افتتاحية قاسيون 1046: ما وراء رفع الدعم
سياسات الدعم، ومنذ اللحظة الأولى، كانت تعبيراً عن أنّ الأجور لا تكفي أصحابها للوصول إلى الحد الأدنى لمستوى المعيشة؛ ولذا كان لا بد من دعمها، سواء بتثبيت أسعار بعض السلع الأساسية كالمحروقات والكهرباء والخبز مثلاً، أو بغيرها من الطرق.
أي أنّ وجود سياسة الدعم بحد ذاته، كان تعبيراً عن تشوهين كبيرين في الاقتصاد السوري: الأول هو تشوه العلاقة بين الأجور والأرباح، ولمصلحة الأرباح بطبيعة الحال، والثاني هو تشوه العلاقة بين الأجور وبين الحد الأدنى لمستوى المعيشة. وبهذا المعنى، فإنّ استمرار الدعم خلال عقود مضت، كان تعبيراً عن استمرار هذين التشوهين وتعمّقهما.
وإذا كان بقاء الدعم أو رفعه ليس هدفاً بحد ذاته، فإنّ التوازن بين الأجر ومستوى المعيشة الوسطي هو الهدف. أي أنّ كل دعمٍ يجري سحبه يجب أن يتم تعويضه رفعاً حقيقياً في الأجور، وإلا فإنّ سحب الدعم دون التعويض عما يتم سحبه هو شيءٌ لا اسم آخر له سوى أنه نهبٌ إضافي يذهب من جيوب أصحاب الأجور إلى جيوب أصحاب الأرباح، وبرعاية رسمية...
تأخذ عملية رفع الدعم أشكالاً متنوعة كما تثبت التجربة المرة للشعب السوري؛ فليس رفع أسعار المواد الأساسية مثل الخبز والمحروقات والكهرباء وغيرها، الشكل الوحيد لرفع الدعم؛ بل هنالك أيضاً أشكالٌ أكثرُ «شطارة» تتم ممارستها في عملية رفع الدعم؛ بينها تخفيض المخصصات التموينية وصولاً لإلغائها، وكذلك تخفيض مخصصات المازوت والغاز المنزلي وإلخ، وصعوبة الحصول عليها، وكذلك تقنين الكهرباء بحيث لا تصل للناس إلا لِماماً، بينما تخبرنا التصريحات الرسمية أنّ «أي مواطن» ممن يستطيع دفع 300 ليرة سورية للكيلو وات الساعي، يمكنه الحصول عليها 24/24...
إذا كانت عملية رفع الدعم قد بدأت بشكل تدريجي مع انطلاق ما سمي «اقتصاد السوق الاجتماعي» عام 2005، وكانت تصب بشكل مباشر في مزيد من التشوه في العلاقة بين الأجور والأرباح، وترجمت نفسها بارتفاع نسبة الفقر خلال 5 سنوات من 30% إلى 44% من السوريين، فإنّ ما يجري من عمليات رفع دعم هذه الأيام يهدف إلى ما هو أبعد من مجرد تعظيم النهب...
أيّ جهاز دولة كان، له من حيث من المبدأ وظيفتان أساسيتان: القمع والتنظيم. القمع بمعنى استخدام القوة أو الإيحاء باستخدامها للحفاظ على نمط توزيع ثروة محدد، والتنظيم بما يتضمنه من وظائف اجتماعية متنوعة لجهاز الدولة.
عملية رفع الدعم الجارية تستهدف إنهاء أي دور اجتماعي لجهاز الدولة، وتالياً تحويله إلى أداة قمع عارية بأيدي أصحاب النهب... وهذا لا يهدد المنظومة السياسية الاقتصادية الاجتماعية فحسب، بل ويهدد وجود جهاز الدولة نفسه، ووجود الدولة نفسها.
من جهة ثانية، فإنّ عملية رفع الدعم الجارية، وإذ تستهدف الدولة نفسها، فإنها تستهدفها عبر الضغط إلى الحدود القصوى على «الفئات» التي يبشرنا رئيس اللجنة الاقتصادية بأنها ستستثنى من الدعم... ضغط عنيف وغير مسبوق، تجري عبره محاولة إدخال هذه «الفئات» في عملية تحولٍ وانزياح تاريخي، بما في ذلك عن مفاهيم واتجاهاتٍ لم تفلح كل المصائب التي وقعت على الرؤوس حتى الآن بإنهائها...
الدفاع عن «الفئات المستثناة» والتي ستستثنى، أي الدفاع عن الـ90% من السوريين في وجه من يضغطون عليهم حتى الخنق، يتطلب إعادة النظر بمجمل البنية الاقتصادية- الاجتماعية للبلاد، والتي هي إعادة نظر بمجمل البنية السياسية أيضاً... وهذه وتلك طريقهما الوحيد بات الحل السياسي الشامل على أساس القرار 2254، والذي أدى تأخره بالذات إلى هذا التدهور السريع والكبير.
معلومات إضافية
- المصدر:
- 1046