخل الخارجي، فالمتطرفون الذين ربطوا مباشرة بين التدخل والاحتجاجات استخدموا هذه الفكرة مبررا للاستمرار في قمع الاحتجاج دون أن يلحظوا أنهم بذلك يكملون سيناريو التدخل الخارجي بالشكل المطلوب. كان الأكثر مكرا وخسة أولئك الذين مثلوا حصان طروادة والذين يقربون الحل المركب إلى أقصى مفاعيله، فسعوا لأخذ سورية من الداخل وهاهم يقربون أخذها من الخارج، هؤلاء مع شركائهم في مجلس اسطنبول هم من يريدون بالتدخل أداتهم لحرف التغيير عن مساره المطلوب فيهربون بذلك من استحقاقات التغيير المنشودة والتي يتفق عليها كل السوريين، فالناهبون والفاسدون الكبار وشركائهم داخل جهاز الدولة وخارجه والذين استخدموا عزة السوريين الرافضة للخارج كوسيلة لقمع الأصوات المتعالية التي تنشد محاسبتهم. هؤلاء كانوا قد قادوا الفصل السابق للمؤامرة عندما فاوضوا الأوروبيين لعشر سنين حول فتح الأسواق لنهب السوريين لمصلحة الغرب وعملائه في الداخل والخارج، فكيف يستقيم الحديث عن المؤامرة ودولة الممانعة دون أن تلحظ الحكومات السابقة وعلى سبيل المثال ان %95 من النفط السوري يسوق في أوروبا، والنفط يشكل %30 من إيرادات الموازنة التي ترتبط يوميا بلقمة السوريين. أولئك ومن يحميهم ومن يشد على أياديهم حتى الآن والذين غابوا عن الحد الأدنى من المحاسبة أو السؤال عن مبررات تغييب كل الاقنية اللازمة لاستشعار الأزمة والمتمثلة بالحريات السياسية والإعلامية التي قد تسمع أنين القاع لدى الشعب السوري..أما البعض الأخر من السوريين فقد شكروا الروس والصينيين لأنهم أطالوا بعمر بلادهم ولو أطالوا بعمر النظام، ألا أنهم مازالوا يتساءلون حول ما آلت إليه مسيرة العنف والعنف المضاد، وحول ذلك الارتباط بين تصريحات واشنطن لمنع تسليم المسلحين لأنفسهم وحديث وائل ميرزا أمين سر مجلس اسطنبول المعارض عن تبنيه لجيش سورية الحر، وعن الاستمرار بمنطق الإقصاء والتطرف ، يجاهد هؤلاء العقلاء اليوم لإدارة الأزمة بدلا من المتطرفين، فالواقع الحالي يظهر فعل التطرف في إدارة الأزمة في كل الجهات(نظام، معارضة، حراك شعبي) فهم يديرون الأزمة والمحصلة تركة ثقيلة على أكتاف كل السوريين بينما بات الحل يستدعي بالضرورة ردع التطرف من كل الجهات..