الشكل المُعاصِر للحرب الأهلية الأمريكية واستغلال «البروليتاريا الرثّة»
نشر الصحفي الماركسي الأمريكي راينر شيا مقالاً حديثاً توقّع فيه أنَّ المرحلة القادمة داخل الولايات المتحدة الأمريكية سوف تشهد استغلالاً متزايداً لـ«البروليتاريا الرثّة» في الحرب الأهلية الأمريكية الجديدة التي تظهر بوادرها ومؤشراتها، ولا سيّما مع تعمُّق الأزمة الإمبريالية العالمية عموماً، وأزمة أفول الإمبراطورية الأمريكية خصوصاً.
إعداد وتعريب: د. أسامة دليقان
بدأ شيا مقاله، المنشور في منتصف أيلول الماضي، بالإشارة إلى تغريدة سابقة (في 1 حزيران 2024) للناشط السياسي والصحفي الأمريكي ذي الاسم المستعار «حظّ الدّين/Haz Al-Din»، والذي وصَفَهُ شيّا بأنّه «رئيس مجلس الحزب الشيوعي الأمريكي»، حيث أسّس حظّ الدّين في صيف العام نفسه (2024) مع زميله الصحفي والمعلّق السياسي الأكثر شهرة منه، جاكسون هينكل، تنظيماً باسم «الحزب الشيوعي الأمريكي».
أعرب «حَظّ الدِّين» في تغريدته المذكورة عن تصوّره العام لشكل الحرب الأهلية الأمريكية الحديثة. ولذلك نورد في البداية النصَّ الكامل لتلك التغريدة قبل عرض تحليل شيا.
أسرع بكثير ممّا تظنّون
كَتَب حظّ الدِّين: «نعم، أمريكا تتجه بالتأكيد نحو الحرب الأهلية. في الواقع، نحن فيها بالفعل. إنَّ السياسة هي حربٌ بوسائل أخرى. تسليح الإعلام والمجتمع المدني، والآن النظام القانوني، هو بالفعل شكلٌ من أشكال الحرب. عندما تبدأ الحرب الأهلية رسمياً، سوف تنسابُ بسلاسَةٍ إلى حدٍّ ما. لن تكون مواجهةً دراماتيكية بين جيشين نظاميَّين، كما في الحرب الأهلية الأولى، بل انهيارٌ متقطِّع لسيطرة الدولة. لا تنظروا إلى أبعد من شيكاغو لتروا كيف يبدو هذا. نعم، ستستمر الحياة كالمعتاد، ستواصل الشركات عملها كالمعتاد، وسيواصل الناس الذهاب إلى أعمالهم. لكن في أغلب الأحيان، ستصبح الاشتباكات المسلِّحة والعنف والهجمات أمراً طبيعياً. ستفتقر الحكومة ببساطة إلى قدرة موحَّدة على العمل. بالمناسبة، إنّ المقدّمة لهذا الأمر - الإغلاق الحكوميّ - قد وُضعت بالفعل. قد تستمر الأنظمة القانونية في العمل كما كانت تفعل من قبل، على المستوى المحلّي ومستوى الولايات، ولكن علاقتها بالسلطة الفيدرالية هي التي ستتغير؛ أو بشكل أكثر تحديداً، سيتم تقسيمُها. إن أولئك الذين يقلِّلون من احتمال اندلاع حرب أهلية في الولايات المتحدة لا يفهمون الحروب الأهلية الحديثة. إنّها ليست مواجهات دراماتيكية بين جيوش عملاقة، بل هي بالأحرى تطبيعٌ للعنف السياسي. إنَّها لا تُغلِقُ كلَّ مناحي الحياة، بل تجعلُنا عديمي الإحساس إزاء سماع أخبار إطلاق نار هنا، أو مذبحة هناك، أو ربما بضعة تفجيرات. إنّ هذا هو الاتجاه الذي تتجه إليه أمريكا. والخطأ الذي يقع فيه الناس هو الاعتقاد بأن انهيار السلطة الفيدرالية سيكون دراماتيكياً. الحقيقة، إننا اعتدنا على هذا الانهيار. الفوضى أمرٌ طبيعيٌّ بالفعل في أجزاءٍ كثيرةٍ من هذا البلد. ولن يتطلب الأمر الكثير حتى تُفضي أزمةٌ دستوريةٌ إلى انقسامٍ في الآراء حول مَن يكون الرئيس. وسيكون هناك العديد من المطالبين بالسلطة المركزية، وليس اثنين فقط. سيتم تقسيم الجيش والحرس الوطني من الداخل. لن يكون النزاعُ سلسلةً لا نهاية لها من المعارك الضخمة، فكثيرٌ من النزاعات الدولية تطول مدتها. ومن الواضح بشكل خاص أن الولايات المتحدة قد فقدت ببساطة إرادة الاستماتة في القتال من أجل وجودها. ويفضل معظم الناس العودة إلى منازلهم ومشاهدة نتفليكس. سوف تتجلَّى في حياتنا، هنا وهناك، حقيقةُ أننا لا نعرفُ مَن هي الحكومة الحقيقية. لكن في الغالب لن تكون ثمَّة حكومةٌ حقيقية. سوف تموت بشكل سلبي، وتنحدر إلى الفوضى. كل هذا سيحدث، وأسرع بكثير ممّا تظنّون».
شيّا: مهمّتنا إنهاءُ الحرب وتوحيدُ الجماهير لبناء الاشتراكية
بينما تُدبّر نخبنا هذا الصراع الداخلي الكبير، فإن الحليف الفعال الذي ستحتاجه لتنفيذ أعمال العنف هو «البروليتاريا الرثة». هذه هي الطبقة الاجتماعية التي لا تستطيع كسب عيشها من العمل المُنظَّم، سواءً بسبب البطالة أو تدنّي الأجور، ممّا يُجبرها على البقاء، جزئياً على الأقل، بوسائل غير مشروعة. إنّ هذه الفئات من البروليتاريا الرثة التي تستخدم العنف لتحقيق مصالحها المادّية، مثل العصابات، غالباً ما تتلقّى رعايةً نشطة من الدولة الرأسمالية. لذا، سيلعبون دوراً حاسماً في هذه الحرب الأهلية التي سيخوضها حكّامنا المنقسمون ضد بعضهم بعضاً، وضد الشعب الأمريكي.
هذا لا يعني بالضرورة أنّ على العمّال معاملةَ البروليتاريا الرثة كأعداء طبقيين. في الواقع، عند دراسة أوضاعنا اليوم، يتضح أن عدداً متزايداً من العمال الأمريكيين أنفسهم يزدادون «تخمةً» تدريجياً. هذه نتيجة أزمات البطالة والتضخم التي تشهدها بلادنا: يُدفع المزيد والمزيد من الناس إلى كسب عيشهم، جزئياً على الأقل، من خلال أنشطة سرّية، أو أنشطة كان من المفترض أن تكون غير قانونية لكن البرجوازية عززتها.
سوف ينجحون في تجنيد قسم من البروليتاريا الرّثة لخوض الحرب الأهلية في بلدنا بين الرأسماليين، ولكن يمكن، بل يجب، ضمّ العديد من الأجزاء الأخرى من هذه البروليتاريا الرثّة إلى الجانب الثوري. إنّ ضمّ البروليتاريا الرثّة لا يعني أنّ على الشيوعيين جعل جهودهم التنظيمية «رثّة»، أي مُتشبِّهة بعادات ومواقف البروليتاريا الرثّة؛ بل يعني العكس.
إنّ إعادة دمج الطبقة العاملة يعني إتاحة الفرصة لمن فُصلوا من الطبقة العاملة لكي يعودوا إليها. على المدى البعيد، سيبدو هذا أشبه ببرنامج حكوميّ فعلي للقضاء على البطالة. على المدى القصير، سيبدو هذا أشبه بحملة للنهوض بمجتمعاتنا الفقيرة اقتصادياً بالطرق التي يمكن لأي حزب أن يفعلها قبل وصوله إلى السلطة؛ يجب أن ننشئ المزيد من الشركات، ونوفر المزيد من الفرص للناس للحصول على الموارد من خلال مساعدات الحزب، ونوفّر المزيد من مصادر العيش التي لا تأتي من استغلال البروليتاريا الرثّة. فقط من خلال المثابرة على هذه الجهود لمساعدة الناس، سنتمكن من قيادة الناس وتزويدهم بالوسائل اللازمة للتغلب على الفوضى المصطنعة للبرجوازية.
لعل المثال الأكثر خزياً وعاراً لهذا الاستغلال هو صعود صناعة الجِنس والإتجار فيه، والذي شهدناه طوال عشرينيات القرن الحادي والعشرين، وهي مأساة توضّح الدور الذي يجب أن يلعبه الشيوعيون في مكافحة «التخمة». يتخذ الحزب الشيوعي الأمريكي موقفاً يقضي بإلغاء جميع جوانب صناعة الجنس، وستأتي هذه السياسة بالطبع مع بدائل اقتصادية تغني المُستَغَلِّين عن ما يسمّى «العمل الجنسي». في ظلّ النظام الذي سيبنيه الماركسيون الأمريكيون، لن تكون صناعة الجنس وجميع موارد الدخل الأخرى أشياءَ يُحفّز الناس على البحث عنها، حيث ستتم هيكلة اقتصادنا حول ضمان نموٍّ لا حدود له في ازدهار مجتمعنا المُتعاوِن جماعيّاً.
خلال الحرب العالمية الأولى، عندما كان رأسماليو الدول الإمبريالية على خلاف بين بعضهم بعضاً، لاحظ لينين كيف أنّ هذا النوع من الصراع البرجوازي الداخلي: «يُولّد حتماً، بناءً على وضع ثوري موضوعي، مشاعرَ ثورية لدى الجماهير. واجبنا هو المساعدة في جعل هذه المشاعر واعية، وتعميقها، ومنحها شكلاً. والتعبير الصحيح الوحيد عن هذه المهمة هو شعار (حوّلوا الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية). كلُّ صراع طبقي متّسق في زمن الحرب، وكل (عمل جماهيري) يُدار بجدية، لا بد أن يؤدي إلى هذا حتماً» (لينين، آب 1915، الاشتراكية والحرب).
تنطبق هذه النصيحة أيضاً على ظروفٌ مختلفة، ولكن بطريقةٍ مختلفة؛ إنّ مهمّتنا هي إنهاء الحرب الأهلية التي أشعلتها طبقتنا الحاكمة، وبالتالي توحيد الجماهير الأمريكية خلف جهود بناء الاشتراكية. هذا النوع من الحرب الأهلية هو النسخة الحالية من الحروب الإمبريالية القديمة؛ إنه مثالٌ آخر على صراع الرأسماليين فيما بينهم على أرباح الإمبريالية الهائلة. لذا، عندما يقوم الشعب الأمريكي بما يُعادل «تحويل الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية»، سيبدو الأمر وكأنه مشروعٌ لإخراج الجماهير المسحوقة من حالتها العاجزة، وتحويلها إلى وحدة ثورية متماسكة ومنظَّمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1247