إعلام الربيع العربي..

إعلام الربيع العربي..

تختلف درجات الإثارة والتشويق اليوم على الشاشات الفضائية، وتتفاوت بدءاً من تقاسيم الصبا المرفقة مع التقارير الإخبارية وصولاً إلى حالات الاستعصاء (الشتم والذم وحتى الضرب...!!) بين ضيوف البرامج السياسية...

 

المذيع والمعد الأفضل هو وباختصار الأقدر على رفع سوية (الأكشن) في نفوس المشاهدين: ينتشي وليد عبود مقدم برنامج بموضوعية والذي يعرض على قناة (ام تي في) اللبنانية بحلم النجومية الذي حققه إثر اشتباك (الكراسي) بين ضيفيه (العتيدين) فايز شكر ومصطفى علوش (ربما نسمع مؤخراً عن رغبة هذه القناة بضم «عبود» إلى جانب زميلته «مايا دياب» لتقديم برنامج «هيك منغني» ليصبح العنوان «هيك منولعها» أولهما للإثارة الفكرية والثاني للإثارة الجنسية ..!

سياسة إغراق المشاهد العربي بمستنقعات التجاذبات والمشادات الإعلامية باتت واضحة, سياسة وإن كانت تعبيراً عن حلم النجومية عند بعض المقدمين الأغرار (وخاصةً اللبنانيين منهم) فهي ليست بهذه السذاجة عند أخيارهم ممن قطعوا هذا الحلم بأشواط مثال مارسيل غانم أو فيصل القاسم (لا يخفى على أحد مساهمة عنوان «الاتجاه المعاكس» برسم الانطباع الأولي لدى المشاهد عما سيحدث من جلبة واقتتال داخل الحلبة لا الاستديو.. الإثارة ليست السبب وليست الهدف، بل هي مجرد غطاء أو بتعبير آخر حماس شكلاني يراد به خلق أو تكريس الاصطفافات الشكلية بين المشاهدين، وخاصة في الفترة الحالية بما تشهده المنطقة من تناقضات أثنية وهمية من شأنها إلهاء الشعوب العربية المنتفضة عن مطالبها المنشودة.. خليط من الإعلام والإعلام المضاد يبث لنا عبر الشاشة الصغيرة مئات البرامج والتقارير والنشرات الإخبارية ليغرد كل منها لحنه الخاص، ولكن بعيداً عن ألحان الفقراء وصرختهم ضد الجوع والتهميش اللذين يشكلان اللبنة الأساسية المشتركة (ولعلها الوحيدة) بين الاحتجاجات والثورات التي تشهدها الساحات العربية - دون استثناء – البرامج الانتخابية لا تعدو كونها برامج (أيديولوجية) مبتعدةً بطروحها عن الهموم الملحة لشعوب الثورات (مجرد أن نسمع بتفوق الأحزاب الإسلامية –على اختلافها –على الأحزاب الليبرالية والعلمانية بعدد المقاعد الانتخابية ندرك أن مصطلحات كالديمقراطية والحرية باتت مجرد شعارات شكلية خالية من أية مضامين من شأنها حتى إبعاد الجماهير عن التمتع بممارسة الديمقراطية الشعبية الحقة).. هكذا نفهم مباركة المفكر القومي عزمي بشارة للحزب السلفي في مصر لفوزه الديمقراطي والناجم على حد تعبيره من التطور الجدلي لهذا الحزب لمجرد أنه (أقبل على الانتخابات البرلمانية الفائتة!؟).. هل أنست الضرورة الملحة للديمقراطية هذا المفكر بأن الديمقراطية الحقة من شأنها إفراز فضاء سياسي جديد (هذا من حيث الشكل على الأقل) وأن الجهوزية العالية التي ساهمت في نجاح هذه الأحزاب في خوضها السريع لمعركة الديمقراطية (ما فتئ عزمي يبارك بها) إنما مردها توافق هذه الأحزاب مع الأنظمة السابقة بكل طروحاتها، بدءاً من سياساتها الاقتصادية الليبرالية وانتهاءً بخياناتها الوطنية (مرحلة السادات مثلت حجر الأساس لهذا التآخي).

تنعكس هذه التناقضات الوهمية بصورة واضحة من خلال المهاترات الإعلامية بين ضيوف البرامج السياسية ذات الطابع الفني، إذ لا اختلاف جوهري بين «الستار» الذي وضع بين «السافرة» هالة سرحان وبين ضيفها من الحزب السلفي في برنامجها «ناس بوك» الذي يعرض على قناة روتانا المصرية، وبين الستار (الأيديولوجي) الذي كرسه الخطاب المضاد لباقي الضيوف (شلة من العلمانيين اليساريين والليبراليين) مبتعدين بدورهم عن شريحة واسعة من أفواه مصر الجائعة.. (أما آن للعلمانيين في المشرق العربي أن يدركوا مدى مساهمة خطابهم السطحي بتكريس حالة التطرف الإسلامي)، كيف لا والكاتب السوري نبيل فياض كان من أول المتبرعين بسيل الشتائم الموجه للمتظاهرين في الأرياف السورية، قاذفاً هؤلاء بأبشع الشتائم والأوصاف.. كيف لا والمخرج السوري نجدت أنزور قد حذر السوريين من الإرهابيين والسلفيين الذين يتدربون في معسكرات (من نسج خياله البوليسي المفرط) على الأراضي السورية. ربما كان من الأجدر عليه مساعدة المخابرات السورية بالإيشاء عن مكان تلك المعسكرات بدلاً من إتحافنا بمسلسله «ما ملكت أيمانكم».. هل سمع نجدت أنزور بالفتوى التي أصدرها الشيخ البوطي في بداية الأحداث في سورية قائلاً (بأن عرض حلقات ما ملكت أيمانكم هي السبب في الغضب الإلهي الذي حل بسورية..؟).

مع كل هذا الضخ الإعلامي تصعب مهمة صون الاحتجاجات والثورات التي تشهدها المنطقة من الانحرافات الخطيرة التي تتعرض لها.. فأين هو الإعلام من التناقضات الحقيقية التي انتفضت من أجلها الشعوب؟ وأين هي القنوات الفضائية من مصطلح «العفوية» والتي ما فتئت تعمد على تشويهه؟.