عليكم الاختيار: «دعوا الأغنياء..» أم «دعوا الفقراء..»؟!
يشهد الوضع الاقتصادي في سورية حالة تدهور غير مسبوقة، ترافقها عملية فرز عميقة حول الموقف من الأزمة الاقتصادية، وتجري هذه العملية في جهاز الدولة والمجتمع،
وبين الأطراف الدولية المؤثرة في الحدث السوري.
الأزمة الاقتصادية- الاجتماعية ليست فقط مشتقة من الأزمة السياسية، بل كانت قبل الأحداث سبباً أساسياً في الانفجار الذي شهدته البلاد. فقد لعب الوضع الاقتصادي- الاجتماعي دور السبب والنتيجة في الوقت ذاته، ومازال يلعب هذا الدور حتى الآن.
وأيضاً الانقسام في الموقف الاقتصادي ليس جديداً، بل يعود إلى أيام الفريق الاقتصادي الراحل في حكومة «العطري- الدردري»، عندما تصارع برنامجان اقتصاديان، الأول: البرنامج الليبرالي للفريق الاقتصادي الراحل الذي سعى إلى إضعاف دور الدولة الاقتصادي، والاعتماد على الاستثمارات الخارجية- التركية والقطرية نموذجاً- وإعطاء السوق الدور الأكبر في التحكم بالقرار الاقتصادي، الذي تطاول لاحقاً على القرار السياسي والوطني. والثاني: هو البرنامج الذي طرحته اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين، حزب الإرادة الشعبية لاحقاً، الذي دعا إلى تحقيق أعلى نمو اقتصادي حقيقي، وأوسع عدالة اجتماعية، من خلال بناء نموذج اقتصادي جديد يعتمد على الموارد الداخلية، والميزات المطلقة والنسبية لها.
واليوم يتعمق هذا الفرز حول الموقفين، في ظل انتقال الملف الاقتصادي في الأزمة السورية إلى موقع الصدارة، هذا الانتقال جرى بقرار من الغرب الذي يسعى اليوم إلى اختراق البلد من هذا الباب، فأخذ يشن هجوماً غير مسبوق على الليرة السورية. وأيضاً بقرار من قوى الفساد الكبير في الدولة والمجتمع، التي بدأت تتوافق في سياساتها موضوعياً مع الغرب. فمن ناحية تستكمل هذه القوى الحصار الغربي على البلاد، فهي أصبحت ترى في احتياطي القطع الأجنبي القسم المتبقي من الكعكة الذي يجب أن تضع يدها عليه، لذلك تقوم بالتواطؤ مع واضعي السياسات النقدية باستجرار الاحتياطي وضخه في السوق، بحجة تخفيض سعر صرف الليرة السورية. إلا أنها عملياً تقوم «بشفط» القطع الأجنبي من السوق بمساعدة شركات الصرافة وتجار الأزمات والمضاربين، وبالتالي يعود سعر صرف الليرة السورية إلى الارتفاع من جديد. ومن ناحية أخرى، تقوم بشن هجوم على النائب الاقتصادي، والقوى التي يمثلها، بهدف تشويه صورة البرنامج النقيض وتفريغ الاستياء الشعبي فيه.
والنتيجة أن الجبهة الاقتصادية أصبحت الجبهة رقم واحد في الصراع على مستوى الأزمة الشاملة، فالأهداف التي فشلت أمريكا في تحقيقها عسكرياً يجري محاولة تحقيقها اقتصادياً، للاجهاز على ما تبقى من مقومات الدولة السورية.
وصحيح أن الانقسام في الموقف الاقتصادي بدأ قبل الأزمة، أي أنه قديم، إلا أنه اليوم أصبح يحمل عناصر جديدة أولها طابعه الأفقي: فيجري اليوم تفكيك الانقسام العمودي في المجتمع ما بين «مؤيدين- معارضين» الذي أستند إلى أسس وهمية، مثل مقولات «الحسم العسكري» أو «إسقاط النظام» بالإضافة إلى المسألة الطائفية. ويحل محله فرز جديد على أسس طبقية ووطنية. وثانيها الأبعاد الدولية لهذا الفرز: فالدول التي ساندت الدولة والشعب السوري لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء محاولات اختراق سورية من الجبهة الاقتصادية، فكما يتضح لمتتبعي مواقف هذه الدول أنها لن تفرط بسلسلة الانتصارات التي تحققت في مواجهة السياسات الأمريكية.
إن مصالح قوى الفساد الكبير ساقتها إلى موقعها الحقيقي في الصراع الطبقي والوطني الجاري اليوم، ساقتها إلى جانب معلمها الغربي، الذي علمها شعار « دع الأغنياء يزدادون غنى.. فهم قاطرة النمو». أما أصحاب المشروع الوطني الحقيقي، أصحاب شعار «دع الفقراء يعيشون.. فهم قاطرة النمو» أصبحوا يقفون في طليعة القوى المواجهة للغرب الذي يشهر سلاحه الأخطر والأخير، سلاح الحصار والتجويع..