العدالة بشكلها الملموس..
يتصدّر شعار «العدالة الاجتماعية» معظم البرامج السياسية للأحزاب في العالم, وذلك بسبب أولوية القضية الاقتصاديّة- الاجتماعية، وحضورها اليومي في حياة الناس، فقد أصبح من غير الممكن تحييده أو إخفاؤه حتى من القوى التي تمارس الظلم الاجتماعي.
فلماذا يجري تبنّيه من قوى ذات مصالح طبقية متناقضة؟ وكيف تتعامل هذه القوى مع مضمون هذا الشعار من حيث الممارسة؟
إن مضمون شعار العدالة الاجتماعية يعني إعادة توزيع الثروة، بين أصحاب الأجور من جهة، وأصحاب الأرباح من جهة أخرى، وبعبارة أخرى: بين أرباب العمل، والمنتجين الحقيقيين, وعلى هذا الأساس ينبغي التحقّق من نوايا القوى السياسية المختلفة التي تتبنى هذا الشعار، وماهية الطريقة التي تصل عبرها إلى تحقيقه..
إن تجارب منطقتنا عموماً، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، لم تكن مبشّرة، بدخول الليبرلية الاقتصادية إليها بشكلها الفج، المتحررة من أيّة قيود، التي زادت من التفاوت الطبقي في مجتمعاتنا، من خلال توزيع غير عادل للثروة. وفوق هذا كانت تلجأ كذلك إلى تزيين هذا النموذج المجحف بكلمة «عدالة»، المعلقة في الهواء، دون أية أداة، كـ«العدالة والتنمية» في تركيا نموذجاً..
ودخل نهج «العدالة» ذاك إلى سورية، التي عرفت حتى نهاية الثمانينيات دوراً تدخلياً قوياً للدولة في مفاصل الاقتصاد الأساسية, حيث أخرت العقوبات الاقتصادية في الثمانينيات من جهة، واستمرار دور الدولة القوي، بحكم العطالة، لاحقاً من جهة أخرى، دخول الاقتصاد السوري في نفق الليبرالية، والذي بدأ فعليّاً مع قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991، مروراً بقانون العاملين رقم 17 لعام 2004، واستمر تقدم هذا النهج حتى ظهر جلياً معلناً عن نفسه مع الخطة الخمسية العاشرة، التي أظهرت الوجه الحقيقي لليبرالية تحت شعار «دع الأغنياء يغتنون فهم قاطرة النمو»..
أمّا عن نتائج هذه السياسات الاقتصادية الليبرالية تلك فكانت: 44% من السوريين تحت خط الفقر، 22% بطالة - والأرقام حكومية.
وعن توزيع الثروة أثناء هذه الفترة:
80% من الثروة تذهب لأصحاب الأرباح الذين لا يتجاوزون10% من السكان, و20% تذهب لأصحاب الأجور الذين يتجاوزون 90%، من السكان.
إن الأرقام السابقة ليست سوى مؤشرات قليلة عن مدى التفاوت الطبقي الذي أصاب المجتمع، والذي كان سبباً موضوعياً للانفجار الذي شهدته البلاد منذ عامين ونصف.
وفي ظرف اليوم، الذي تبرز فيه تحولات كبرى على مستوى العالم، ومنطقتنا على وجه الخصوص، وكون سورية أصبحت على مفترق طرق حقيقي، سيرسم ملامحها المستقبلية لوقت ليس بالقصير، أصبح من الضروري صياغة نموذج اقتصادي جديد، يقطع نهائياً مع الليبرالية الاقتصادية، كنظرية مستوردة في مرحلة تراجع الرأسمالية العالمية تحت وقع أزماتها, والاستفادة من تجربة الاشتراكية التاريخية في العالم، آخذين بعين الاعتبار الظروف المعاصرة للوصول إلى تحقيق هدف «أعمق عدالة اجتماعية وأعلى نمو اقتصادي».
بمعنى أن النمو اللاحق والمنشود يتطلب إعادة توزيع الثروة بالضرورة لمصلحة القوى المنتجة, وعليه وبالملموس تصبح المهمة في سورية إعادة التوازن بين الأجور والأرباح لتصبح: «50% أصحاب أجور, 50% أًصحاب أرباح» وذلك كخطوة أولى, ضمن برنامج زمني «5-7»سنوات بدور قوي ومرن للدولة، وبأعلى درجات الرقابة الشعبية الحقيقية...
إن النموذج المطلوب، العادل اجتماعياً والذي يكون في مصلحة الكادحين، هو النموذج الذي دونه لا يمكن السير في مشروع المقاومة والتحرير للأراضي المحتلة, فضمان حرية المواطن ولقمة عيشه هو عماد أي مشروع وطني حقيقي لسورية المستقبل..