من اقتصاد الضرورة إلى الإدارة الذكيّّة (2): نحو «مملكة الحرّّية »

من اقتصاد الضرورة إلى الإدارة الذكيّّة (2): نحو «مملكة الحرّّية »

أَولى ماركس اهتماماً خاصّاً لدَور المعرفة البشرية في تحويل علاقات الإنتاج الاجتماعية. واعتبر تطور المعرفة المتجسدة في العمليات التكنولوجية مؤشراً على درجة «سيطرة العقل العام على ظروف عملية الحياة الاجتماعية نفسها وإعادة صياغتها وفقاً له» (الغروندريسّة؛ مخطوطات ماركس الاقتصادية 1857–1858). لكنَّ الأمر لا يقتصر على تكنولوجيات الإنتاج المباشر فحسب، بل يتعلق في نهاية المطاف بـ«الذكاء العام» للبشرية الذي يُخضِع جميع عمليات الحياة في المجتمع ويُحوِّلها بأكثر الطرق عقلانية وإنسانية.

سيرغي بودرونوف
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

بهذا ابتدأ بودرونوف خلاصة كتابه «النوونومي» - المصطلح الذي اقترحنا في العدد الماضي تعريبه إلى «الإدارة الذكية والإنسانية للمجتمع». لكن قبل أن نتابع عرض خلاصته، من المفيد العودة إلى اقتباس أطول من المقطع نفسه الذي تحدّث فيه ماركس عن «العقل العام» general intellect في «الغروندريسّة»:
«إنّ الطبيعة لا تبني الماكينات (الآلات) والقاطرات والسكك الحديد، والتلغراف الكهربائي، والمَغازِل الذاتيّة الحركة، إلخ. إنّ هذه منتوجاتُ صناعةٍ بشرية؛ مادّة طبيعية تمّ تحويلها إلى أعضاء لسيطرة إرادة الإنسان على الطبيعة، أو لنشاط الإنسان في الطبيعة. إنها أعضاء العقل البشري التي خَلَقَتْها اليدُ البشرية، قوّةُ المعرفةِ مُشيَّأةً [مُتجسِّدةً موضوعياً في أشياء]. إنّ تطوُّر رأس المال الثابت يُظهِرُ إلى أيّ درجةٍ أصبح العِلمُ العام للمجتمع، المعرفةُ، قوةَ إنتاجٍ مُباشرة، وبالتالي إلى أيّ درجة تمّ إخضاع شروط عمليّة الحياة الاجتماعية نفسها إلى سيطرة العقل العامّ وإعادة صَوغها وفقاً له. إنها تظهر إلى أيّ درجة يتمّ إنتاج قوى الإنتاج الاجتماعية ليس بشكل معرفة فقط، بل كأعضاء مباشَرين للممارَسة الاجتماعية [البراكسس praxis] لعملية الحياة الفِعلية».


مُستقبَل العَمَل البشري: الإشراف والتنظيم


يكتب بودرونوف في كتابه «النوونومي»، وتحت خلاصة بعنوان «ماركس بوضوح الكرستال»:
بناءً على الفهم العِلمي للطبيعة، ستتحول العمليات الطبيعية إلى عمليات تكنولوجية لتصل إلى النقطة التي «يغدو فيها العمل ظاهرياً غير داخلٍ كثيراً في عملية الإنتاج، بل يرتبط الإنسان بهذه العملية كمشرِفٍ عليها ومُنظِّمٍ لها» (مخطوطات ماركس الاقتصادية/الغروندريسّة). أودُّ التأكيد على أن التطبيق التكنولوجي للعلم هو الذي سيضمن إبعاد الناس عن عملية الإنتاج المباشرة، عندما يكون العامِل، كما قال ماركس، «مُشارِكاً في عملية الإنتاج، بدلاً من أن يكون العاملَ الرئيسيَّ فيها» (المخطوطات نفسها).
وفقاً لماركس، يبدأ تحرُّر الإنسان، أو ما يُسمَّى «الصعود من عالَم الضرورة إلى عالَم الحرية»، عند النقطة التي تُمكِّنُ فيها القوةُ المتنامية للمعرفة البشرية البشرَ من إشباع رغباتهم بشكل شامل من جهة، وتحقيق ذلك دون مشاركة مباشرة منهم في عملية الإنتاج من جهة أخرى: «يبدأ عالَم/مملكة الحرّية في الواقع فقط عندما ينتهي العملُ الذي تُحدِّدُ الضرورةُ والاعتباراتُ الحقيرة؛ وبالتالي، فإنّه، في جوهره، عالَمٌ يقع فيما يتجاوز نطاق الإنتاج المادي الفعلي» (المخطوطات نفسها).


مِن الحيوانيّة إلى العقلانية


يتابع بودرونوف: ولكن هل سيكون الانتقالُ إلى المجتمع القائم كلياً على هذه المبادئ انتقالاً سلساً وخالياً من الصراعات؟ هل سننتقل من «حديقة الحيوان» (Zoo) إلى «حديقة العقل» Noo بسلاسةٍ ويُسر؟ لا. إننّا سنواجه بالتأكيد بعض العراقيل وسنواجه مطبّات متنوعة على طول
هذا الطريق. سوف يواجِهُ هذا الانتقالُ ممانَعةً مِن «حديقة الحيوان»، أيْ مِن الجانب الوحشي من الطبيعة البشرية، التي ستحاول عرقلة التقدم، وإعادة التنمية إلى مسار الدمار.
فكيف يمكننا مجابهة هذا التوجُّه؟ ما الشكل الذي ينبغي أن يتخذه هذا التحوُّل الثوري الحقيقي من «الزُّوو» إلى «النُّوو» (من الحيوانية إلى العقلانية)؟
يمكننا القول بيقين إنَّ هذا التحوَّل لن يحدث إذا تمسّكنا بالأساليب القديمة الشبيهة بالحيوانات، لأنه لا يمكن استخدامها لإنشاء مجتمع جديد خالٍ من السّمات الوحشية. في المجتمع
الجديد المنشود، سيكون الكائنُ البشريُّ، وفقاً لفريدريك إنجلس، قد انفصل «أخيراً عن بقية مملكة الحيوان، وخرج من ظروف وجودِه الحيوانية البحتة إلى ظروفٍ إنسانيّة حقيقية» (إنجلس، الاشتراكية الطوباوية والعِلمية). وسيعتمد الانتقال إلى «مملكة العَقل» على ثورةٍ قائمة على المعرفة والتكنولوجيا. وسيُمثّل هذا بداية انتقالٍ مُتسارع إلى المرحلة التالية، الأكثر كثافةً معرفيّاً، من النسخة الحديثة من الحضارة البشرية ونظامها الاجتماعي. سيُحفّز هذا الانتقال تقدّمَ المعرفة والفكر والعقل البشري نحو إشباعٍ شاملٍ ومتزايدٍ للحاجات الإنسانية المُتنامية.

إنّ إمكانية الإشباع الشامِل والمتزايد للحاجات الإنسانية هي بالتَّحديد الشرطُ الأساسي لتهدئة التوترات المُصاحبة لهذا الانتقال. في الوقت نفسه، ستُصبح الحاجات الإنسانية الحقيقية - التعليم، والاستكشاف، والتطور الروحي، والثقافة...إلخ - في صدارة هيكل المَطالِب الإنسانية. سوف تتغيَّرُ جميعُ جوانب نمط الحياة البشرية - العافية، والعلاقات الاجتماعية، والاستهلاك، والقيم الثقافية...
سيدفع التطوُّر المُتسارِعُ للمعرفة الإنسانية المجتمعَ إلى مواءَمة وتيرة تطوُّرِه الروحيّ والاجتماعي مع التطوُّر التكنولوجي، وإلّا، سيَفنى المجتمع. فنظراً لاختلال التوازن بين النمو وتزايد الإمكانيّات التكنولوجية وفرص التنظيم العقلاني للتنمية الاجتماعية، قد يتوسع المجال التكنولوجي بشكل لا يمكن السيطرة عليه، مما يؤدي إلى زيادة في استهلاك الموارد. كما قد يحدث تدخُّلٌ تكنولوجيٌّ تلقائي/أوتوماتيكي في الطبيعة البشرية ذاتها. لذلك، يجب علينا أوّلاً مواءمة الرغبات المادية والروحية، ولن تصل الأخيرة إلّا تدريجياً إلى حدّ تفوقها على الأولى. لا يمكن لنهضة الحضارة المعرفية أنْ تتحقّق إلّا في ظلّ هذه الظروف. حينها، ستصبح المعرفة، وليس «الاقتصاد»، الوسيلة الذكيّة لتلبية رغبات الأفراد والمجتمع المعرفي ككل.


التعاون للقضاء على عواقب النيوليبراليّة


في تقييمه لعمل بودرونوف، كتب البروفسور إنفو تشنغ، رئيس الأكاديمية الماركسية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، ورئيس الجمعية العالمية للاقتصاد السياسي (WAPE) يقول: «سيرغي بودرونوف باحثٌ روسيٌّ بارز وخبيرٌ عالَمي في قضايا الانتقال من الاقتصاد الصناعي الجديد إلى نوعية جديدة من الحياة العامة، والتي يُطلق عليها اسم «النوونومي» Noonomy. عُرِضَت أفكارُه النظرية في العديد من المنتديات الدولية وفي سلسلة من الكتب. وتُلخِّص أحدثُ دراسات بودرونوف، كتاب «النوونومي»، إنجازاته السابقة. وتُعدّ الخلاصة العَملية التي توصَّل إليها المؤلِّف وثيقةَ الصلة بالموضوع: تحتاج روسيا إلى تبنّي سياسةٍ اجتماعية واقتصادية تُمكِّنُ مِن تسريع التقدم من خلال التقييم النقدي للتجارب الصينية وتجارب شمالي أوروبا ودمجها، أيْ إدخال نظام تخطيط فعّال بالتزامن مع السوق. وينبغي على الصين وروسيا القضاء على تأثير الاقتصاد النيوليبرالي، والسعي إلى تعاون استراتيجي شامل في عملية تطوير جيلٍ جديد من التَّصنيع والنوونومي [الإدارة الإنسانية الذكيّة للمجتمع]، ومكافحة الهيمنة الاقتصادية معاً، وإحداث فارقٍ إيجابيّ لشعبَي البلدين والعالَم!».

وكان الاقتصاديّ الأمريكي-الكَنَدي جون كينيث غالبريث (المتوفَّى عام 2006) والمتأثر بالكينزيّة، أحد المصادر للأفكار التي طوَّرها بودرونوف. ويقول ابنه جيمس غالبريث (الأستاذ حالياً في جامعة تكساس في أوستن): إنّ بودرونوف يقدِّم «بحثاً معمّقاً في مصادر الرفاهية وضرورة دمج التكنولوجيا والثقافة في بناء اقتصاد المعرفة في ظلّ التحديات البيئية وقيود الموارد. وسيُقدّر القرّاء الغربيّون بشكلٍ خاصّ توليفَة سيرغي بودرونوف بين النصوص الروسية والغربية - ولا سيّما نصوص والدِي - في تطوير أفكاره. يُعدّ كتاب (النوونومي) نموذجاً، من بين أمور أخرى، للبحث والاستدلال العابر للأمم والثقافات».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1249
آخر تعديل على الأحد, 26 تشرين1/أكتوير 2025 20:56