ويـستـمـر الـفـرز...
مع كل يوم من الأزمة السورية والاقتراب من الحل السياسي الذي أصبح قدراً، يزداد ظهور ما كان مخفياً من أدوات القوى الطبقية المختلفة في المجتمع السوري، وهذا أمر طبيعي ومتوقع لأنّ التغييرات السياسية في نهاية المطاف هي إعادة ضبط للتوازنات الاقتصادية- الاجتماعية
، وهذا ما يفسر ما نشهده في هذه المرحلة من تصعيد للمعارك والصراعات على الجبهة الاقتصادية، ورغم خطورة هذه المحاولة الأمريكية لإحراق سورية من الداخل اقتصادياً، إلا أنها في الوقت نفسه تعني نقل المعركة إلى ذلك الميدان الأساسي للصراع الاجتماعي الطبقي الحقيقي، مما يعطي الفرصة للتناقضات الحقيقية بالظهور على حساب التناقضات الثانوية والثنائيات الوهمية.
أرقام الفقر والبطالة والجوع قبل الأزمة وفي الأزمة مقابل أرباح الفاسدين في الدولة وكبار التجار في البلد من جهة، ومقابل حجم تمويل العملاء والمعارضين الفاسدين من جهة أخرى، تؤكّد بأنّ الصراع في سورية وفي العالم كان وسيظل وسيبقى طبقياً طالما استمر المجتمع الطبقي وبالتالي هو في الصميم والجوهر بين الأغنياء والفقراء، وإذا كان تدهور الوضع الاقتصادي ومفرزاته من جهل وتخلف ونقص الوعي السياسي قبل الأزمة السورية التي هي نتيجة له، وتفاقمه بعد اندلاعها، جعل الفقراء الذين هم أغلبية الشعب يقاتلون بعضهم بعضاً على أساس ثنائيات وهمية من قبيل معارض وموال، أو على أساس طائفي أو قومي أحياناً، فهذا بحد ذاته يعبّر عن دفع واعٍ من قوى البرجوازية الكبرى للصراع بهذا الاتجاه بالذات لتضمن عدم خوض الصراع الحقيقي بينها وبين الطبقات العاملة والكادحة، لأنها تعرف بأن هذه الطبقات الواسعة بالذات هي الصاعدة في المرحلة التاريخية الحالية، وهي القادرة على حسم المعركة لمصلحتها إذا استطاعت تنظيم صفوفها وفرز عدوها الحقيقي عن صديقها الحقيقي، وإن تبني أية رؤية أخرى بغض النظر عن النوايا هو ابتعاد عن العلم ووقوع في ضلال التأويلات الميتافيزيقية والوهمية لحقيقة الصراع، وإنّ العمل وفقها سيؤدي لنتائج لا تصب في المصلحة الوطنية، بل في مصلحة أعداء الشعب والوطن من القوى الإمبريالية وعملائها.
وكمثال فإنّ العقلية التي تحاول واهمة التوفيق الطبقي بين متناقضين لا يلتقيان: مصالح كبار الصيارفة ورأس المال المالي من جهة ومصالح الأغلبية الكادحة من أبناء الشعب السوري من جهة ثانية، عبر التصريح بانعدام نيتها تأميم المصارف الخاصة، وكأننا في وضع طبيعي ولسنا في ظرف حرب تستوجب فعلاً إجراءات من هذا القبيل وأقصى تدخل للدولة في إدارة الاقتصاد ولجم طمع رأس المال الذي لا يشبع ولا يهمه جوع ودماء الشعب لا في الحرب ولا في السلام، لن تؤدي إلا إلى استمرار العجز ليس فقط عن حلّ أية أزمة، بل وعن إحداث أي انفراج مؤقت في الوضع الاقتصادي السوري، فضلاً عن الأزمة السياسية الشاملة.
إنّ علم الاقتصاد السياسي مثل أي علم موضوعي لا يهمه النوايا والعواطف والحالة النفسية، ليست المسألة طيب أو سوء نية أو أهداف المسؤولين في المصرف المركزي أو الحكومة أو غيرها، لأنه وحسب العلم والنتائج الملموسة على أرض الواقع فإنّ تكرار إجراءات فاشلة مثل ضخ الدولار من المصرف المركزي إلى السوق كإجراء وحيد لمعالجة أزمة سعر الصرف مع إعادة سحبه من الصيارفة والشركات هي فعلياً عملية نهب منظمة لاحتياطي الدولة من العملة الصعبة، أي عملية نهب منظمة لأموال الشعب السوري.
الفرز بين المسلحين
بالآثار الاقتصادية والاجتماعية الخانقة للحصار العسكري والاقتصادي للمناطق السورية إنما يدفع الشعب وجيشه من دمه ولقمته وثرواته والبنى التحتية لدولته ليس فقط ضريبة العدوان الأمريكي وعملائه على سورية بل وكذلك ضريبةَ عواقب السياسة الخاطئة التي انتهجها النظام في الحلّ العسكري- الأمني البحت وتأخّر الحل السياسي، بما في ذلك آثار التشدّد للميليشيات المسلحة باسم المعارضة الذي يعززه تشدد الميليشيات المسلحة المقاتلة باسم النظام خارج إطار شرعية الجيش العربي السوري، والتي لم يعد أبناء الشعب، مواليين ومعارضين، يطيقون تجاوزاتهم الخطيرة في النهب والإهانات وحتى القتل بغير وجه حق. حيث يمنع التمترس والحصار الأمني- العسكري من الجهتين الوصول إلى منفرجات أو هدنات ولو جزئية يمكن أن تسمح بتمرير الإغاثة لأبناء الشعب السوري في المناطق المحاصرة، مثل حلب، رغم أنّ أغلبهم من الفقراء والكادحين الذين لا ناقة لهم ولا جمل بمعارك التطهير ولا التحرير.
إنّ ما يجري مؤخراً من تسارع وتعمّق الفرز بين المسلحين التكفيريين الأجانب ومرتزقة القاعدة وأمريكا من جهة، وبين السوريين المتورطين بالتسلح والقتال من غير المرتبطين بهؤلاء من جهة ثانية، لا يمكن أن ينعكس إيجابياً على الحلّ الوطني للأزمة السورية إذا لم يفتح الطريق لثاني هاتين المجموعتين من أجل العودة إلى إطار العمل السلمي والسياسي، الأمر الذي يجب أن يعمل من أجله جميع الوطنيين لأنّ المتشددين والفاسدين داخل النظام والمعارضة على حد سواء سيعملون بالمقابل ضدّ هذا الفرز السياسي حتماً، مثلما يعرقلون الفرز الوطني والاقتصادي-الاجتماعي، لأنّهم أصحاب المصلحة الأولى في خلط الأوراق وإطالة الأزمة، أملاً بحلّها على الطريقة الأمريكية في المحاصصة الطائفية بين أمراء الحروب، والتي يجهز هؤلاء أنفسهم ليكونوا وكلاءها الحصريين.