جهاز الدولة و «الحل» السياسي حول مذكرة «هيئة التنسيق»

جهاز الدولة و «الحل» السياسي حول مذكرة «هيئة التنسيق»

خاضت بعض قوى المعارضة الوطنية السورية صراعاً شديداً ضد النزعة السائدة، في أغلب تحليلات القوى السياسية السورية، للخلط ما بين مفهومَي جهاز الدولة والنظام السياسي

ولم يكن هذا الصراع من قبيل الترف الفكري أو الإيديولوجي. بل إنه في الجوهر، وبشكلٍ ملموس اليوم، صراعٌ ما بين القوى التي تحمل رؤية ومشروعاً ثورياً يسعى للتغيير الجذري والشامل، وبين القوى المتضررة من هكذا تغيير

يشتمل مفهوم جهاز الدولة السورية على مجموع المؤسسات المكوِّنة له، وهي المؤسسات التي بناها السوريون بجهدهم، ودُفِع ثمنها نضالاً خاضه السوريون على مدار عقودٍ، وربما قرونٍ، من الزمن. بينما يقتصر مفهوم النظام السياسي على القوة السياسية التي تقوم بتوجيه إدارة مؤسسات جهاز الدولة، سواءً كانت هذه القوة أحادية أم ائتلافاً حاكماً. وبناءً على ما سبق، يُبنى الموقف السياسي اتجاه هذا النظام أو ذاك، من خلال الطريقة التي يدير بها مؤسسات جهاز الدولة، ويصبح الخلط بينهما هو تعبيرٌ عن إحدى حالتين، إما أن القوة السياسية التي تقوم بالخلط تعاني من قصور معرفي راسخ، أو أن الخلط هذا، بما يحمله من نتائج كارثية على جهاز الدولة، يخدم مشروعها ومصالحها السياسية.
اليوم، ومع قبول جزء واسع من القوى السياسية، بالانعطاف باتجاه الحل السياسي، تزداد النزعة الواضحة لدى بعضها لتحميل جهاز الدولة مسؤولية الأزمة السورية، وأكثر من ذلك، لجعله كبش المحرقة الذي يدفع ثمن «الحلول التوافقية» التي تريدها بديلاً عن الحل السياسي الحقيقي.
قدّمت «هيئة التنسيق الوطنية»، في سياق تحضيرها للمؤتمر الدولي المزمع عقده في جنيف، ما سمته «مذكرة تنفيذية لرؤية هيئة التنسيق للحل السياسي في جنيف2»، وعلى سبيل الاستدلال بأمثلة عن الطريقة التي يستهدف فيها جهاز الدولة عبر تقزيم الحل السياسي، سنكتفي بعرض إشكاليتين اثنتين وردتا في «مذكرة ورؤية الهيئة».
الجيش السوري.. أولُ المضحَّى بهم
لا بد في البداية من الإشارة إلى أن المؤسسة العسكرية هي واحدةٌ من مؤسسات جهاز الدولة، وتكتسي هذه المؤسسة أهمية بالغة في المجتمع السوري من حيث بنيته المعبرة عن الوحدة الوطنية، ودوره في بلد له أرض محتلة منذ عقود...وعلى هذا الأساس، يمكن القول أن تجاوزات بعض الأجهزة الأمنية و«اللجان الشعبية»، كانت إحدى الممارسات التي لعبت دوراً في تشويه صورة ودور المؤسسة العسكرية، عدا عن المحاولات الساعية إلى إنهاكه عبر استهدافه عسكرياً، من قبل الارهاب المسلح.
وفي إطار «معالجتها» لهذا الموضوع، طالبت «الهيئة» في مذكرتها بما يلي: «قد يكون من المناسب البدء بعملية عودة الجيش إلى ثكناته، بأسرع وقت ممكن، وتجميع قوات المجموعات المعارضة المسلحة في معسكراتٍ خاصة خارج الأماكن السكنية، ريثما يتم الاتفاق على إعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية».
ليس كلاماً عابراً أن تتم المطالبة بإعادة هيكلة الجيش، لاسيما أن الترجمة الفعلية لتجارب إعادة هيكلة الجيوش في البلاد التي شهدت حروباً وتوترات، لم تكن تعني في الواقع سوى عملية تفكيك منظمة للمؤسسة الأكثر تصدياً للمشاريع التفتيتية والتقسيمية. تجربة العراق وحدها تكفي، فالجيش العراقي الذي كان متقدماً، من حيث القدرة والعدد، بات اليوم، وبعد «إعادة هيكلته»، بين أكثر عشرة جيوش تفككاً في العالم.
فبدلاً عن المطالبة بتحديد صلاحيات الأجهزة الأمنية، حتى إعادة هيكلتها، وتكليف الجيش مؤقتاً بمهمة حماية السلم الأهلي، بالتوازي مع نزع كل سلاح خارج إطار المؤسسة العسكرية، ذهبت «الهيئة» إلى وضع الجيش السوري والأجهزة الأمنية في نفس الخانة. وكعادتها في جمع المتناقضات داخل الخطاب الواحد، أدرجت في نهاية مذكرتها بند: «الجيش السوري هو المؤسسة الوطنية التي تحمي البلاد، وتصون استقلالها وسيادتها على أراضيها..»، ولكن علينا «إعادة هيكلتها/ تفكيكها»!
إذا كانت الخطوة الأولى من محاولات إضعاف المؤسسة العسكرية متمثلة في إغراق البلاد بالسلاح والمسلحين، والخطوة الثانية متجسدة في تشويه صورة الجيش الوطني، عبر فتح الباب للمزيد من تجاوزات الأجهزة الأمنية و«اللجان الشعبية» ومثيلاتها، فإن الخطوة الثالثة المكملة هي استثمار الحل السياسي لإنتاج توافقات تُفضي إلى تقويض المؤسسة العسكرية. ولعلّ ذلك يفتح الطريق لشكل صراعٍ حقيقي ما بين «منهوبون وطنيون إلى جانبهم مؤسستهم الوطنية ـ ناهبون لاوطنيون مع من يسعى لتفكيك المؤسسة العسكرية»..
ممنوع السلاح في المرحلة الانتقالية!
في مذكرتها، وتحت عنوان «إجراءات دولية ذات أولوية» تدعو الهيئة في البند الرابع إلى: «على مجلس الأمن أن يصدر قراراً بحظر توريد السلاح لجميع الأطراف، خلال المرحلة الانتقالية، على أن يرفع هذا الحظر عن الدولة السورية فوراً، في نهاية المرحلة الانتقالية، وقيام سلطات دستورية منتخبة». أي أن «الهيئة» تقول: علينا الانتظار حتى الانتهاء من إعادة الإعمار والمصالحة الوطنية وإجراء انتخابات عامة، محلية وتشريعية ورئاسية، ليتم بعد كل ذلك السماح للدولة السورية باستيراد الأسلحة. ولا مانع خلال المرحلة الانتقالية من «إنشاء جهاز شرطة فعال، بعدد وعدة كافيين لفرض احترام القانون»!
تتجسد أهم الأخطاء الكارثية فيما سبق، (1) باعتبار الدولة السورية طرفاً، كباقي الأطراف المتصارعة، (2) على جهازها أن يدفع ثمن «التفاوض السياسي ما بين النظام والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني» بأن يترك دون تسليح (3)حتى انتهاء مرحلة انتقالية لا يستطيع أحد أن يقدر وقت انتهاءها.
القائد يصنع الجماهير.. أصل البلية!
إذا كانت أزمة جهاز الدولة السورية تتجلى في النفوذ الواسع لقوى الفساد الكبير في داخله، فإن أولى الخطوات التي يجب على المعارضة الحقيقية اتخاذها هي البحث عن سبل زعزعة هذا النفوذ ومجابهته من جهة، والعمل على إحداث التغيير الجذري والشامل في بنية جهاز الدولة بما يخدم الأكثرية المهمَّشة، ويعزز الدور الوطني والإقليمي لسورية من جهة أخرى.
وعلى النقيض تماماً، فإن العديد من القوى السياسية السورية «المعارضة»، قد ماثلت «الحزب القائد سابقاً» من حيث العقلية السائدة في الفضاء السياسي القديم، وخصوصاً من زاوية اعتبار السيطرة على جهاز الدولة هدفاً يؤمن بحد ذاته السيطرة على الجماهير وكسبها بالجملة. ما قد يعوضها عن حجم تمثيلها السياسي المتدني، وفقدان رافعتها الشعبية. ومع استعصاء السيطرة على جهاز الدولة دون نضال هائل لذلك، رأت بعض القوى أنه لا مانع من «كسر البيضة من الخارج»، عبر المطالبة بالتدخل العسكري المباشر كما هو حال «الائتلاف» والتموضع في الموقع غير الوطني، وقوى أخرى على التعويل على التدخل غير المباشر، لكسر مقاومة جهاز الدولة وإخضاعه لسلطتها من خلال المطالبة، بـ «إعادة هيكلة الجيش» «مذكرة هيئة التنسيق» لتكشف هذي الاخيرة بذلك عن قصور معرفي في فهم طبيعة المرحلة التي تمر بها سورية، ودور القوى المختلفة...
وهنا يصبح منطق الصراعات الثانوية أكثر وضوحاً، حيث أن الدفاع عن الدولة السورية ودورها الإقليمي وبناءها على أساس انحيازها التام نحو الأكثرية الطبقية المسحوقة، بات مرهوناً في وحدة الصف الوطني، المهمَّشون الوطنيون ممن لهم المصلحة في تقوية جهاز الدولة بما فيه المؤسسة العسكرية، في المعسكر المعادي لتحالف الفاسدين الكبار، من غير الوطنيين التواقين إلى شلّ قدرة المجتمع السوري على بناء دولته القوية، ومنع قيام جهاز دولة يخرج في بنيته عن النمط العراقي أو اللبناني، نمط التحاصص وتقاسم المغانم.