إلى قوى الفساد: شكراً!

إلى قوى الفساد: شكراً!

فرض الحراك الشعبي السلمي في سورية متغيرات عدة على الساحة السياسية، بدأت بوضع الدستور السوري الجديد، ولم يكن تشكيل الحكومة الحالية آخرها. هذه الحكومة التي جاءت لتضع الخطوات الأولى للتعددية السياسية التي كرستها المادة الثامنة الجديدة في الدستور،
ولتدخل «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير» إثر ذلك في أول حكومة إئتلافية تخرج عن النمط السائد للتحالفات سابقاً. في حينه، ارتفعت بعض الأصوات التي حذرت الجبهة من توريطٍ ما يُراد لها أن تقع فيه، إلا أنها مضت في قناعتها وقبلت التحدي بأن تصارع قوى الفساد الكبير من داخل جهاز الدولة. الهجوم في مراحله الثلاث منذ اللحظة الأولى لدخولها الحكومة، وحتى تاريخ اليوم، أكدت الجبهة مراراً على أن قبولها المشاركة لم يكن سوى ثمرة اتفاقات على برنامج الحد الأدنى الذي تضمنه البيان الوزاري، وعلى أن برنامج الحد الأدنى هذا لا يشكل في حقيقة الأمر أكثر من 10% من البرنامج السياسي الذي ترفعه. على هذا الأساس، تعاملت الجبهة مع الحكومة انطلاقاً من قناعتها الراسخة بأنها حكومة إئتلافية، بين طرفين سياسيين ليسا متماثلين من حيث البرنامج السياسي الكامل لكل منهما. وفي مقابل هذه القناعة التي عملت الجبهة على أساسها، تعاملت قوى الفساد الكبير في الدولة والمجتمع مع هذه المشاركة بمنطق التبني والاستيعاب، مسخرة ما تسيطر عليه من وسائل إعلام ناطقة باسمها للترويج لفكرة مفادها: «ها هي المعارضة الوطنية الحقيقية! إنها تلك التي تتوقف عن كونها معارضة وتنضم إلى صفوفنا». ليشّكل منطق «الاستيعاب» بالتالي أولى مراحل الهجوم على ما تمثله الجبهة. نتيجة لأداء الرفيقين في الحكومة، بما يعبر بعمق عن حجم الاختلاف الكبير بين قناعات وبرنامج الجبهة من جهة، ومصالح الفساد الكبير من جهة أخرى، لم تدم المرحلة الأولى من الهجوم طويلاً، وانتقلت قوى الفساد هذه إلى المرحلة الثانية من هجومها، وذلك عبر إعطاء الإشارة لوسائل الإعلام الخاصة وشبه الرسمية: «حمِّلوا المعارضة المشارِكة في الحكومة مسؤولية تراجع الوضع الاقتصادي»، وهنا ضجت وسائل الإعلام هذه بالتقارير الإعلامية «الشفافة» التي بات حتى المشاهد العادي يدرك كيفية حبكتها. ومع اشتداد المعركة بين الجبهة وقوى الفساد الكبير، انتقلت هذه الأخيرة إلى المرحلة الثالثة من هجومها. وذلك عبر تأجيج نيران الجبهة الاقتصادية، ورفع سقف الهجوم على النائب الاقتصادي وتحميلة مسؤولية سياساتها الرامية إلى إضعاف الاقتصاد السوري، معلنة: «إن كنتم تجدون أنفسكم أقلية داخل الحكومة، وغير قادرين على فرض سياستكم. انسحبوا واتركوا الحكومة لنا»، هذا الإعلان الذي قابلته الجبهة بمزيد من التصميم على المجابهة، لم يلبث أن انتقل إلى طوره الثاني المتمثل بالإيعاز إلى وكلائها للتوجه نحو «استجواب النائب الاقتصادي برلمانياً»، والتلويح «بسحب الثقة»، وهو ما فشلت فيه أيضاً.. تأثيرات لم يحسب حسابها انطلاقاً من قناعة قوى التسلط والفساد الكبير في النظام بأن الشعب تابع تبعية مطلقة، ينشط ويخمد بـ«كبسة زر»، لم تستطع حتى اليوم أن تدرك التأثيرات الناجمة عن هجومها هذا. كل ما كانت تفكر فيه هو القضاء على الخطر الذي يهدد مصالحها داخل جهاز الدولة، بأي ثمن وبأية طريقة ممكنة. إلا أنه ما فاتها هو أنها بهجومها هذا كرست عاملين اثنين من شأنهما أن يشكلا اللعنة التي سترافقها إلى وقت زوالها. أولاً: لم تعِ هذه القوى أنه من خلال هجومها على النائب الاقتصادي، وتكريسها لفكرة تحميل الوزيرين وحدهما مسؤولية تراجع الأوضاع المعيشية حتى في حالات الحرب، تكون قد ساهمت بتفشي هذا المنطق في الأوساط الشعبية، مما شأنه أن يمنع إيقاف الهجوم عند حد النائب الاقتصادي، ليطال بذلك حدوداً ليس من مصلحة الفساد الكبير أن يطالها، ما يعني أن هجومها هذا انقلب من حيث لا تدري عليها. ثانياً: ظنت قوى الفساد أن استلام شيوعي من اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين- حزب الإرادة الشعبية لاحقاً- لحقيبة وزارية ذات ارتباط مباشر بالاقتصاد، من شأنه أن يساعدها في هجومها على المعارضة الوطنية. إلا أنها لم تدرك أن تحريضها الذي مارسته ساهم بتسريع إعادة القضية الاقتصادية الاجتماعية إلى الواجهة، بما يمهد لإعادة تأطير الفقراء في الموالاة والمعارضة باتجاه أعدائهم الطبقيين الحقيقيين، بعيداً عن الانقسامات والاصطفافات الثانوية والوهمية. إذا كان هذا الهجوم، بأدواته المكشوفة، له تأثير إيجابي على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي، نتيجة القرارات التي تعكس مدى التخبط الحاصل في صفوف الفاسدين الكبار في النظام والمجتمع، فإن المطلوب اليوم لإتمام الإنقضاض على نفوذهم في جهاز الدولة، هو توجيه العصا الشعبية إلى مكانها الصحيح وتوحيد جهود الوطنيين ممن لهم المصلحة الأولى بإنجاز التغيير الجذري والشامل في المجتمع السوري.