نقلات نوعية مفترضة في الحراك الشعبي..
بعد رفع شعار إضراب الكرامة، تعالت الأصوات التي تعلي من شأن هذه الخطوة، من حيث هي عودة الحراك الشعبي في سورية إلى منصة السلمية بعد أن طغى إعلامياً وميدانياً صوت الجيش الحر، ودعاة المناطق العازلة، والتدويل... أتى الإضراب ليمثل طوق نجاة تشبث به الكثير من المعارضين السوريين من أصحاب المواقف الحادة أو اللينة ضد التدخل الخارجي والسلاح، حراً كان أم عفوياً أم ثأرياً أم حمائياً أم منهجياً.. فوصل البعض إلى اعتبار أن الإضراب هو خطوة نحو المقاومة الشعبية الثورية، وهو نقلة نوعية في الحراك الشعبي في سورية، وإلى اعتبار أن العقوبات الاقتصادية هي كذلك نقلة نوعية في الواقع السياسي السوري يهدف إلى تغيير الكفة لمصلحة الحراك الشعبي، ويمثل دعماً له، ومن هنا ننطلق في تساؤلاتنا حول مدى نوعية هذه المعطيات وأي كفة ترجح..
الإشكال الأساسي في التعامل مع هذه الخطوات، هو المنطق القديم الجديد الذي يحمل شيئاً من الصحة شكلاً وكثيراً من «الضحالة» مضموناً، وهو انطلاق الجميع من منطق الضغط على النظام السوري والبحث عن أوراق في المواجهة المعلنة معه، واعتبار أن المحدد الرئيسي لنجاح الحراك الشعبي في سورية بالوصول إلى أهدافه هي انطلاقاً من إسقاط النظام، وعليه يتحدد الموقف من كل شيء، المعارضة والمعارضين، روسيا وأميركا، الجامعة العربية التي «تحميني مرة، وتقتلني أخرى»، العقوبات الاقتصادية، وحتى التدخل الخارجي..
المحدد ما بين الضغط على النظام السوري وبين أزمة الحراك الشعبي: نعم لا بد من البحث عن أوراق ضغط على النظام السوري الذي يبدو عصياً، ومستعصياً على السير قدماً بالحل السياسي نتيجة عوامل متعددة أهمها مستوى الفساد الذي يحدد مستوى اللامسؤولية الوطنية، والتي تظهر بالاستمرار بأعمال القمع ومستوى الخروقات العميقة في داخل مؤسسات السلطة التي تتعامل ميدانياً مع الشارع السياسي، أو التي تساهم بزيادة عمق الأزمة الاجتماعية الخدمية، مع هذه المعطيات ومعطيات أخرى أكثر إيلاما، نقول لا بد من الضغط على النظام السوري، لكن تحقيق هذا الضغط يتطلب محدداً آخر لا تستطيع أغلب وجهات النظر الأحادية رؤيته، وهو الاعتراف بأزمة الحراك الشعبي، والانطلاق من منطق تغيير ميزان القوة في سورية لمصلحة الشعب السوري بكل أطيافه، والقائم على ترجيح كفة الحراك الشعبي ليس ميدانياً ولا إعلامياً، وإنما وعياً ونضجاً سياسياً، بحيث يقدر على معرفة مستحقاته التي تعتبر وحدة الشعب السوري أولها، ومواجهة خطر السلاح ثانيها، ومواجهة خطر التدخل الخارجي ثالثها، والتي تمثل ركائز حماية الحراك السلمي. فالموقف من الإضراب والعقوبات على سبيل المثال المنطلق من ضرورة الضغط على النظام السوري، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أولاً إن كان يحقق فعلاً ضغطاً على النظام وبالتالي يساهم بالدفع نحو الحل السياسي أو سحب فتيل العنف، وثانياً وهو الأهم أن لا تكون هذه الخطوات هي عوامل ضاغطة على الحراك الشعبي في سورية ومساهمة في تعميق أزمته، التي يصر الكثيرون على عدم الاعتراف بها، وهو ما يعكس عدم رغبتهم في معالجتها، بالتالي عدم توافق مصالحهم مع تطوير الحراك الشعبي.
ما بين العقوبات الاقتصادية والإضراب
أتت العقوبات الاقتصادية المعلنة والمنفذ بعضها، و المتأخر بعضها، لتركز على قطاع الدولة في سورية وعلى موارد الدولة السورية، بهدف معلن هو الضغط على النظام السوري، وفي إشارة واضحة إلى التماهي ما بين موارد الدولة السورية وبين استخدام النظام لها في عمليات القمع وحماية المتنفذين وإلى ما هنالك..
ركزت العقوبات الاقتصادية على واردات وصادرات قطاع الدولة في سورية، وعلى كبرى شركاته وتحديدا الشركة السورية للنفط، وعلى المصرف التجاري، والبنك المركزي، والتي تؤدي إلى إعاقة وزيادة تكلفة التعامل التجاري السوري مع الدول المشاركة، والسؤال يكمن في البحث عن دور العقوبات في دعم وحماية الحراك الشعبي، أو مساهمة العقوبات بالضغط على النظام السوري، باتجاه الإسقاط المرجو.. إذا ما اعتبرنا أن المطابقة ما بين النظام السوري والدولة السورية هو من حيث حجم النهب الذي تقوم به قوى الفساد من الدولة، أي مستوى تسرب ثروات الشعب السوري إلى جيوب فاسدي السلطة، وهو رقم هام، فإنه وبافتراض حسن النوايا، يعتبر المعاقبون والمؤيدون للعقوبات أن انخفاض إيرادات الدولة سيقلل من إمكانية النهب منها، إلا أنني أود أن أستفسر، ما الذي يضمن ألا تمتد يد النهب مع ضيق إيرادات الدولة، إلى مواضع وثروات أخرى، أي ما الذي يضمن ألا يقوم الفاسدون بتعبئة الجيوب على حساب النفقات العامة مثلاً، وهو مايظهر جلياً في قضية المازوت والغاز، فهناك زيادة لحجم التهريب والنهب في فترة الأزمات، وهناك عدم قدرة على الضبط واضحة، وهناك تعمد لعدم اتباع آليات جذرية لأن وزن الفساد وسطوته لا تسمح، و لأن تضييق موارد الفساد والتي شكلت السمسرة لاستثمارات الخليج والأتراك أحد أبرز وجوهها في الفترة الأخيرة سيدفع نحو الاستقواء على الحصة الموزعة للشعب السوري من ثروته والتي تمثل النفقات العامة للحكومة أبرز وجوهها، بالإضافة إلى الرواتب والأجور.والنتيجة البسيطة هنا أن العقوبات الاقتصادية ستزيد من نهب الناهبين، ومن سيمنعهم؟ فالشعب السوري كما يصور لا يرغب إلا بإسقاط النظام، ويوافق على العقوبات التي فرضت على ثرواته وموارده انطلاقاً من الدمج ما بين الدولة والنظام.
أما الإضراب فلا بد أن الحاجة عميقة لنقل الحراك الشعبي السلمي في سورية إلى خطوات نوعية جديدة، وقد يبدو الإضراب للوهلة الأولى خطوة نوعية سلمية، إلا أنه يبقى بعيداً عن حالة التأثير المطلوبة وتحديداً في ظل الانقسام القائم بالموقف من إسقاط النظام، و السلاح والتدخل، حيث يأتي الإضراب ليزيد الحراك الشعبي السلمي انقساماً، فيركز جميع المتحمسين على شكلية الإضراب باعتباره تكريساً للسلمية دون البحث في مضمونه، ويتجاهل نتائجه السياسية واحتمالات اتساعه، أو الآلية التي قد يضغط بها على النظام السوري، أو يعيق الاتجاه الأمني القمعي المتبع، وتحديدا في ظل إضراب بقيت قطاعات الدولة والعاملين بها خارج إطاره نهائيا، وموضوعة تلقائيا منذ بداية الأزمة في أحد الأطراف الوهمية في الأزمة السورية. ويتجاهل أيضا حقيقة أن الإضراب هو أعلى أشكال الاحتجاج السياسي، وتأثيره يحتاج مستوى عالياً من التنظيم، أو النوعية في الاختيارات، وهو ما تمنعه حالة العزلة التي تقسم كل فئات الشارع السوري عن بعضها البعض، والتي تتجاهلها المعارضة كأزمة حقيقية للحراك الشعبي في سورية، تتركه معزولاً نسبيا عن نقطة قوته الرئيسية وورقة ضغطه الأولى وهي وحدة الشارع السوري، التي تتطلب خطاباً واقعياً سياسياً يناسب موازين القوى وينطلق من محددات أخرى غير الضغط على النظام السوري، كمعيار وحيد يتناسب مع رغبة الحالمين باستبدال سلطة بسلطة، وهم المستفيدون من الإضراب أو غيره من الخطوات التي تبقى فقاعات إعلامية مفرغة من المضمون طالما لا تنطلق من محدد وحدة الشارع السوري، وزيادة وزن الحراك السلمي.
وبهذا فإن الانطلاق من محدد الضغط على النظام، بإغفال أزمة الحراك الشعبي، يؤدي إلى إهمال كثير من المتغيرات النوعية في الحراك الشعبي، والتي تشكل نقاطاً هامة، تساهم بالضغط الحقيقي على النظام، وسحب بعض أوراق قوة الفساد، والتي مثل على سبيل المثال التصعيد الذي شهدته الحركة النقابية في سورية أحد أشكاله في الفترة اللاحقة، فالأزمة الاجتماعية والخدمية تضغط على جميع القوى للتحرك الجدي، وتفتح ملفات الفساد، وتطالب بإقالة بعض رؤوسه، وتهدد بالاعتصام وتضع خطط عمل، وهو ما لا بد أن يلقى صدى مع ازدياد زخمه، وازدياد وضوح الارتباط بين الأزمة الوطنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعمق القناعة بضرورة إسقاط النظام، بشكل جذري، وليس شكلي، وهو ما يتطلب مراحل تأخذ موازين القوى بعين الاعتبار، وتنطلق من نقاط مبدئية أهمها وحدة الشعب السوري حول خطاب جامع، وعزل كل حملة خطاب التطرف والسلاح ودعوة التدخل، والقبول بفرز الشعب السوري واحتمالات الحرب الأهلية واعتباره واقعاً مراً لا بد منه، وهو منطق بعض المعارضة في الإجابة عن رؤيتهم لأزمة الحراك الشعبي..