الكوارث الطبيعية تمتحن الرأسمالية والاشتراكية (3)
خلصت إحدى الدراسات التي دقّقت في تفاصيل 100 من كوارث القرن العشرين، إلى استنتاجٍ مفاده أنّه كان يمكن تجنّب 73% من وفيّات الزلازل لو كانت الاستعدادات والإنقاذ أفضل. وكان يمكن تجنب 74% من ضحايا البراكين بالحماية المناسبة، و25% من ضحايا حوادث الطائرات بالإجراءات الأمثل. في الجزء الحالي من هذه السلسلة، نورد تلخيص دراسة أمريكية قارنت بين الاستعداد للكوارث لدى السوفييت والأمريكان، والتي تعكس الاختلاف بين فلسفتين متناقضتين في النظرة لحياة وحقوق الإنسان.
الدراسة التي نشرتها الدكتورة جين أورينت في المجلّة الطبية الأمريكية «حوليّات الطب الداخلي» عام 1985 (العدد 103) تحت عنوان «الاستعداد للكوارث، منظور عالَمي»، تُستهلّ بالإشارة إلى جوانب اختلاف عامّة بين كوارث القرون الماضية وكوارث العصر الحديث، حيث تتميّز المجتمعات الحديثة «بتجمّعات سكانية كثيفة والاعتماد على منظومات تكنولوجيّة لدعم الحياة، وهي عوامل خلقت عُرضَةً غير مسبوقة للكوارث، سواء الناجمة عن الظواهر الطبيعية أو الإخفاقات التكنولوجية أو النزاعات العسكرية».
ومع ذلك فلا ذريعة لتقاعس الحكومات عن الاستعداد للكوارث، وخاصةً أنّ ثمّة استعدادات حدّ أدنى معروفة ومفيدة بكلّ الأحوال ولكلّ أنواع الكوارث، مثلاً: «تشكّل بعض متطلّبات العناية بالإصابات الجماعية (الفرز الأولي التشخيصي، النقل، الاتصالات، المعدّات، الطواقم المدرَّبة، المأوى، الغذاء، الماء) متطلباتٍ متشابهة بغضّ النظر عن سبب الكارثة».
قبل متابعة تلخيص المقارنة التي أوردتها الدراسة المذكورة، تجدر الإشارة إلى أنها ركّزت على الجوانب الطبّية والدفاع المدني، وبالتالي لا تستنفد كلّ جوانب الاستعداد والاستجابة للكوارث، ومع ذلك تبقى مفيدة لأخذ فكرة عن الاختلاف بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي في هذا المجال.
استعداد الاتحاد السوفييتي
تميّز الاتحاد السوفييتي بدفاع مدنيّ منظّم على مستوى السكان بأكملهم، وتمّ تصميمه بحيث يستجيب لجميع أنواع الكوارث. ويمكن أخذ لمحة عن الفلسفة السوفييتية للدفاع المدني كما عبّرت عنها مجلة شهرية متخصصة به اسمها «المعرفة العسكرية»، شدّدت على أنّ حماية السكان وخاصةً الأطفال هي «مهمة إنسانية حاسمة ونبيلة».
وبخلاف استخدام كثير من الحكومات الرأسمالية الفاسدة للخطاب الذي يتذرّع بتعرّضها للحروب لكي تتنصّل من واجباتها في حماية مواطنيها وفي الاستعداد للكوارث، شدّدت الأدبيات السوفييتية، بالعكس، على أهمية حماية الناس من الكوارث في ظروف الحرب بالذات: «الحفاظ على السكان – وهم القوة المنتجة الأساسية للبلد – وضمان الاستقرار الاقتصادي والحفاظ على الموارد المادية والتقنية، هي أمور ذات أهمية قصوى خلال الحرب. ولذلك أصبح الدفاع المدني في الظروف الحديثة عاملاً ذا أهمّية إستراتيجية... إنّ النجاح في إجراءات الدفاع المدني تُقرّر حيويّةَ واستقرارَ البلد».
ولاحظت الدراسة أفضلية في الاشتراكية السوفييتية تفوّقت على الرأسمالية حتى في البلد الذي يتم ربط اسمه عادةً مع «الرقيّ والحضارة» الرأسمالية، وهو «سويسرا»: «بخلاف سويسرا، التي تعتمد [في استعدادها للكوارث] بشكل حصريّ تقريباً على تأمين المأوى، يشدّد السوفييت أيضاً على الإخلاء وفي الوقت نفسه يوسّعون القدرة على الإيواء».
وعندما يكون هناك تهديدٌ بالحرب، كانت الخطط السوفييتية تدعو إلى نقل أماكن العديد من منظومات المشافي الحضريّة إلى الأرياف. وتضمّنت الخطط لما قبل التعرّض إلى هجمات: تخريج المرضى القادرين على المشي، وإخلاء من يحتاجون مزيداً من الاستشفاء، ونقل غير الملائمين للسفر إلى مَرافق الإيواء المُنشأة في موقع المشفى نفسه، وكذلك لجزء من الطاقم الطبي.
في حال وقوع الكارثة، كان الاستعداد السوفييتي يقضي بتفعيل منظومة إخلاء طبّي من مرحلتين: الإنقاذ المتنقّل، الفرز التشخيصي الأولي، الإسعافات الأولية، نشر فرق العلاج الإسعافي في موقع الكارثة. وإنشاء مستشفيات عامة وتخصصية خارج المدن.
ويجري دعم الأهداف الميدانية بسيارات مزوَّدة بالخيام والمولّدات الكهربائية المتنقّلة، والمياه المتنقّلة، والراديو، وأجهزة قياس مستويات الإشعاع، وحقائب كشف المواد الكيميائية، ووحدات تدفئة وتسخين، ومعدّات طبّية، ونقّالات المصابين، وغيرها. وتمّ تنظيم جسور خاصة للتعامل مع الأوبئة المحتمَلة. وقيلَ إنّ كلّ مشفى من المشافي السوفييتية المتنقّلة المخصَّصة للأمراض المُعدية كانت قادرةً على استيعاب وعلاج 200 مريض لمدة شهر. وجرى تطوير خطة شاملة للفرز التشخيصي للمرضى وإخلاء المصابين إلى المشافي.
تدريب المجتمع بأكمله
أثناء استعراض الدراسة نفسها للمنهج السوفييتي بالاستعداد للكوارث، كان لافتاً ملاحظتها التفكير المنطقي التالي: بما أنّ الاستجابة الطبّية للكوارث معرّضة هي نفسها لاحتمال التأخير لأسباب عديدة، بما في ذلك تعرّض المنقِذين للخطر، فوجب إعطاء أولوية عالية لتدريب المواطنين أنفسهم على أعمال الإغاثة والإنقاذ الأساسية. فجميع المواطنين السوفييت كانوا يخضعون إلى إرشادات في الإسعافات الأولية كجزءٍ من التدريب الإلزامي على الدفاع المدني الذي يبدأ في المدارس اعتباراً من الصف الثاني الابتدائي. وخلال السنتين الأخيرتين من المدرسة الثانوية يتلقّى جميع الطلاب إرشادات مرتين بالأسبوع في الدفاع المدني ومواضيع عسكرية. وحتى طلّاب كليات العلوم الإنسانية في الجامعات السوفييتية كان لديهم 40 ساعة من التدريب والإرشادات الطبية للدفاع المدني، بما فيها 24 ساعة تأهيل للعناية بمرضى المشافي. ويغطّي المنهاج أيضاً كيفية تنظيم الوقاية الوبائية والنظافة لطواقم المساعدة الطبية الأولية في حال تعرّضت مناطق إلى الدمار، وتوضيح المسؤوليات المترتبة على التمريض وما إلى ذلك.
أما طلاب الطب في الاتحاد السوفييتي، فإضافة للدورة الأساسية المعتادة (في الدفاع المدني وإشارات الإنذار والوقاية الغذائية وتأمين المياه وإزالة التلوث والإيواء والإخلاء)، كانوا أيضاً يتلقّون تدريباً متقدّماً لإعدادهم للخدمات الطبية بالدفاع المدني. وتضمّن الكتاب المستخدم لهذه الدورة: تنظيم المساعدة الطبية، وأساليب إخلاء المصابين، وتوقّع شتى أنواع الإصابات في المناطق المختلفة حول تفجير محتمل لرأس حربي نووي، وتطبيب السكان الذين يتم إخلاؤهم، ومشكلات العمليات في مناطق التلوث البيولوجي أو الكيميائي. وقد تُجرى لطلاب الطب أيضاً تمرينات وامتحانات في مواقع تدريبية تحاكي منطقة تدمير نووي. بالنسبة للطاقم الطبي العامل، كانوا أيضاً يخضعون بعد تخرّجهم إلى تدريبات إلزامية دوريّة في الاستعداد الطبي للكوارث.
مقارنة مع أمريكا
وفقاً للدراسة الأمريكية نفسها، كانت طواقم الإغاثة السوفييتية مقارنةً بالأمريكية: «ذات إعداد أفضل للعمل في شروطٍ بدائية»، كما أنّ الاتحاد السوفييتي كان «أكثر التزاماً بالحفاظ على مدّخرات كبيرة من شتّى السلع لأوقات الحرب».
وبالأرقام (كما كانت عليه في الثمانينات)، لاحظت الدراسة نفسها بأنّ: الأولوية العالية التي أعطاها السوفييت للدفاع المدني تظهر من أرقام إنفاقاتهم السنوية، المقدَّرة بحوالي 3 مليارات دولار، أو 11 دولاراً للشخص، أو 0.37% من الناتج المحلي الإجمالي (أكبر بحوالي 62 مرة من النسبة النظيرة لها لدى الأمريكان في ذلك الزمن نفسه! حيث كانت أمريكا تنفق فقط 0.006% من ناتجها المحلي الإجمالي لهذا الغرض، أو دولاراً واحداً للشخص). ويُعتقد بأنّ السوفييت كانوا يخصّصون حوالي 30% للخدمات الطبّية.
أما المبلغ الذي كانت تخصّصه الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك لكل مواطن كلّ سنة بغرض الحماية المدنية في حال حدوث حرب فهو مضحك حقاً: 9 سنتات فقط! ولكن ربما يعكس هذا جزئياً أيضاً تصاعد عنجهية الولايات المتحدة في الثمانينات كقوة واثقة بهيمنتها السائرة لمزيد من التفرد، ومعرفتها بأنها هي بالذات المصدر الأساسي للبطش والعدوان الحربي الخارجي على الآخرين بعيداً عن أراضيها، ولا سيّما مع تراجع القوة الأساسية التي تواجهها وهي الاتحاد السوفييتي.
لاحظت الدراسة نفسها بأنّ برامج التدريب على الكوارث في الولايات المتحدة كانت بحدودها الدنيا مقارنةً ليس فقط مع السوفييت بل ومع العديد من دول العالم: «فقط 8 كلّيات طب في هذا البلد [أمريكا] لديها كورسات إلزامية حول تأثيرات حرب نووية... ولكن لم يتم تقديم شيء عن مبادئ العناية بالإصابات الجماعية (جرّاء هجوم نووي).. ويتم تقديم مفهوم (الوقاية) في سياق حرب نووية على أنها تعني ضبط الأسلحة وليس الوقاية من الحروق والأمراض الناجمة عن الإشعاع بحال وقوع هجوم بغض النظر عن اتفاقيات السيطرة على الأسلحة».
يجدر بالذكر بأنّ الكتيّبات الإرشادية للدفاع المدني السوفييتي تشير إلى أنّ هجوماً نووياً مفاجئاً على مدينةٍ غير مستعدّة يمكن أنْ يخلّف إصابات لدى 50% – 60% من سكانها، في حين أنّ تأمين أفضل المآوي المتاحة سوف يقلّل الوفيات كثيراً، والنجاح بإخلاء معظم السكان قد يقلّص نسبة الإصابات إلى 5% أو 6%.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1113