«الجبهة الشعبية» في عامها الثاني مناضلةٌ على يسار «المتحاربين»
لم تكن قد مضت شهورٌ أربعة على انفجار عوامل الأزمة العميقة التي عانت، ولم تزل تعاني، منها البلاد، عندما أُعلن عن ولادة التحالف الجديد الذي شهدته الساحة السياسية السورية.
جديدُ هذا التحالف يبدأ من الاسم، حيث أن فهم الترابط الوثيق ما بين النضال في سبيل التغيير السياسي المنشود، والكفاح لتحرير الأراضي العربية المغتصبة، كان عصياً عن متناول كلّ القوى السياسية الموجودة، وغير الموجودة، على الأرض، إلا أنه لم يكن كذلك على «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير». في الشكل، لم تعلن الجبهة عن نفسها في أحد الفنادق الفاخرة بدمشق، بل اختارت الشارع، ومن أمام قلعة دمشق وتمثال صلاح الدين الأيوبي بالتحديد، سبيلاً لذلك. فكيف كانت مسيرتها خلال عامين مضيا على التأسيس؟ وهي على أعتاب مؤتمرها الثاني.
منذ أن انطلقت، قوبلت سياسة الجبهة الشعبية بنصيبٍ وافرٍ من تأييد البعض ورفض البعض الآخر. شهدت مسيرتها تقارباتٍ مع بعض الفصائل السياسية، وخلافات مع بعضها الآخر. اليوم، ومع زوال جزء كبير من الغباش والغموض الذي كان يلتبس المشهد السوري العام، تبدو الأداة الأنجع لتقييم سياسة وأداء الجبهة منذ تأسيسها متمثلة في مراجعة أطروحاتها على ضوء آخر ما توصلت إليه تجربة الحرب السورية من نتائج.
رؤية استباقية لثوابت اليوم
رفضت الجبهة أن تمتثل، في تحليلها السياسي، لما كان شائعاً حتى الأمس القريب من محاولات لترسيخ الصراع الوهمي في سورية. هذه المحاولات التي تراوحت ما بين الترويج لثنائية «موالٍ - معارض» تارة، أو تغذية الصراعات والفوالق بين مكونات ما قبل الدولة الوطنية، كالطائفية والعشائرية والقومية تارةً أخرى. حيث حددت الجبهة، المكونة من أقدم حزبين عابرين للطوائف في التاريخ السياسي السوري، شكل الصراع الأساسي الذي تراه صراعاً ما بين أقلية ناهبة تتمثل بـ 10% ينهبون 80% من موارد سورية، وأكثرية منهوبة تتجسد بـ 90% لا يحصلون على أكثر من 20% من الثروة الوطنية. انطلاقاً من هنا بالضبط، صارعت الجبهة كل المحاولات الرامية إلى زيادة الشرخ في صفوف الـ 90%.
في السياسة، قرأت الجبهة باكراً واقع التوازن الدولي الصفري، الذي رسم بدايةً للأفول العلني لنجم الولايات المتحدة الأمريكية عالمياً، وخلصت، إثر ذلك، إلى استنتاجين رئيسيين. أولهما، وهو ابتعاد خطر التدخل العسكري الخارجي المباشر، وبالتالي انتهاء مهمة التكوينات السياسية التي شكِّلت لاستجلابه. وثانيهما، هو استحالة الحسم العسكري في الداخل، الذي اتخذه كلا الطرفين هدفاً لهما في الصراع. ومن هذه الرؤية دعت الجبهة إلى الحوار والحل السياسي، في اللحظة التي كان فيها مجرد النطق بهذه الدعوات بمثابة الكفر عند الأطراف المتصارعة، وفي اللحظة التي كان فيها طرفا التشدد يعملان على شد عصب أنصارهما، فخالفت بذلك المزاج الشعبي المؤقت السائد، في حينه. ومع تطور الأوضاع على الأرض، واقتناع الأكثرية، تدريجياً، بضرورة الحوار والحل السياسي، تتبين صحة الرؤية الاستشرافية للجبهة.
أزمة الائتلاف الحكومي
كانت إحدى ثمرات ضغط الحراك الشعبي السلمي في سورية، أن تم صياغة دستور جديد للبلاد، يضع حداً، في مادته الثامنة الجديدة، للأحادية الحزبية وحقبة «الحزب القائد للدولة والمجتمع»، ويكرس فيها مبدأ التعددية السياسية. إلا أنه كان لا بد من ترجمة فعلية على الساحة السياسية الداخلية لهذا الإنجاز، حيث أن الواجب الوطني كان يحتم على كل القوى السياسية ألا تترك منجزات الحراك الشعبي نهباً لمن تضرر من جرائها.
على هذا الأساس، وجدت الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير أنه من الواجب استكمال النضال على الجبهة الداخلية لجهاز الدولة، وأن تشارك في الائتلاف الحكومي، وفقاً لاشتراطاتها البرنامجية. وعليه بدأ صراعها على مستويين اثنين، الأول ضد قوى الفساد والتسلط المتضررة من وجود قوة سياسية تخالفها، من حيث البرنامج السياسي، في جهاز الدولة. والثاني هو الصراع المكرر والرتيب مع القوى التي كانت تخشى على نفسها من الخوض في وحل مخالفة المزاج الشعبي المؤقت، والتي كانت لا تنفك تهاجم الجبهة بمقولة: «ما دمتم قد دخلتم إلى الحكومة فقد تحولتم إلى جزء من النظام... إلخ». اليوم، لم ينفض غبار المعركة على الصعيد الأول، ضد قوى الفساد، وما زال يأخذ طابعه التصاعدي شيئاً فشيئاً. أما على الصعيد الثاني، فقد أثبتت تجربة الجبهة الشعبية صحتها، حتى باتت بعض القوى السياسية التي كانت تهاجمها مضطرة للاعتراف بـ «اجتهاد الجبهة حين دخلت الائتلاف الحكومي، وتأثيرها في أداء السلطة السياسية»، ومع ذلك لم تزل الجبهة تردد أنه لو لم تخف بعض قوى المعارضة على نفسها، وشاركت في العملية السياسية، لكانت الانجازات أكبر..
ثوابت الخط السياسي.. وتقلبات الغير
رفعت الجبهة جملة من الأهداف البرنامجية في مؤتمرها الأول، المقام في 29/10/2011. وهذه الأهداف، التي تحولت إلى معبر عن جوهر رؤيتها السياسية، لم تبق جامدة، إذ حكمها منطق التطور الطبيعي للبرنامج، وفقاً للمتغيرات الموضوعية على الأرض. وحيث فهمت الجبهة حدود الثابت والمتغير في برنامجها، عانت باقي القوى السياسية السورية من انفصام عميق بين مواقفها السابقة وما أجبرها الواقع الموضوعي، الذي لم تدرك حقيقته وتتنبأ بحركته اللاحقة، على الاقتناع به.
ولنأخذ الصعيد الاقتصادي ـ الاجتماعي نموذجاً، فقد حددت الجبهة مطالبها بأهداف عدة، فقالت بإعادة توزيع الثروة بشكل عادل، ولمصلحة الفقراء والمهمشين. وصياغة نموذج اقتصادي جديد، يقطع نهائياً مع النهج الليبرالي السائد، ويهدف إلى تحقيق «أعلى نسبة نمو اقتصادي، وأعمق عدالة اجتماعية». والعمل على وضع خطط تنموية شاملة تساهم بإنجاز التطور المتوازن في مناطق سورية، وتأمين فرص العمل، وتطوير البنية التحتية، وحماية الصناعة الوطنية، والحفاظ على القطاع العام، ورعاية أصحاب الحرف والمهن اليدوية، وحل أزمة الأجور .....إلخ.
ولا داعي هنا إلى التذكير بما كانت عليه مطالب كل القوى السياسية في حينه، وبعضها حتى اليوم، في الدفاع عن الليبرالية والنهج السائد في حينه من طرف، واللعب على أوجاع السوريين والموافقة على الحصار الاقتصادي الغربي الجائر، والتهليل له. ولا يزال الصعيد الاقتصادي الاجتماعي غيضاً من فيض، أمام واقع الحال على الجبهات الأخرى..
الحل السياسي.. المعركة الأحمى وطيساً
ليس الذهاب إلى جنيف2، بكل التعنت الذي تبديه القوى السياسية الساعية بهدف كسب الوقت المرتبط بتجميع أكبر عدد من أوراق الضغط اللازمة في المؤتمر الدولي المزمع عقده، سوى إحدى الإرهاصات التي تؤكد على صحة الطرح القائل منذ البداية بأن الحل السياسي معركة أشد وطأة من تلك العسكرية. وقد بات البعض يروج اليوم لما مفاده أن مجرد جلوس الجميع على طاولة الحوار هو الغاية القصوى التي يمكن تحقيقها، ويتعامل بالتالي مع الحوار على أنه غاية بحد ذاته، وليس وسيلة لإنجاز التغيير الحقيقي في المجتمع..
وهنا سيبرز دور الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير، في المعركة التي لطالما آمنت الجبهة بأنها ستكون صراعاً أشد من الصراع العسكري الدائر على الأرض، حيث سيخاض الصراع مع القوى السياسية الساعية إلى تقزيم الحوار، وشده إلى منطق «الخطة ب»، الرامي إلى تحقيق الأهداف التفتيتية ذاتها، ولكن هذه المرة بالأداة التوافقية ما بين ناهبي الطرفين، إذ ستقاتل الجبهة على يسار الطرفين المتصارعين شكلاً، والمتفقين في الجوهر على منهوبي ومهمَّشي سورية.