علماء أمريكيّون: سلاحنا النووي «شائخ» ونعمل على «تطويره» بلا اختبارات!

علماء أمريكيّون: سلاحنا النووي «شائخ» ونعمل على «تطويره» بلا اختبارات!

نشرت مجلة العلم الأمريكية الشهيرة (Science Magazine) مقالاً في عددها للشهر الماضي (21 نيسان 2023) بعنوان: «كنْ واثقاً ولكن تأكّدْ: المختبرات الأمريكية تقوم بإصلاح وترميم مخزونها النووي، فهل يمكن التحقُّق من صلاحية الأسلحة دون اختباراتٍ للقنابل؟». والمقال، إضافة إلى احتوائه على اعترافات بمشكلات علمية-تقنيّة «خطيرة» من وجهة نظر الأمن القومي الأمريكي، وعدا عن مساهمته الوظيفية في البروباغاندا السياسية الأمريكية، يعتبر كذلك مثالاً جديداً يعكس الحالة المتردّية التي وصل إليها التجاهل أو القفز عن أساسيّاتٍ في المنهج العلمي؛ كقاعدة أنّ «التجربة معيار الحقيقة»، في ظلّ الاعتماد المفرط على «النَّمذَجات» و«المحاكاة» الحاسوبية، التي رغم أهميّتها وفائدتها، لكن يبدو أنّها باتت أيضاً تُستخدم كذرائع للابتعاد عن التجارب الواقعية والأكثر تكلفة، ولا يخفى أنّ الأزمة الاقتصادية الرأسمالية عاملٌ مهمّ في الضغط بهذا الاتجاه.

في السلاح النووي الحقيقي، تعمل متفجّرات تقليدية على نسف «حُفيرة» بلوتونيوم، بحيث يتم إيصال هذا المعدن إلى كثافة حرجة تُطلِقُ العنان لتفاعل انشطاري متسلسل انفجاري. وبدورها، تقود طاقة التفاعل إلى اندماج نظائر الهيدروجين في المرحلة الثانية من عمل السلاح، مولّدةً مزيداً من النوترونات، والتي تشطر بدورها مزيداً من الوقود الانشطاري النووي. وهكذا تتعاقب في عمل السلاح مراحل (انشطار-اندماج-انشطار) محرّرةً كمية هائلة من الطاقة، حيث يمكن لرأس حربي نووي بطول متر واحد أنْ ينفجر بقوة مكافئة لمليون طن من مادة TNT، فإذا ألقِيَ على مدينة ما، تتبخّر منطقة بقطر 2.5 كيلومتراً على الفور، بينما تعمل موجة النشاط الإشعاعي للانفجار على تهديم المباني لمسافات أبعد بكثير من هذه الدائرة، وسوف تقتل نحو نصف مليون إنسان وتخلّف عدداً مماثلاً من الجرحى أو المرضى.

«محاكاة» بغير البلوتونيوم

سلّطت المقالة المذكورة الضوء على منشأة علمية عسكرية تقع ضمن أراضي مختبرات «لوس ألاموس» الشهيرة ذات الحراسة المشدّدة في ولاية نيومكسيكو الأمريكية، تسمّى DARHT – اختصار لـ«اختبار الموائع الديناميكي التصويري-الشعاعي ثنائي المحور»: تُستخدَم لدراسة حركة الموائع (السوائل والغازات والأصلاب اللَّدنة) والمعادن الصلبة المتحوّلة لموائع تحت شروط متطرّفة كالضغوط والحرارة العالية. وتُجرَى تجاربها داخل وعاء فولاذي بشكل جرس، ولكنّه لا يمثّل قنبلة بلوتونيوم نووية حقيقية، بل يحاكيها، حيث يحتوي على «حفيرات» pits مزيّفة، أكبر قليلاً من كرة قدم، مصنوعة من معادن كثيفة كالرصاص أو التنتالوم أو اليورانيوم المستنفَد، مشابهة بالخصائص لحفيرات البلوتونيوم الحقيقية عدا ميل الأخير للانشطار. وبشعاعين عموديَّين من الأشعة السينية يُصوَّرُ الانفجارُ الداخلي للحُفيرة، ليقارِنَ علماء الأسلحة الصُّور بمحاكاة على كمبيوتر عملاق لمعرفة «مدى تطابق العالَمين الحقيقي والرَّقمي».
أوْلَتْ وزارةُ الحرب الأمريكية اهتماماً بمنشآت مثل DARHT منذ العام 1992، بعد قيام مختبرات الأسلحة الثلاثة التابعة لوزارة الطاقة (لوس ألاموس، ولورانس ليفرمور الوطني، وسانديا الوطني) بإيقاف الاختبارات الكاملة للأسلحة النووية. وبحلول عام 1996 وقّعت أمريكا على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وباتت تعتبر خياراتها الوحيدة لضمان عمل رؤوسها الحربية: منشآت مثل DARHT، ومحاكاة حاسوبية لـ«شيفرات الأسلحة»، وذاكرة تخزين البيانات من الأيام الخوالي للتجارب النووية. واعتبرت ذلك كافياً لتغييرات طفيفة على الأسلحة القديمة (كوضع فتيل جديد، وتعبئة جديدة من التريتيوم نظير الهيدروجين). وفي كلّ عام، كانت كلّ من الإدارة القومية الأمريكية للأمن النووي (NNSA) بوزارة الطاقة الأمريكية، ووزارة الدفاع، تصادقان على المخزون؛ وهو تقييم يعني أنّهما مقتنعتان بأنّ الأسلحة ستعمل إذا استخدمت في حرب قادمة. ويقول جيف ويلسون، مدير مركز المعلومات الدفاعية في مشروع الرقابة الحكومية، الذي يؤيّد خفض الإنفاق على الأسلحة النووية: «نظراً لأننا فجّرنا الكثير منها، فإنّ هذه الأشياء يمكن الاعتماد عليها بشكل مُذهل» على حدّ تعبيره.
ويخضع المخزون الآن لعملية إصلاح وترميم شاملة هي الأكبر منذ عقود. في السنة المالية 2023، خُصّصت لـ NNSA ميزانية قياسية 22.2 مليار دولار، سيخصّص جزء كبير منها لإنتاج حُفَر بلوتونيوم حقيقية جديدة بدل القديمة في الترسانة وتحديث أربعة رؤوس حربية. السلاح الخامس، الملقب بـ W93a، وهو رأس حربي تطلقه غوّاصة، هو برنامج تصميم جديد كلّياً. يقول مارفن آدامز، نائب مدير NNSA لبرامج الدفاع: «إنه حقاً أول برنامج رأس حربي لدينا منذ نهاية الحرب الباردة لا يكون تحديثاً أو تمديداً لعمر سلاح سابق موجود».

شيخوخة «البلوتونيوم»

بحسب المقالة، أصدرتْ «مجموعة سرّية من الفيزيائيين» عام 2019، تسمّى «جيسون»، مشورةً للحكومة الأمريكية بشأن الأمن القومي، حثّتها فيها على إنتاج حفيرات البلوتونيوم «بأسرع ما يمكن» وذلك «لتخفيف المخاطر المحتملة التي تسببها شيخوخة البلوتونيوم». وأشارت المقالة إلى أنّ «حفيرات البلوتونيوم في القنابل تشكّل تحدّياً علمياً: تأثير التغييرات الطفيفة على سلوكها غير مفهوم بما يكفي، وليس سهلاً صنعها. وذلك جزئياً لأنّ البلوتونيوم، وهو معدن موجود فقط منذ عام 1940، غامض ويصعب التعامل معه».
وللتوضيح نذكّر قرّاء «قاسيون» بأنّ البلوتونيوم من العناصر «الصُّنعية»، والكميات المتوافرة منه طبيعياً في كوكبنا ضئيلة جداً، أغلبها بشكل نظير البلوتونيوم Pu239، فعمره النّصفيّ القصير نسبياً (24110 سنة فقط) يعني أنه تم استنفاد الكثير منه منذ تشكّل كوكب الأرض. وبالتالي يُعَدّ مصدرُه الأساسيّ النشاط البشري عبر التفاعلات النووية (السلمية أو العسكرية).
إضافة إلى ذلك فإنّ العديد من حفيرات البلوتونيوم الأمريكية الحالية يزيد عمرها عن 40 عاماً، ويتصرّف البلوتونيوم بطرق «مُربكة» في شيخوخته: يتحلّل إشعاعياً، ينمو على سطحه طلاء تأكسديّ من «الصّدأ» الأخضر الغامض، تَخرج ذرّاته من مكانها في شبكته المعدنية أثناء انبعاث نظائر اليورانيوم، تتغيّر أبعادُه عندما ينزلق بين ست مراحل صلبة مختلفة، وليس بالضرورة أن يتفكك إشعاعياً بالسهولة المطلوبة. وتتابع المجلّة بأنّ آخر مرّة تم فيها إنتاج «حفيرات» بلوتونيوم على نطاق واسع (في أمريكا) كانت في الثمانينات في مصنع «روكي فلاتس» في كولورادو، المتعاقد مع وزارة الطاقة الأمريكية، والذي تم إغلاقه «بسبب الانتهاكات البيئية» بحسب قولهم، مع إجباره على دفع غرامة 18.5 مليون دولار.
وتخطّط NNSA لإنتاج البلوتونيوم في موقعين محاطَين بحراسة مشدّدة وسرّية (وأسلاك شائكة ذات شفرات حادّة)، ويشغّلان آلاف العمّال، وهما: مختبر «لوس آلاموس» ومختبر «سافانا ريفر سايت» في ولاية كارولينا الجنوبية، حيث أوكلت إليهما مهمّة الوصول إلى إنتاج 80 حفرة بلوتونيوم جديدة كلّ عام بحلول عام 2030، ولكنه موعد نهائي تعترف NNSA بأنها غير قادرة على الوفاء به، وتقول إنّها لا تتوقع إنتاج أول حُفيرة بلوتونيوم جاهزة للتخزين إلا اعتباراً من العام 2024.

«واثقون» من أسلحتهم بلا اختبارات!

تورد المقالة الأمريكية التي بين أيدينا زعماً قد يثير الاستغراب عند كثيرين والتساؤل فيما إذا كان موضوعيّاً أم غروراً أم بروباغاندا: «إنّ علماء فيزياء الأسلحة [الأمريكيين] في المختبرات واثقون من قدرتهم على تحسين الأسلحة الموجودة وتصميم أسلحة جديدة دون اختبارات»! وتتابع: «إنّ عمليات المحاكاة الحاسوبية الخاصة بهم متفوّقة إلى حد كبير على تلك التي في الماضي، وتجارب مثل DAHRT هي أكثر قوة». ثم تستشهد بروب نيلي، مدير مختبرات ليفرمور لمحاكاة الأسلحة والحوسبة، حيث يسأل: «هل يمكنك تصميم سيارة فورمولا1 جديدة دون تسييرها على مسار حقيقي؟ أو هل يمكنك تصميم طائرة بوينغ جديدة دون أن تطيّرها في البداية؟»، ثم يضيف: «في حالة الأسلحة النووية وحُفر البلوتونيوم الخاصة بها، يبدو أنّ الإجابة هي في الواقع: نعم».
في هذه المحاججة التي تدفع بها المجلّة الأمريكية إلى قرّائها، يتمّ تجاهل فارقٍ مهمّ بين صناعة سيّارة أو طائرة من جهة وبين صناعة سلاح نووي. فإذا كانت المجلّة تحاول ترويج طمأنة للأمريكيين بـ«تفوّقهم» النووي، فإنها تستفيد من واقع أنّ تصميم سيّارة أو طائرة يمكن اكتشاف مدى نجاحه أو فشله بسهولة أكبر بكثير مقارنةً باكتشاف مدى النجاح أو الفشل العملي لسلاح نووي؛ ففي الحالة الأولى يمكن تصنيع عدد، ولو محدود، من السيارات أو الطائرات الحقيقية بناء على التصميم الجديد وتسييرها أو تطييرها الفعلي لنرى إذا كانت تعمل بنجاح أو تخفق، وبالمثل يمكن أن ينكشف بسهولة مثلاً فشل التكنولوجيا الأمريكية للصواريخ فرط الصوتية كما حدث حتى الآن نظراً لاضطرارهم أن يخرجوا «تصاميمهم» و«محاكاتهم» إلى أرض الواقع والتجريب العملي، أمام ضغط منافسة النجاح الروسي (العملي والنظري) في هذا المجال. وبالمثل لم يطل الأمر بادّعاءات التفوّق «السحري» الذي أطلقته شركات لقاحاتهم في تجربة الوباء الأخيرة قبل أن يكشف الواقع مبالغاتهم حول مدى فعّاليتها وسلامتها. ومنذ فترة قريبة كانت هناك «على الورق» وفي «المحاكاة الحاسوبية» تصاميم رائعة من شركة إيلون ماسك (سبيس إكس) لمركبة الفضاء Starship وصاروخها الحامل «السوبّر ثقيل» فيما وُصِف بأنه «أضخم صاروخ في التاريخ سيحمل بشراً إلى القمر والمريخ»، ولكن محكّ تجربة إطلاقه انتهت، حتى الآن، بانفجاره بعد دقائق من التحليق.
بالمقارنة مع كلّ ذلك، فإنّ خطورة الاستعمال الواقعي لذخيرة نووية إستراتيجية – وهو ما يجب من الناحية الإنسانية تجنّب حدوثه – تبقي مزاعم التفوّق (بالتأثير الإستراتيجي العسكري لها) رهناً للشكوك، علماً بأنّ صواريخ إيصالها أمرٌ مختلف حيث بات التفوّق الروسي فيها مع التكنولوجيا فرط الصوتية يقينيّاً، لأنّها استخدمت عدة مرات على أرض الواقع (بذخائر غير نووية).

معلومات إضافية

العدد رقم:
1122