من اقتصاد الضرورة إلى الإدارة الذكيّة (1): مفهوم الـ«Noonomy» عند بودرونوف
يقدّم البروفسور سيرغي بودرونوف، مدير معهد (فيتّه) للتطوير الصناعي الحديث في سان بطرسبورغ في روسيا، مصطلح (النوونومي Noonomy) كعنوان لكتابه الذي صدرت طبعته الإنكليزية عام 2024، والذي يمكننا ترجمته إلى «الإدارة الذكيّة والإنسانية للمجتمع» بوصفها النفي الديالكتيكي للإيكونومي (Economy)، أيْ نفي اقتصاد «مَملكة الضرورة« بحسب استعارة مؤلِّف الكتاب للوصف الذي أطلقه إنجلس على المجتمع البشري ما قبل الشيوعية.
يقول بودرونوف إنّ الطبعة الأولى من كتابه (بالروسية 2018) صدف أن صدرت «قبيل الذكرى المئوية الثانية لميلاد كارل ماركس. وحتماً، دفعتنا هذه الذكرى إلى إعادة النظر في أفكاره. ويتضح جلياً أن كارل ماركس كان مُصيباً إلى حد كبير في تنبُّؤاته؛ فقد كان أوَّل من تنبَّأ بدور العلم والمعرفة في الإنتاج الحديث. ففي منتصف القرن التاسع عشر، أدرك ماركس: تحوُّل عملية الإنتاج من مجرد عملية عَمَلٍ بسيطة إلى عملية عِلميّة، تُجبِرُ قوى الطبيعة على خدمتها، وبالتالي تُسخِّرُها لخدمة احتياجات الإنسان».
وفي مقدمة الكتاب يقول بودرونوف إنّ سلسلة الأزمات في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين أظهرت بوضوح أنَّ العالم قد تغير. ويشير تزايد عدم استقرار الأنظمة الاجتماعية، والاضطرابات المالية العالمية، وبداية التحولات الجذرية في الاقتصاد العالمي، إلى أن حضارتنا على وشك انتقالٍ لا مفرَّ منه نحو تشكيلة جديدة [مستخدماً المقولة الشهيرة في المادية التاريخية وقاصداً التشكيلة الشيوعية، أمّا تصوّر بودرونوف عن الانتقال إليها بغير الثورة الاجتماعية فهي من أكثر النقاط التي يمكننا انتقاده عليها – كما سنبيّن في آخر المقال].
منذ زمن بعيد، أشار كارل ماركس إلى مجتمع عصره بأنه «مَملَكة الضرورة» وحلم بـ«مَملَكة الحرية»: «كما أن على البدائي أن يُصارع الطبيعة لإشباع رغباته... كذلك على الإنسان المتحضر أن يفعل... في جميع التشكيلات الاجتماعية وفي ظل جميع أنماط الإنتاج الممكنة. ومع تطوره، يتوسع عالم الضرورة المادية هذا نتيجةً لرغباته؛ ولكن في الوقت نفسه، تتزايد قوى الإنتاج التي تُلبّي هذه الرغبات». (ماركس، رأس المال، المجلد الثالث).
تدفع الرغبات البشرية البشرَ إلى القيام بأنشطة واعية تهدف إلى إشباعها. منذ فجر التاريخ، دأب الناس على إشباع رغباتهم من خلال خلق سلع مادية متنوعة، أي من خلال الانخراط في أنشطة تُعرف بالإنتاج المادي. إلى حد ما، يمكن النظر إلى التاريخ البشري على أنه تطور الإنتاج المادي مدفوعاً بالحاجة إلى تلبية الطلب الاجتماعي المتزايد، أو كما وصفه ماركس «تطور القوى المنتجة»؛ أي زيادة قدرات الإنتاج المادي للبشرية لتلبية رغباتها المادية وغيرها. علاوة على ذلك، تُحدّد مرحلةُ تطور قوى الإنتاج المادية البنيةَ الاقتصادية للمجتمع، ونمط إنتاجه الذي يتوافق مع حقبة تاريخية.
«الجيل الثاني للمجتمع الصناعي الحديث»
يُقرّبنا تطور التقنيات اليوم من «عالَم الحرية» الذي طرحه ماركس، والذي يُترجَم إلى التحرُّر من العوز وتقليل الاعتماد على الحاجة إلى تخصيص كثيرٍ من الوقت والموارد والجهد لإنتاج السلع المادية. في الوقت نفسه، يطرح التطور التكنولوجي، منطقياً، الأسئلة التالية: ما الذي فرَضَ فعلياً حدوثَ هذه التغييرات في حالة الإنتاج المادي؟ كيف ولماذا حدثت؟ ما هي الاتجاهات التي تحكم تطور الإنتاج المادي؟ تُجيب دراسةُ الإنتاج الاجتماعي على هذه الأسئلة.
ينتقد بودرونوف في كتابه أيديولوجيات «ما بعد الصناعة»، ويُشدّد على أهمية تطوير الإنتاج المادي. ومع ذلك، يقول المؤلِّف إنّ نهجَه: لا يُحاكي فقط فكرة جون كينيث غالبريث عن المجتمع الصناعي الجديد، بل يُقدِّم سرداً أعمق بكثير. يتضمن ذلك، أولاً، «نفي نفي» للمجتمع الصناعي الجديد الذي وصفه غالبريث قبل خمسين عاماً. فيسمح، أولاً، بتآزرٍ نقدي بين الإنجازات التكنولوجية الحديثة وحلول إدارة الإنتاج على أساس تكنولوجي جديد وفي ظل صيغ اقتصادية ومؤسَّسية جديدة. ثانياً، يتضمن النفي الديالكتيكيّ لاتجاهات ما بعد الصناعة من خلال الحفاظ على إنجازاتها الأساسية (مثل الدور الأكثر بروزاً للأفراد في عملية الإنتاج، والأهمية الأكبر المنسوبة إلى الجوانب البيئية والاجتماعية للإنتاج، وزيادة كثافة المعرفة في الإنتاج العام) والتخلُّص من سلبيّاتها. من الضروري التحدث عن انتقال المجتمع الحتمي إلى مرحلة تنموية جديدة، والتي يشير إليها المؤلف باسم «المجتمع الصناعي الجديد من الجيل الثاني» أو NIS2. ومع ذلك، فإنّ دراسة اتجاهات التنمية الاجتماعية لا تتوقف عند هذا الحد. إنّ ما يُعرف بـ «النوونومي Noonomy» يعدّ المرحلة الثانية من تطور المجتمع، والتي تُشكّل شرطاً أساسياً للانتقال إلى تنمية اجتماعية «غير اقتصادية» قائمة على أساليب «غير اقتصادية» لتلبية الطلب. وقد استُخدم هذا المصطلح عنواناً لهذا العمل لتأكيد موقف المؤلِّف من آفاق التنمية البشرية. [غير الاقتصادية أو «اللّاإيكونوميّة» كما نفهمها من بودرونوف لا يُقصَد بها انتهاء النشاط الإنتاجي أو العمل، بل انتهاء الطابع القسريّ والاغترابيّ له وما يرافقه من عواقب مثل التقشُّف أو التبذير والهدر أو تلويث البيئة...إلخ - المعرِّب].
تقف الحضارة البشرية عند مفترق طرق خطير؛ فإمّا أنْ نسلك طريق الاستخدام غير المنضبط للتقنيات الجديدة سعياً وراء زيادةٍ استهلاكيّة غير مبرَّرة، وتدمير البيئة، وتشويه الطبيعة البشرية، أو أنْ نجد طريقة للسيطرة على التطور التكنولوجي من خلال تطبيق العقل البشري بالاعتماد على معايير الثقافة الإنسانية.
ينطوي هذا المسار الأخير على: (أ) التخلّي عن معايير ما يسمّى «الترشيد الاقتصادي» التي تُبرِّرُ أيَّ تضخُّم في أحجام الإنتاج طالما أنّه يُعزِّزُ الربحية. (ب) الانتقال نحو استخدام معايير لتلبية احتياجات محددة بشكل معقول.
قدّم المؤلِّف مصطلح «النوونومي» للدلالة على أسلوب إدارة «غير إيكونومي»، يقوم على انسحاب البشر من الإنتاج المباشر، وتركيزهم على تطويرهم الشخصي من خلال النشاط الإبداعي، وإخضاع تطور المجال التكنولوجي، الذي يتميز باستقلالية نسبية، لمعايير الثقافة الإنسانية.
بمجرد انسحاب البشر من الإنتاج المباشر، يصبح تنظيم هذه الطريقة الإدارية من خلال علاقات إنتاج قائمة على التفاعل بين المجتمع البشري والمجال التكنولوجي ذي الاستقلالية النسبية. وفيما يتعلق بالمجال التكنولوجي، يتولَّى البشر مهام تحديد الأهداف والتحكم في مجالات استخدام وتطبيق نتائج الإدراك تكنولوجياً.
إنَّ سيادة العقل البشري تُبرِزُ حتماً مسألة تطوُّره وضروراته الرئيسية. وهذا يُثير السؤال الآتي: ما هو النظام الاجتماعي الذي يضمن الاستخدام الرشيد لأداة قوية كالعقل البشري، ويضمن عدم استخدامه فقط كأداة فعّالة لإشباع الغرائز الحيوانية التي شوّهتها الحضارة الحديثة؟
يمكن إيجاد الإجابة في المفهوم الذي ينص على الانتقال إلى نظام اجتماعي جديد يوافق النوونومي (يسميه المؤلِّف Noosociety). يُعدّ علم النفس الاجتماعي عنصراً أساسياً في المجتمع المنشود، باعتباره «ناموساً» عالمياً (أو «نوموس» باليونانية) بمعنى القانون أو المبدأ الناظم، يُحدد الطريقة غير الاقتصادية لتنظيم النشاط البشري وتلبية احتياجاته، مع التركيز على الضرورات الثقافية بدلاً ممّا يسمّى اليوم «الترشيد الاقتصادي».
إذاً يتجلّى في المجتمع المنشود التطبيق العالي للـ«نُوس» (باليونانية تعني الفكر) والـ«نوموس» (باليونانية تعني القانون/النظام). نشير أيضاً إلى الكلمة اليونانية «أويكوس» (المنزل، الأسرة) التي اشتقت منها كلمة الاقتصاد (الإيكونومي) بأصلها التاريخي الذي كان يعني (الإدارة المنزلية)، وفي التقليد العلمي الحديث، ظلّت تُستخدم مصطلحات مشتقة من هذه الكلمة للدلالة على الواقع الاقتصادي. ولكننا لا نستخدم مزيجاً ميكانيكياً من مصطلحي «المجال العقلي» و«الاقتصاد»، بل نستمد من المصطلح اليوناني «نوس» المعنى الآتي: العقل المعتمد على معيار الحقيقة كقيمة خالدة مُدرَكة.
إن إدراك مفهوم «النوونومي» كمنهج غير اقتصادي لتنظيم النشاط البشري في ظل مجتمع «النووسوسايتي» يمنعنا من تفسير هذا المستقبل على أنّه رأسمالي. فمع زوال المعايير والعلاقات «الإيكونوميّة» للنشاط البشري، ستزول جميع المقولات ذات الصلة في الاقتصاد الرأسمالي.
نقطة انتقاد
مع ذلك يمكننا أنْ نسجِّل على بودرونوف (رغم مديحه لماركس وإنجلس) ميلَه إلى تصوّر طوباويّ غير ماركسيّ (وحتّى إلى تصوُّر ارتقائيٍّ مُبتَذَل) بشأن طريقة الانتقال إلى المجتمع المنشود، حيث يكتب: «في الوقت نفسه، فإنّ نظريّة النوونومي تدرك المستقبل على نحو يتعارض مع المنظورات الاشتراكية والشيوعية. فالمقولات الاقتصادية والرأسمالية يُفتَرَض [وفق نظرية النوونومي] أن تتلاشى ليس كنتيجة للتغيير الاجتماعي الثوريّ ونزع خصخصة المُلكية، بل من خلال التطوّر الارتقائي التدريجي وخفض تصعيد النزاعات الاجتماعية».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1248