التفريق اللينينيّ بين «التسوية» و«المُساوَمة»
في مقاله «بصدد التسويات» الذي كتبه عام 1917، قال فلاديمير لينين: «يعني مصطلح التسوية في السياسة التنازلَ عن مطالب معينة، وأنْ يتخلّى طَرفٌ عن جزءٍ من مطالبه بالاتفاق مع طرف آخَر». وكتب لينين عام 1920 في «مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية» بأنه ينبغي بذل الجهود الضرورية لإجراء التقييم المناسب للطبيعة الفعلية لهذه «التسوية» أو تلك.
هناك أنواع مختلفة من «التسويات». على سبيل المثال، يمكن أن تكون التسوية قسرية أو طوعية. تكون التسوية قسرية عندما تكون ناجمة عن ظروف سياسية-اقتصادية موضوعية مع عدم انتقاصها في الوقت نفسه من التفاني في النضال الطبقي. وهناك التسوية الطوعية أو ما يمكن تسميتها «المساومة» وهي تلك الناجمة عن تصرّفات التخاذُل أو حتى الخيانة.
لقد أوضح لينين الفرق بين هذين النوعين من «التسويات» في مقاله بعنوان «بصدد التسويات»، الذي يترجَم أحياناً «بصدد المساومات»، ولمنع الالتباس في التعريب نجد أن كلمة «كومبروميس» الأجنبية تحمل بالفعل معنى إيجابياً لما تعطيه كلمة «التسوية» العربية، بمعنى التفاوض والوصول إلى حلول وسط في القضايا الشائكة والمعقّدة، أو التي لا يسمح ميزان القوى بحلولٌ تناحرية فيها، وكذلك تحمل معنى «المساوَمة» ذي المدلول السلبي أو الاستسلامي، بمعنى تلك الحالات التي يكون فيها ميزان القوى يسمح ويمكّن واقعياً من حلول أكثر جذرية وحسماً بما يحافظ على الظاهرة ويرفعها إلى مستوى أعلى في التطوّر، ولكنْ يقوم الحزب أو الطرف السياسي بـ«مساومة» بمعنى التخاذل والانهزاميّة. فبين الحالتين فرقٌ هامّ على مقياسِ التقدّمية والثوريّة.
وفي مؤلَّفه «بصدد التسويات» يوضّح لينين: «إنّ التنازل عن بعض المطالب، العدول عن قسم من المطالب بموجب اتفاق مع طرف آخَر، يسمّى في السياسة مساومةً».
«إنّ الفكرة التي يكوّنها عادةً التافهون الضيّقو الأفق عن البلاشفة، والتي تدعمها الصحافة المفترية على البلاشفة، تتلخَّص في كون البلاشفة لا يوافقون أبداً على المساومات أياً كانت ومع أيٍّ كان».
«إنّ هذه الفكرة تطيب لنا بوصفنا حزب البروليتاريا الثورية، لأنها تبين أنّه حتى الأعداء مضطرون إلى الاعتراف بإخلاصنا للمبادئ الأساسية للاشتراكية والثورة. ولكنْ ينبغي مع ذلك قول الحقيقة: إنّ هذه الفكرة لا تنطبق على الواقع. لقد كان إنجلس على حقّ عندما سخِرَ في انتقاده لبيان الشيوعيين البلانكيين (عام 1873) من تصريحهم: «لا مساومة!». وقال إنّ هذه مجرد عبارة فارغة، لأنّ التسويات كثيراً ما تفرضها الظروف على الحزب المناضل بصورة لا مفرّ منها، ومن السخافة الامتناع قطعاً عن (قبول تسديد الدين أقساطاً) [يقصد لينين الوصول للأهداف بالتدريج]. إنّ مهمّة الحزب الثوري حقاً لا تفرض عليه أن يمتنع عن أيّ تسوية ويعتبرها أمراً مستحيلاً، بل تفرض عليه أن يعرف كيف يبقى –عبر جميع التسويات ما دامت محتَّمةً ولا مفرّ منها- مُخلِصاً لمبادئِه، لطبَقتِه، لمهمّته الثورية، لواجبه، واجب إعداد الثورة وتربية جماهير الشعب من أجل إحراز النصر في الثورة».
التسويات الاقتصادية والسياسية
يمكن عقد تسويات في النضال الاقتصادي أيضاً، كما تفعل النقابات في كثير من الأحيان أثناء نضالها، وكذلك في النضال السياسي. وفي نقاشه للتسويات في النضال السياسي قال لينين عام 1920:
«في السياسة، وعندما تكون مسألة ما مرتبطةً بعلاقات شديدة التعقيد... بين الطبقات والأحزاب، سوف تنشأ حالات كثيرة جداً تكون أصعب من قضية «تسوية» مشروعةٍ في إضرابٍ ما، أو «مساومة» خيانيّة من قِبَل أحد كاسري الإضراب، أو قائدٍ خائن...إلخ».
في سياق النضال من أجل تجاوز المجتمع الرأسمالي وإقامة مجتمع ديمقراطي حقيقي جديد، تجبر الظروفُ الطبقةَ العاملة على تقديم تنازلات في المجال السياسي. وفي معرض محاجَّته ضد الكومونيين البلانكيين، قال فريدريك إنجلس (واقتبسَها عنهُ لينين عام 1920) إنّه من الخطأ الاعتقاد بأننا «نريد تحقيق هدفنا دون التوقّف في محطّات وسيطة، ودون أيّ تنازلات، وهو ما لا يؤدّي سوى إلى تأجيل يومِ النصر وإطالة فترة العبودية».
وكان لينين لاذعاً في انتقاداته للشيوعيّين الألمان آنذاك الذين اعتقدوا أنّ «كل تسوية مع الأحزاب الأخرى... وأيّ سياسة مناورة وتسوية يجب رفضها بشكل قاطع». إنّ إطلاق صراع طبقي، وهو طويل ومعقَّد، ضّد البرجوازية، على المستوى الوطني والعالمي، و«التخلّي سَلفاً عن أي تغيير في المسار، أو أيّ استغلال لصراع المصالح بين الأعداء (حتى لو كان مؤقّتاً)، أو أيّ مصالحة أو تسوية مع حلفاء محتملين (حتى لو كانوا حلفاء مؤقَّتين أو غير مستقرّين أو متذبذبين أو مشروطين) - أليس هذا سخيفاً إلى حد كبير؟» (لينين، مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية).
«إنّ العدوّ الأقوى يمكن هزيمته... من خلال الاستخدام الأكثر شمولاً وحرصاً واهتماماً ومهارة وإلزاميةً لأيِّ صَدْع [شِقاق] بين الأعداء، حتى أصغر صَدْع... وأيّ صراع مصالح... بين المجموعات أو أنواع البرجوازية المختلفة...» (المصدر نفسه).
في الواقع، يؤكّد لينين أنّ تاريخ الحركة الاشتراكية بأكمله «قبل ثورة أكتوبر وبعدها، مليء بحالاتِ تغيير التكتيكات، والتكتيكات التوفيقية، والتسويات مع الأحزاب الأخرى، بما في ذلك الأحزاب البرجوازية!».
إنّ هذا الأساس النظري الماركسي-اللينيني ضروريّ في توجيه النضال السياسي العملي للحزب الثوري وتوجّهه المناسب تكتيكياً في كل حالة ملموسة. وإنّ الأساس العِلمي الأعمق لهذا الموقف يكمن في المنهج الفلسفي المادي الديالكتيكي الذي لا يقع في وهم «إمّا أبيض أو أسود» في تقييم أيّ ظاهرة، بل ينظر إليها في تطوّرها وحركتها وحتى انقلابها إلى ضدّها، لأنها أصلاً تحتوي على نقيضها، كما عبّر لينين عن ذلك، على سبيل المثال، في مؤلّفه عن «انهيار الأممية الثانية» عندما كتب: «لا توجد ظواهر (نقية)، ولا يمكن أن توجد، سواء في الطبيعة أو في المجتمع – هذا ما يعلّمنا إيّاه الديالكتيك الماركسي، لأنّ الديالكتيك يُظهِر أنَّ مفهومَ النقاء ذاته يشير إلى ضِيقٍ معيَّن، وجانبٍ واحدٍ من الإدراك البشري، الذي لا يمكنه أن يحتضن موضوعاً بكلّ كليته وتعقيده».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1204