الاشتراكية الصينية (2 – مُعضِلات الإصدار الأوّل)
تحوّلت الصين تدريجياً إلى دولة صناعية بين تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 وبداية الإصلاح والانفتاح أواخر السبعينيات. نجح ماو تسي تونغ بتأسيس التصنيع عبر «النموّ القوي قبل الثراء»، ولكن رغم العدالة الاجتماعية النسبية التي قلّلت التفاوت الطبقي كثيراً، ظلّ السكان في فقر عموماً، ما دفع ماو لمحاولات -غير موفَّقة- لحلّ المشكلات الباقية والمستجدّة عبر «القفزة العظيمة إلى الأمام» (1958–1962) و«الثورة الثقافية» (1966–1976)، ممّا حثّ القيادات اللاحقة للحزب والدولة لبحث حلول أخرى في «الإصدار الثاني من الاشتراكية».
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
كان للنظرية الاشتراكية الماركسية الأهداف الأساسية التالية: التغلب على الملكية الخاصة الرأسمالية والمنافسة غير المنظمة من خلال الملكية العامة والاقتصاد المخطط، والقضاء على الاستغلال، وتوزيع الثروة وفقاً للعمل (لكلٍّ حسب عمَلِه). وكانت الفرضيات الأوّلية لمؤسّسي الماركسية تتصوّر أنها ستبدأ في البلدان الرأسمالية المتقدمة أوّلاً، بناءً على واقع وصول تراكم رأس المال فيها إلى درجة عالية، وبالتالي توفّر الظروف للاقتصاد المخطَّط والتوزيع وفقاً للعمل. ومع ذلك، لم يكن الاتحاد السوفييتي ولا الصين من البلدان الرأسمالية المتقدّمة، وبالتالي كانت الخطوة الأولى في هذه البلدان هي تحديد كيفية مراكمة رأس المال بسرعة لوضع الأساس للملكية العامة.
المعضلات الداخلية لـ«الاشتراكية1»
مع بداية القرن العشرين، كانت بنية «مركز مقابل أطراف» للرأسمالية العالمية قد تشكلت، ممّا يعني أن البلدان الاشتراكية لن تستطيع الاعتماد على السوق العالمية لتحقيق تراكم سريع لرأس المال. فكان عليها أحياناً كثيرة أنْ تجرّب، وأحياناً أخرى أنْ تغيّر بسرعة سياساتها الاقتصادية؛ وهي الديناميّة التي كانت واضحة في الاتحاد السوفييتي. فخلال الحرب الأهلية، قامت «شيوعية الحرب» بين 1918 إلى عام 1921 بقيادة لينين، وأمّمت الاقتصاد بشكل شبه كامل واستولت إجباريّاً على المنتجات الغذائية من الفلاحين لتوزّعها لصالح مواجهة المجاعات وضمان حياة الناس والعمّال والصناعة في المدن والريف معاً والدفاع على سلطة الثورة الوليدة، في ظل حالة طوارئ ومواجهة الاعتداءات الخارجية والداخلية.
وبعد انتهاء الحرب الأهلية، ونظراً للحاجة الملحّة لزيادة الإنتاجية، اضطر لينين إلى تعديلات جذرية، وتقديم تنازلات إلى حدٍّ ما، فابتكَرَ السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب 1921–1928) مما سمح بتطورٍ لاقتصاد السوق والعناصر الرأسمالية، ولكن تحت سيطرة دولة العمّال والفلّاحين. ثمّ تبنّى ستالين نهج استبدال السوق بنظام بيروقراطي منظَّم يتولّى المسؤولية الثقيلة المتمثلة في التخطيط والتوزيع وبناء الدولة الاشتراكية والتحوّل الصناعي السريع والضخم بحيث استطاعت هزيمة الفاشية المدعومة من الدول الإمبريالية الكبرى التي كانت تخطّط لدفن الاشتراكية إلى الأبد.
المرحلة الأوّلية للتصنيع في الصين
قامت المرحلة الأولية من التصنيع الصيني على حرمان المناطق الريفية من فوائضها الزراعية لصالح توجيهها نحو التصنيع، وكانت هذه إحدى وظائف حركة المشاعات (الكوميونات) الريفية. ولكن بالمقارنة بالاتحاد السوفييتي، لم تُحمّل الصين تكاليف تراكم رأس المال الصناعي بالكامل على المناطق الريفية، بل دعا ماو ورفاقه البلادَ كلّها إلى «شدّ الأحزمة»، ومشاركة السكان بالكامل في تكاليف تراكم رأس المال. ومن الناحية الموضوعية، لعب الاقتصاد المخطّط في الاتحاد السوفييتي والصين دوراً إيجابياً في المرحلة الأولية من التصنيع تحديداً، عندما كانت الهياكل الاقتصادية والاجتماعية بسيطة نسبياً. ولكن بمجرد أنْ بدأ تقسيم العمل الصناعي يتعقّد أكثر، وامتدّت سلسلة الإنتاج، انحدرت سريعاً كفاءةُ نموذج التخطيط القائم، و«انسدّت الأنابيب» في مختلف أنحاء النظام الاقتصادي.
«أزمة المعلومات» في التخطيط
حدثت «أزمة معلومات» لغياب ردود فعل كافية لإجراء التعديلات السياسية المناسبة في الوقت المناسب. ورغم أمل ماو في تحقيق مفهوم ماركس لسيطرة العمال على وسائل الإنتاج عبر إعطاء الأولوية لمشاركة الناس في إدارة الإنتاج، إلّا أنّ صعوبات جديدة ظهرت مع تقدّم التصنيع، واشتداد تقسيم العمل، في الصناعة وكذلك في وظائف المديرين والباحثين العلميين. فمع تعقّد عمليات الإنتاج والاستهلاك والتوزيع تزداد كمّية المعلومات المتولّدة بسرعة مقارنة بالمجتمع الزراعي، الأمر الذي يتطلّب بالضرورة نظاماً بيروقراطياً منظَّماً لإدارة المعلومات، ليس داخل وحدات الإنتاج فقط بل وفي المجتمع ككل.
وهكذا، في أوقات التطور السلمي، تكون إحدى العواقب الجانبية للتصنيع هي أنّ الحزب السياسي الطليعي وجهاز الإدارة يصبحان عرضةً للانقسام بسرعة إلى مكوّنات بيروقراطية متزايدة التعقيد وإلى مجموعات سياسية مختلفة. وكان ماو يأمل في إمكانية معالجة هذه المشكلة عبر إحلال التنظيم الذاتي للشعب بديلاً عن النظام البيروقراطي. ولعلّ ثقته جاءت من خبرة الحزب الشيوعي الصيني في حرب الشعب عندما نجح بتعبئة اجتماعية قويّة وعمليات سياسيّة ديناميّة، من خلال ممارسة «الخط الجماهيري» ودمج الحزب الطليعي مع الشعب.
فكان ماو يريد إحياء النموذج التنظيمي لحَرب الشعب أثناء الثورة الصناعية، بحيث يكون أداةً لدفع التنمية الوطنية إلى الأمام؛ إلّا أنّه كان صالحاً للنجاح في سياقٍ تاريخي محدّد فقط؛ عندما كان هناك شعور شعبي قويّ بالإلحاح بسبب الحرب الأهلية الصينية (1927–1937؛ 1945–1949) وحرب المقاومة ضد العدوان الياباني (1937–1945). أمّا بعد انتصار الثورة وبدء البناء الوطني، فتلاشى هذا الشعور بالإلحاح تدريجيّاً. ولم تكن ظروف عصر «الاشتراكية1» مواتية لمساعدة الناس على التعامل مع تعقيدات تنمية البلاد، في حين تعرّضت الأنظمة البيروقراطية للحزب والحكومة للتشويه، وتفكّك التنظيم الذاتي للجماهير، سواء بغير قصد أو بتخريب متعمَّد. ولذلك واجهت أهداف ماو في الممارسة العملية صعوبات شديدة.
أزمة في «إعادة الإنتاج المُوسَّع»
المشكلة الثانية التي لم يكن ممكناً حلّها آنذاك، هي تعديل نظام التراكم العالي خلال السنوات الأولى لجمهورية الصين الشعبية. فبعد انتهاء التراكم الصناعي الأولي، تمثّل التحدّي التالي أمام الدولة الاشتراكية في تعزيز دورة مستقرة لإعادة الإنتاج الموسع. وهذا ينطوي على مهمّتين:
أولاً- ضرورة ضبط نسبة التراكم والاستهلاك بشكل معقول، وإجراء إصلاحات في السياسة المالية والضريبية، وتوليد الطاقة المستدامة للنمو الاقتصادي. ومع ذلك، خلال «الاشتراكية1» كانت السياسات المالية والضريبية في الصين محافِظة نسبياً، ما أدى لنقص المعروض النقدي، وكبح توسع الاستهلاك وبالتالي نقص الدافع للترقية الصناعية.
ثانياً- ضرورة حلّ مشكلة دمج الاقتصاد الوطني في النظام الاقتصادي الدولي. فالنظام الحديث للإنتاج الصناعي الشامل يعتمد على مدخلات الموارد والمنتجات التي تمتد عبر الحدود والمناطق. ومن الصعب الحفاظ على النمو الاقتصادي عند الاعتماد الحصري على الاستثمار والاستهلاك المحلّيين؛ بل يجب إنشاء دورة اقتصادية فعّالة من خلال التجارة الدولية للحفاظ على الحيوية.
في وقت مبكر من ثلاثينيات القرن العشرين، حاول الاتحاد السوفييتي جذب رأس المال والتكنولوجيا من الولايات المتحدة التي كانت في أزمة اقتصادية آنذاك، واستطاع تعزيز التنمية السريعة للاقتصاد السوفييتي. لاحقاً، التزم الاتحاد السوفييتي ببناء المعسكر الاشتراكي، ليس لأسباب سياسية وأمنية فقط، بل وكذلك لإنشاء دورة اقتصادية بين الدول الاشتراكية.
وبعد ثورة 1949، انضمّت الصين إلى المعسكر الاشتراكي وتلقّت قدراً كبيراً من رأس المال السوفييتي والدعم الفني، وخاصة بعد الحرب الكوريّة (1950-1953)، مما مكّنَ التصنيع الأساسي في الصين من التقدّم بسلاسة، ومع ذلك، أنتج النظام الاقتصادي الذي قاده السوفييت أيضاً اختلالات التوازن الخاصة به بين البلدان. في النهاية، اختار ماو وقيادة الحزب الانفصال عن النظام السوفييتي، كما انفصل عن النظام الاقتصادي العالمي الرأسمالي في عام 1949، ما أدّى إلى إغلاق اقتصاد الصين نسبياً لفترة طويلة.
ملخَّص رؤية «الاشتراكية1»
في ظل ملكية عامة لوسائل الإنتاج، يديرها العمّال جماعياً وينتجون لأجل رفاهتهم المادية والروحية بدلاً من الربح، خلق الاقتصاد المخطط ونظام الملكية العامة نظاماً للتراكم يتقاسم فيه كلّ الناس التكاليف، واكتمل التصنيع الأساسي في مدّة قصيرة نسبياً. مع ذلك، كانت قيود هذا النموذج تتعلّق باستدامة التنمية الداخلية وصعوبات الاتصال بالدورة الاقتصادية الخارجية. في النهاية، لم يكن أسلوب الإنتاج والقدرة التنظيمية للصين أثناء «الاشتراكية1» كافيَين لاكتمال تحقيق المُثل الاشتراكية للمساواة والتعاون. فكان هذا هو التحدّي الذي واجه دينغ شياو بينغ وغيره ممّن قادوا الصين إلى مرحلتها الثانية من الاشتراكية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1203