ماركس عن «المعادن الثمينة» وملاءمتها للثروة البرجوازية
 كارل ماركس كارل ماركس

ماركس عن «المعادن الثمينة» وملاءمتها للثروة البرجوازية

في الفصل الثاني «النقد أو التداول البسيط» من مؤلَّفه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» يقدّم ماركس في فقرة «المعادن الثمينة»، جواباً على السؤال عن «سبب كون الذهب والفضة، لا غيرَهما من البضائع، يُستعملان كمادّةٍ للنقود».

يستهلّ ماركس الإجابة بالتنويه إلى أنّ السؤال «يقع خارج حدود المنظومة البرجوازية. ولذلك لن نقوم بأكثر من تلخيصٍ للجوانب الأكثر أهمية لهذه المسألة». [عناوين الفقرات فيما يلي للتوضيح وليست من أصل نصّ ماركس].

كيفية متجانسة وكمية منتظمة

بسبب كون وقت العمل بحدّ ذاته لا يستطيع أن يبدي سوى فروقات كمّية، فإنّ الموضوع الذي يُميَّزُ بوصفه تجسُّدَه الخاص لا بدّ أن يكون قادراً على التعبير عن فروقات كمّية بحتة، وبذلك يفترض سلفاً كيفيّةً متجانسةً متطابقة. هذا هو الشرط الأول كي تؤدّي بضاعةٌ وظيفةَ مقياسٍ للقيمة. فإذا أراد المرء، على سبيل المثال تقييم كل البضائع بالثيران، أو الهايدات [وحدة إنكليزية لمساحة الأراضي] أو الذرة... عليه أن يقيسها بوسطيٍّ مثالي من الثيران، والهايدات، إلخ... الذهب والفضة من جهة أخرى، كمواد بسيطة، هي كميات منتظمة دائماً، وبالتالي الكميات المتساوية منها لها قيم متساوية.

قابليتها للتقسيم كبيرة

الشرط الآخر الذي يجب أن تحققه البضاعة لتُستخدَم كمعادلٍ عام، والذي ينتج مباشرةً من وظيفة المعادل العام كممثَّلٍ للفروقات الكمية البحتة، هو قابلية هذه البضاعة للتقسيم إلى أيّ عدد مرغوب به من الأجزاء وإمكانية تجميعها من جديد، بحيث يمكن تمثيل النقد الحسابيّ في شكلٍ ملموسٍ أيضاً. الذهب والفضة يملكان هذه الكيفيّات إلى درجة استثنائية.

ثقلها النوعيّ عالٍ فيزيائياً واقتصادياً

وكوسيلة تداول، فإنّ الذهب والفضة يملكان أفضليةً على البضائع الأخرى في أنّ لهما ثقلاً نوعيّاً عالياً – وزن كبير نسبة إلى حجم صغير – يتماشى مع ثقلهما النوعي اقتصادياً، باحتوائهما زمن عملٍ أكثر، أي قيمةً تبادلية كبيرة في حجم صغير نسبياً. وهذا يسهِّل النقل والانتقال من يد إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر...

مقاومة للتلف وطويلة العمر

إنّ القيمة النوعية الخاصّة العالية للمعادن الثمينة، وديمومتها الطويلة، وعدم قابليتها النسبية للتلف، وواقع أنها لا تتأكسد عند تعرّضها للهواء وأنّ الذهب على وجه الخصوص غير قابل للانحلال في الحموض إلّا في «الماء المَلَكي»، كلّ هذه الخصائص الفيزيائية تجعل من المعادن الثمينة المادّةَ الطبيعية للاكتناز. ولذلك يلاحظ بيتر مارتير، الذي كان على ما يبدو محبّاً شغوفاً بالشوكولا، بشأن أكياس الكاكاو التي استُخدِمَت في المكسيك كنوع من النقد: «آه أيها النقد المبارَك الذي يوفّر للجنس البشري شراباً حلواً ومغذّياً ويحمي مالكيه الأبرياء من طاعون البخل الجهنّمي، لأنّه لا يمكن اكتنازه لفترة طويلة، ولا طمره تحت الأرض!».

خصوصية قيمتها الاستعمالية

تَدِيْنُ المعادن عموماً بأهمّيتَها الكبيرة في عملية الإنتاج إلى استعمالها كأدوات إنتاج. أمّا الذهب والفضة، عدا عن نُدرَتِهما، لا يمكن استعمالهما بهذه الطريقة، لأنهما بالمقارنة مع الحديد وحتى النحاس (بحالتهما كمعدنٍ مُقَسَّى كما استعملهما القدماء) يكونان طريَّين جداً وبالتالي، يفتقران بدرجة كبيرة إلى الكيفية التي تعتمد عليها القيمة الاستعمالية للمعادن عموماً. وتماماً مثلما أنّ المعادنَ الثمينةَ عديمةُ الفائدة في عملية الإنتاج المباشرة، كذلك فإنها تظهر غير ضرورية كوسيلة معيشة، أي كمقتنيات استهلاكية. إذاً، يمكن لأيّة كمية منها أن توضَع، حسب الرغبة، ضمن عملية التداول الاجتماعية دون الإضرار بالإنتاج والاستهلاك بحد ذاتهما. ولا تتعارض قيمتهما الاستعمالية الفردية مع وظيفتهما الاقتصادية. الذهب والفضة، من جهة أخرى، ليسا فقط نافلَين سلبياً، أي أشياء يمكن الاستغناء عنها، بل إنّ قيمتهما الجمالية تجعلهما المادة الطبيعية للأبّهة، والمنمنمات، والرونق الفتّان، ومتطلَّبات المناسبات الاحتفالية، وباختصار، التعبير الإيجابي عن الوفرة الفائقة والثروة. إنهما يظهران، إذا جاز التعبير، كنورٍ متصلِّب انتُشِلَ من عالَمٍ ما تحت الأرضيّ، لأنّ كلّ أشعّة الضوء بتركيبها الأصلي تنعكس عن الفضة، في حين أنّ الأحمر لوحده، وهو أشد الألوان قدرة، ينعكس عن الذهب. والإحساس باللون، علاوة على ذلك، هو الشكل الأكثر شيوعاً للإدراك الجمالي عموماً. ولقد بيَّن جاكوب غريم الصلةَ الاشتقاقية اللغوية بين أسماء المعادن الثمينة، والإشارات إلى اللون في شتى اللغات الهندو-أوروبية (انظر مؤلَّفَه: تاريخ اللغة الألمانية).

قابلية عالية للتحوّل الشكليّ

وأخيراً، إنّ واقع إمكانية تحويل الذهب والفضة من عملة إلى سبيكة، ومن سبيكة إلى مقتنَيات تَرَفِيّة، وبالعكس، والأفضلية التي يتفوقان بها على البضائع الأخرى بكونهما غير مقتَصرَين على الشكل النافع الخاص الذي أعطِيَ مَرّةً لهما، هذا الواقع يجعلهما المادة الطبيعية للنقد، التي لا بدّ أن تتغيَّرَ باستمرار من شكلٍ إلى آخر.

تجسيد ملائم للثروة البرجوازية

لم تعد الطبيعة تنتج النقد بقدر ما بات الصيارفةُ أو سعر الصرف يفعلون ذلك. ولكن لأنّ الثروة في الإنتاج البرجوازي، بوصفها صَنَماً، لا بدّ أن تتبلوَرَ في مادَّة خاصّة، فإنّ الذهب والفضة ما زالا تجسيدها الملائم. الذهب والفضة ليسا بطبيعتهما نقداً، بل النقد بطبيعته يتألّف من ذهبٍ وفضة. إنَّ أيّاً من الذهب أو الفضة كتبلورٍ للنقد، ليس فقط ناتجاً لعملية التداول، بل هو فعلياً ناتجها المستقرّ الأوحد... ومن جهة أخرى، الذهب والفضة منتوجان أوَّليان جاهزان، ويمثلان مباشرةً هذَين الجانبين كليهما، غير المتميّزَين بأشكالٍ خاصّة. النواتج العامة للعملية الاجتماعية، أو العملية الاجتماعية بحد ذاتها مأخوذةً بوصفها ناتجاً، هي ناتجٌ طبيعيٌّ خاص، معدن، محتوى في قشرة الأرض ويمكن التنقيب عنه.

قيمة مستقرة نسبياً

رأينا أنّ الذهب والفضة لا يستطيعان الانصياع لطلب أنْ يَمتلكا، بوصفهما نقداً قيمةً لا تتبدّل. ورغم ذلك فقيمتهما أكثر استقراراً من قيمة البضائع الأخرى وسطياً، كما لاحظَ ذلك حتّى أرسطو. وبصرف النظر عن التأثير العام لارتفاع أو انخفاض أسعار المعادن الثمينة، فإنّ التغيُّرات في القيمة النسبية للذهب والفضة لها أهمّية خاصة، لأنّ كليهما يُستَعمَلان جنباً إلى جنب كمادةٍ نقدية في السوق العالمية. الأسباب الاقتصادية الصرفة لهذه التغيُّرات في القيمة يجب أن تُعزى إلى التغيُّرات في زمن العمل المطلوب لإنتاج هذه المعادن – أمّا الفتوحات والاضطرابات السياسية، التي كانت تمارس تأثيراً ملموساً على قيمة المعادن في العصور القديمة، فلها نتائج محلّية ومؤقَّتة فحسْب. وزمن العمل هذا نفسه سوف يعتمد على النُّدرة النسبية للمخزونات الطبيعية وصعوبات استخراجها في حالة معدنية نقيّة. في الواقع إنّ الذهب هو أوّل معدنٍ اكتشفه الإنسان. فمن جهة، يُصادَفُ الذهب في الطبيعة بشكل بلّوري نقي، كمادةٍ منفصلة غير مركَّبة كيميائياً مع مواد أخرى، أو بحالةٍ عذراء، كما يقول الخيميائيّون. ومن جهة ثانية، الطبيعة نفسها هي مَن تنفِّذُ العملَ التقنيّ عبر غَسل الذهب في الأنهار على نطاقٍ واسع. ولا يتبقَّى على الإنسان سوى العمل الأكثر فجاجة لاستخراج الذهب، إما من الأنهار أو رواسب الطَّمي. في حين أنّ إنتاج الفضة يتطلَّب التنقيب عنها، ومستوىً عالياً نسبياً من التطور التِّقني. وبالتالي، قيمةُ الفضة بالأصل أعلى من قيمة الذهب، رغم أنها أقلّ منه بصورة مطلقة. ولذلك لا داعيَ للاستغراب مطلقاً من إشارة ستاربو إلى أنّ قبيلة عربية كانت تعطي عشرة باوندات من الذهب مقابل باوند واحد من الحديد، وباوندين من الذهب مقابل باوند واحد من الفضة. لكن قيمة الفضة تميل إلى الهبوط بالنسبة لقيمة الذهب، مع تطور القدرات الإنتاجية للعمل الاجتماعي وبالتالي يصبح منتوج العمل البسيط أكثر كلفة مقارنة بمنتوج العمل المركَّب، ومع التفتيح المتزايد لقشرة الأرض تمسي المصادر السطحية الأصلية للذهب أكثر عرضة للنضوب. وأخيراً، عند مرحلة معينة من تطور التكنولوجيا ووسائل المواصلات، فإنّ اكتشاف أراضٍ جديدة تحوي الذهب أو الفضة، يلعب دوراً مهمّاً. كانت نسبة الذهب إلى الفضة في آسيا القديمة هي 6 إلى 1، أو 8 إلى 1؛ وهذه النسبة الأخيرة كانت منتشرة في الصين واليابان حتى في بواكير القرن التاسع عشر؛ ونسبة 10 إلى 1 التي أمكن الحصول عليها في زمن كزينوفون، يمكن اعتبارها النسبة الوسطية في الفترة الوسطى من العصور القديمة. وتشغيل مناجم الفضة الإسبانية من جانب قرطاج ولاحقاً من جانب روما، مارس على العالم القديم تأثيراً مشابهاً نوعاً لتأثير اكتشاف المناجم الأمريكية على أوروبا الحديثة. وخلال عصر الأباطرة الرومان، يمكن اتخاذ نسبة 15 أو 16 إلى 1 كوسطيّ تقريبي، مع أنّ قيمة الفضة في روما غالباً ما هبطت حتى إلى ما دون هذا المستوى. وخلال الفترة اللاحقة التي امتدت من العصور الوسطى حتى الحديثة، بدأت حركة مشابهة بانخفاض نسبيّ لقيمة الذهب، وانتهت بانخفاض قيمة الفضة. النسبة الوسطية في العصور الوسطى، كما في زمن كزينوفون، كانت 10 إلى 1، وبنتيجة اكتشاف المناجم في أمريكا، أصبحت النسبة مرة أخرى 16 أو 15 إلى 1. ومن المحتمل أن يقود اكتشاف الذهب في أستراليا، وكاليفورنيا، وكولومبيا إلى هبوطٍ آخر في قيمة الذهب.

المصدر: كتاب ماركس «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» (1859)، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 2020، ص203–209.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1121
آخر تعديل على الإثنين, 08 أيار 2023 07:53