عن المفاضلة بين السابق والراهن!
تخرج بعض الأصوات التي خنقتها الحرب الدامية في سورية، والتي يكتسيها اليأس في بعض الأحيان إلى أقصى الدرجات، لتتبنى مقولة «الرجوع إلى ما قبل الأزمة، دون تغيير الطريقة التي اتُّبعت في إدارة الدولة»،
وتعترف بأن البلاد كانت تعاني جور السياسات الظالمة قبل الأزمة «لكن على الأقل كنا نستطيع السير بأمان في شوارع البلد». رغم التراجع الملحوظ في اعتماد الناس على هذا المنطق، إلا أنه من الضروري الإضاءة أكثر على الثغرات التي يعاني منها، عسى أن يساهم ذلك في انتهاءه كلياً.
فصل السبب عن النتيجة
تكمن أولى المشكلات التي يعاني منها منطق المفاضلة ما بين الوضع السابق والراهن، أنه يفصل ما بين السيء، المتمثل بالسياسات الاقتصادية الليبرالية ونمط التوزيع غير العادل للثروة السورية والمستوى المتدني من الحريات السياسية...إلخ، والأسوأ منه، وهو النتائج الكارثية التي رافقت انفجار عوامل الأزمة، وأفقدت البلاد حيز الأمان التي كانت تتمتع به فيما سبق. هذا الفصل التعسفي، المعتمد في جوهره على قياس مدى الضرر المباشر والملموس للسيء والأسوأ، لا يستطيع الربط بينهما، أي أنه قاصر عن إدراك حجم الدور الذي لعبته السياسات المتبعة سابقاً في خلق الأزمة الحالية من جهة، والمساهمة في تفاقمها من جهة أخرى نتيجة الاستمرار باتباع هذه السياسات.
لا يختلف عاقلان سوريان على أن البلاد كانت ومنذ استقلالها، عرضة للتآمر الخارجي الهادف إلى إضعاف أسباب قوتها، وتفكيك عوامل دورها الإقليمي الواقف، بإرادة شعبها، كحجر عثرة أمام المشاريع التفتيتية في المنطقة. ولا يختلفان كذلك على أن هذا التآمر لم يتوقف في السابق، ولن يتوقف مستقبلاً، قبل أن تفقد سورية هذا الدور نهائياً. في هذه الحالة، يبرز عاملٌ جديد يُضاف إلى معايير تقييم الطرق، السابقة أو اللاحقة، في إدارة البلاد، وهو مدى توافق أو تضاد هذه الطريقة أو تلك مع أهداف التآمر الخارجي هذا.
فإذا كانت الخطوط العامة التي تتسم بها طريقة إدارة جهاز الدولة في سورية ـ ما قبل انفجار الأزمة ـ تتمثل في: محاباة الغرب الذي كان يتمتع بـ 50% من العلاقات الاقتصادية السورية مع الخارج، في مقابل 25% (فقط!) من هذه العلاقات مع الدول الحليفة للشعب السوري. وفي ارتفاع الحد الأدنى للفقر إلى 14% من عدد سكان سورية، وحده الأعلى إلى 44% منهم، وترافُق التوزيع غير العادل للثروة السورية مع مستوى عالٍ من كبت الحريات السياسية. لنا أن نفهم الدور الذي لعبته هذه السياسات في خلق الأزمة التي نعيشها اليوم، عبر تأمين بيئة التهميش التي تنمو ظاهرة التطرف في تربتها بشكلٍ أسرع وأسهل. وأن نستنتج بالتالي أن الأزمة اليوم هي ثمرة ونتيجة حتمية لتلازم نغمة هذه السياسات مع إيقاع التآمر الخارجي على الشعب السوري.
خياران.. لا ثالث لهما؟؟
وتتجسد المشكلة الأخرى عند المفاضلين ما بين السيء والأسوأ، أنهم يجزمون ضمناً باستحالة إيجاد خيار ثالث أكثر تلبية لآمالهم في وطنٍ أقوى وأكثر صموداً. فمن قال أن رفضنا لتبعات الحرب الطاحنة التي تشهدها البلاد، يجعلنا محكومين بالسياسات الخاطئة حكماً مؤبداً؟
إذا كان الخيار الثالث والوحيد هو إنتاج سياسات جديدة قادرة على لجم أسباب الأزمة التي أدت إلى إنفجارها، فإن أولى الخطوات الكفيلة بخلقه، هي الوقوف إلى جانب القوى الوطنية التي تعمل على ذلك، وتوحيد صفوف الوطنيين ممن لهم المصلحة المطلقة في موقع أفضل لسورية وشعبها. وهذا كله يبدأ برفض منطق المفاضلة هذه، والإدراك الحقيقي بأن كل سيء هو سبب، وبداية، وعامل مساهم في تفاقم الأسوأ منه والناتج عنه..