الفاشية تعيد نفسها.. كمهزلة
الفاشية أكثر أشكال حكم رأس المال المالي رجعية، صنعته الإمبريالية في ألمانيا وإيطاليا واليابان من أجل محاربة الاتحاد السوفييتي الذي استطاع أن يدحر ذلك الوحش قبل أن يطيح بالحضارة البشرية. ذلك الخيار «الفرانكنشتايني» الذي لجأت إليه الرأسمالية في القرن العشرين، يبدو أنها تعود إليه مجدداً في القرن الواحد والعشرين لتدعمه في شكل جديد.
«الإسلام السياسي».. كفاشية جديدة
إنّ «الإسلام السياسي» بمعناه المعاصر يشتمل على جناحين، «متطرف»، يمثله التكفيريون على نهج «القاعدة» ومشتقاتها، و«معتدل» يمثله بشكل رئيسي التنظيم العالمي «الإخوان المسلمين». وتكتيك الإرهاب الذي رسمته الولايات المتحدة الأمريكية لعمل جناحي هذه الفاشية الجديدة، هو أن تغذي «المتطرف» منهما مالياً وعسكرياً وفكرياً بحيث تعدّه ليكون ذلك الرأس المتقدم والمتفجّر لاختراق جسد المجتمعات والدول المستهدفة، التي تتلقى صعقة أولى قوية إذ ترى نموذجاً شديد السوء لـ «بديل» عن الأنظمة السياسية الحاكمة، وتحت ضغط الحاجة الملحة للمجتمع إلى تغيير تلك الأنظمة، التي لم تعد تلبّي الحد الأدنى المطلوب لاستمرار استقرار المجتمع وتطوره، تستغل الإمبريالية حالة المطرقة والسندان التي حشرت بها المجتمع لتفرض عليه خياراً «ثالثاً» كبديل وهمي للتغيير، ألا وهو الجناح «المعتدل» من الإسلام السياسي. وبهذه الخطة تسعى الإمبريالية إلى ضمان عدم تغيير جوهر أنظمة الحكم الرأسمالية الطرفية التابعة للمركز الإمبريالي، كون برنامج الإسلام السياسي «المعتدل» مطابقاً لمصالح المركز ولرأس المال العالمي ولاسيما المالي منه، ومنفذاً أميناً لسياساته الليبرالية الجديدة، ولنا مؤخراً في «الإخوان المسلمين» المصريين مثالاً نموذجياً واضحاً لا لبس فيه، حول كيفية تطبيقهم لبرنامجهم، الذي لم يكونوا يعلنون عنه، عندما استولوا على السلطة.
التحالف الجديد ضد الفاشية
في «ما هي الفاشية؟» لبينيتو موسوليني 1932، بعض العبارات اللافتة، إذ يكتب: «الفاشية هي النقيض التام للاشتراكية الماركسية..»، في تصريح عن الغاية الرئيسية التي من أجلها صنعت الإمبريالية ذلك الوحش، «فقط الحرب هي التي تدفع بكل الطاقة البشرية إلى حدودها القصوى وتطبع بصمة النبالة على الشعوب التي تتجاسر على ملاقاتها..»، ولكن أية حرب هي التي تعمل الفاشية على إشعالها وتعتبرها «نبيلة»؟.. يجيب موسوليني: «الفاشية تنكر أنّ الحرب الطبقية يمكن أن تكون القوة الغالبة في تحويل المجتمع..».
إذاً ليست حروب «التحرر الوطني»، أو الصراع الطبقي الثوري، هي النمط المحبب للفاشية طبعاً، بل العكس تماماً، إذ تسعى الفاشية جهدها إلى تسعير التناقضات الثانوية داخل المجتمع البشري، كما فعلت في القرن العشرين في أوروبا بتسعير شكل مناسب لذلك المجتمع وخصوصيته وهو شكل التناقض القومي العرقي واصطفاء العرق الآري «المقدس»، كذلك تفعل الفاشية الجديدة في القرن الواحد والعشرين إذ تسعّر مجموعة تناقضات ثانوية، أبرزها التناقض الديني والطائفي كشكل رئيسي في عالم «الجنوب» الفقير، وضمناً العالم العربي-الإسلامي والشرق العظيم، لتفكيك مجتمعاته وتدميرها وذبح أبنائه تحت ذريعة اصطفاء «الخلفاء الصالحين» لإماراتها.
لا بد هنا من الربط ما بين وقوع خيار الإمبريالية على «الإسلام السياسي» للعب دور الفاشية الجديدة، والضعف النسبي لـ «إسرائيل» الصهيونية كإحدى مخلّفات الفاشية القديمة، بعد الضربات التي تلقتها بفضل انتصارات المقاومات الوطنية الشعبية منذ مطلع القرن الحالي، ولاسيما أنّ الظروف الموضوعية قد نضجت لإزالة هذا الكيان، أو حتى احتمال تضحية الإمبريالية به، بعد تراجع قوتها الاضطراري المتظاهر باندلاع أزمتها الاقتصادية الكبرى في العام 2008، والمتفاقمة نحو إمكانية أن تمسي مرضها الأخير المميت. إنّ تحالفاً أممياً ضدّ الفاشية الجديدة يتشكّل ويتبلور اليوم، وجوهره وعماده قطب الشعوب وقواها المنتجة التي تسير الطبقة العاملة في طليعتها، وشكله الحالي هو صعود وتزايد الوزن الاقتصادي-السياسي لتكتل دول «البريكس»، التي تتمدد على المساحات الجيوسياسية للتراجع الأمريكي-الغربي.
إنّ الاختيار بين سلام عالمي ضروري لاستمرار البشرية من جهة، وبين استمرار توغل «الإسلام السياسي» كشكل لفاشية جديدة من جهة أخرى، يفرض نفسه اليوم كتناقضٍ رئيسيٍ جاهز لحله تقدمياً مرة ثانية، باتجاه يفتح الطريق أمام حلّ أعمق وأكثر جذرية للتناقض الأساسي بين العمل ورأس المال، عبر نفي النظام الرأسمالي نهائياً بشيوعية القرن الحادي والعشرين. ذلك الحلّ الجبار الذي سوف يسحق تحت قدميه جميع أشكال الفاشية والرأسمالية واستغلال الإنسان للإنسان، لتذكر الأجيال القادمة بأنّ الفاشية كغيرها من «وقائع وشخصيات التاريخ الجسيمة تظهر مرتين»، مثلما قال هيغل، ولكن «في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة» كما أضاف ماركس.