النموذج والرمز والصراع الإيديولوجي.. «تشافيز» مثالاً

النموذج والرمز والصراع الإيديولوجي.. «تشافيز» مثالاً

للصراع الطبقي مستويات وتعبيرات عدة، أبسطها الاقتصادي، فالسياسي ومن ثم الإيديولوجي الذي يعد من أكثر المستويات تركيباً. المقصود بالإيديولوجية هنا الصياغة الفكرية، الدينية والفلسفية، الفنية والإعلامية..إلخ التي تقدم بها للجمهور المصالح الاقتصادية والسياسية لطبقة ما

تعتبر الرموز الوطنية والإنسانية إحدى الحلبات الأساسية للصراع الإيديولوجي، فكثيرة هي المعارك التي جرت ومازالت تجري حول الشخصيات التاريخية الكبرى، حيث الهدف الحقيقي هو الدفاع أو الهجوم على نظام اقتصادي-اجتماعي وسياسي. وفي هذا السياق مثلاً، يبدو التركيز على إظهار هتلر كشخصية جنونية تعاني من عقد طفولة، تبرئة للنظام الرأسمالي الذي احتضن ورعى نشوء ظاهرة النازية التي عبرت عن تناقضات داخل البيت الرأسمالي ومثلت سياسياً الفئات الأكثر رجعية منها. هكذا تغدو ظاهرة النازية ظاهرة استثنائية، يتحمل مسؤوليتها فرد معقد (أو ربما والد الفرد الذي أفرط بضربه)، وليست مسؤولية منظومة اقتصادية-اجتماعية!!.

«ستالين».. المشروع الكوني البديل

الحملة التاريخية والمستمرة على «ستالين» هي المثال الأسطع للحرب الإيديولوجية عبر مهاجمة رمز من الوزن الثقيل، مثّل سياسياً ولأول مرة مشروعاً كونياً بديلاً، وحقق نجاحاً وفتحاً تاريخياً لا يمكن تخيل أدق التفاصيل الإيجابية لعالمنا التعس دونه. نموذج «ستالين» شكل للمرة الأولى تهديداً وجودياً للمنظومة الرأسمالية. في معركة الرموز، العدو ليس شخص الرمز بحد ذاته، فـ «ستالين» الشخص مات، إنما العدو الحقيقي هو النموذج السياسي والاقتصادي-الاجتماعي، وإحدى أهم أدوات محاربته هو تسويد قائده الذي يعد تكثيفاً ومكافئاً له في عقول الجماهير، كمحاولة لإخفات بريق النموذج وعدم تحوله لمنارة وهدىً. إن كان عصر البناء الاشتراكي بين الحربين قد تم تسويده عبر شيطنة «ستالين»، فإن الحرب على الرمز الثوري «غيفارا» تمت عبر تحويله لشاب وسيم وحالم منفصل عن الواقع، مع تجاهل كل طروحاته السياسية العبقرية التي كانت ناقدة للتوجه الرسمي السوفيتي بعد «ستالين» بالتعايش السلمي مع الرأسمالية.
اليوم وفي منطقتنا تحديداً يصار إلى تصغير نموذج «تشافيز» إلى مجرد معاد لأمريكا و«إسرائيل» ومناصر للمقاومة، ورغم الأهمية النوعية لذلك، إلا أنه يتم تغييب الأركان الأساسية لنموذجه، فالأصل في «تشافيز» ليس مناصرته لقضايانا فهذه نتيجة وفرع. الأصل في «تشافيز» هو النموذج الاقتصادي-الاجتماعي الاشتراكي والسياسي الديمقراطي-الشعبي، الذي أعاد للعداء لأمريكا معناه ووظيفته الحقيقية كممر وحيد وإجباري وغير اختياري لكل من يريد التقدم والعدالة الاجتماعية لشعبه.

«تشافيز».. برنامج اشتراكية القرن الواحد والعشرين

نموذج «تشافيز» هو برنامج تحرر الكادحين والمهمشين، برنامج اشتراكية القرن الواحد والعشرين كما أسماها، وخاض معركة كبرى ضد الفساد والأوليغارشية الفنزويلية، لتكتسب معركته بعداً دولياً، إذ كانت الولايات المتحدة تعي بأن نجاحه في معركته ضد السياسات الاقتصادية الليبرالية سيحول فنزويلا إلى نموذج ومنارة، فعدا عن المحاولات الإنقلابية الفاشلة والحملات الإعلامية الدولية التي عملت على إظهاره كـ«قامع للحريات ودكتاتور» وما إلى ذلك من السيمفونية المعهودة، غدت فنزويلا البلد رقم واحد دولياً من حيث عدد الدعاوى القضائية الاقتصادية المرفوعة ضده من الشركات العابرة للقارات وبلدانها في محاكم منظمة التجارة الدولية وسواها. في الوقت نفسه كانت، ومازالت، أنظمة منطقتنا الصديقة لـ«تشافيز» تهرول للانضمام لمنظمة التجارة العالمية، عاملة على سحب الدور الاجتماعي للدولة من الاقتصاد، ومغرقة في الخصخصة والتحرير التجاري والمالي إغراءً للشركات نفسها العابرة للقارات التي تقاضي «الناصر» تشافيز!!
نموذج هذا الرمز الكبير، هو النظام السياسي الديمقراطي الشعبي الذي كان ضمانة تفعيل طاقات جماهير العشوائيات والفلاحين في الصراع اليومي مع الفساد ورأس المال وفي بناء الاشتراكية، ليغدو الحي والقرية والتعاونية أصحاب قرار اقتصادي واجتماعي وتعمل على إطلاق الإنتاج وبناء نظام رعايتها الصحي المحلي وتقدم الدولة لها كل مستلزمات ذلك.

القائد الاشتراكي..ابن الشعب

كقائد اشتراكي ماركسي كان «تشافيز» يعي أن المعركة ضد الفساد والأوليغارشية لا يمكن حسمها بيروقراطياً في الغرف المغلقة. فيتميز نموذجه بالإدارة المجددة للعديد من مستويات المعركة الإيديولوجية، ومن أهم تعبيراتها هو تقديمه لنموذج القائد الفعلي ابن الشعب على النقيض من نموذج الرئيس البيروقراطي الذي يطل على شعبه بالمناسبات ليلقي عليهم كلاماً صاغه المستشارون و«الخبراء» وزانوا كلماته بميزان «ذهب». كان القائد الذي يطل على شعبه بشكل شبه يومي، بالإضافة لبرنامجه الأسبوعي «ألو بريسدنت» الذي كان يبث من مواقع مختلفة، من ضمنها مواقع إنتاجية، حيث يأتي ليطلع على سير العمل بناء على طلب من الجمهور ليناقش مع القائمين على المشروع والعاملين فيه المشاكل التي تواجههم ويوبخ البيروقراطيين والفاسدين على الهواء مباشرة، ويقوم على تكوين رؤية لحل المشاكل بشكل تفاعلي، كل ذلك على الهواء مباشرة، ودون مونتاج طبعاً.
 كان هذا الزعيم الاشتراكي يبث مباشرة اجتماعاته مع حكومته والمواطنين لمعالجة مشاكل معينة ودون أي إخراج. على سبيل المثال أعلنت الحكومة الاشتراكية عملية لبناء المساكن تكلفتها 30 مليار بيزو بوليفاري (ما يقارب 7 مليار دولار) وأعلنها تشافيز على الهواء مباشرة قائلاً: «أيتها البنوك الخاصة، جهزوا أنفسكم، سأخرج من جيوبكم 15 مليار بيزو على شكل قروض ميسرة بشروط الحكومة البوليفارية وليس بشروط مافيات النهب». أعلنت البنوك الخاصة التي تسيطر على 72٪ من النظام المصرفي موافقتها حينها ولكن عند التنفيذ كانت تتهرب وتعرقل. وفي اجتماع بث مباشرة لتقييم تقدم عملية الإسكان، عرضت إحدى المواطنات معاناتها مع البنوك الخاصة الكبرى، فما كان من تشافيز إلا وأن طلب التكلم مع رئيس البنك على الهواء مباشرة ليوبخه أمام جمهور المفقرين ويهدده بتأميم البنك باسم الدستور الفنزويلي الذي يلزمه بتأمين مسكن لجميع الفنزويليين، إذا لم يغير من أدائه، وانتزع منه موعداً باليوم نفس مع المواطنة المعنية وطلب من الوزير المعني بمرافقتها. لاحقاً طبعا قامت الحكومة بإجبار البنوك الخاصة بصرف الـ 15 مليار بيزو إلى صندوق تديره الدولة لتقوم هي بنفسها بتحويل الأموال للمواطنين. هكذا أدار تشافيز المعركة بشكل مفتوح وأمام الجميع مع عصابة رأس المال التي لم تتوان عن اتهامه غيظاً بأنه «دكتاتور احتكر برامج التلفاز لنفسه».

الرئيس.. نقيضاً للبيروقراطية

لم يتوان «تشافيز» في كل مناسبة عن تحطيم صورة الرئيس البليدة كشخص فوق بشري وفوق طبيعي والتي صاغها رأس المال على صورته وصيغت ببروتوكلات يتدرب عليها كل الدبلوماسيين. ففي إحدى إطلالاته عبر برنامج «الو بريسدنت» حدث الرجل الجمهور، خلال ما يزيد عن خمس دقائق، عن زيارته لأحد المواقع وكيف أنه كان بأمس الحاجة لقضاء حاجته، لكن الإعلام كان ينتظره ولم يستطع الإفلات منه وحاجته تضغط عليه أكثر. كانت رسالته واضحة وبسيطة: «تشافيز يذهب إلى الحمام لقضاء حاجته أيضاً، تشافيز مثلكم، تشافيز إنسان، ليكرس الشعب المنظم قائداً وليرفع ثقته بقواه». هذا فضلاً عن غنائه و مراقصته للناس بشكل دائم وعفوي، دون تحضيرات وفرق خبراء تزن كل حركة من حركاته. وفي إحدى كلماته التي كان يؤكد فيها على «ضرورة الوحدة بين الشعب والجيش بين المدنيين والعسكريين وأن يكون العسكر في خدمة الشعب وليس في خدمة البرجوازية كما جعلت الأولغارشية من الجيش سابقا»، ابتسم لطفلة موجودة بجواره، فسارعت لتعاتبه قائلة:«أنت لم تأت لتزورنا في لغوارا».. فسألها تشافيز: ما اسمك ما عمرك؟ فأجابته: اسمي غوز، أما عمري فالبارحة كان 11 عاماً. فقال لها: إذا اليوم عيد ميلادك ولم ينتظر جوابها ليغني لها أغنية «عيد ميلاد سعيد» كاملة مع الجمهور. لم تفارق الرئيس/الإنسان عادة الغناء حتى في أصعب اللحظات، ففي إطلالته الأخيرة قبل رحلته العلاجية إلى كوبا، ودع الفنزويليين بأغنية وطنية من التراث. إن نموذج «تشافيز» هو نموذج إدارة معركة الرموز والإشارات بحذاقة عالية جعل البعض يتحدث عن المدرسة «التشافيزية» بالأداء، التي أصبحت اليوم موضع دراسة وتدريس.
إن نموذج «تشافيز» يتعرف بهويته الاشتراكية وبنهج بنائها من «تحت لفوق»، نهج جعل من العداء لأمريكا مكافئاً للحصول على مسكن وعمل وقطعة أرض ورعاية صحية وتعليم مجاني في أذهان الغالبية الفنزويلية المحرومة. لا يمكن تلخيص هذه التجربة بمقالة واحدة، لكن المؤكد أن قصرها إلى مجرد كون تشافز م(ناصر) لقضايانا فيه الكثير، إما من الخبث أو السذاجة. وما يستحق عناء البحث والتفكير العلمي بعيداً عن التشنجات والمزاودات هو لماذا لم تنتج منطقتنا حتى اليوم نظير تشافيز؟! لماذا أقصى «اليسار» على صعيد الأنظمة لم يتجاوز الممانعة إلى المقاومة ولم يكن يوماً اشتراكياً بل العكس فحصدنا ما نحصده؟!