الكوارث الطبيعية تمتحن الرأسمالية والاشتراكية (2)

الكوارث الطبيعية تمتحن الرأسمالية والاشتراكية (2)

تتنوّع مناهج التفكير في تحليل مخاطر الكوارث على البشر وكيفية الوقاية منها ومعالجتها، وإذا استبعدنا المناهج الخُرافيّة والأسطورية، طرح العلماء عدة منهجيّات، منها نموذج «الضغط والتحرير» PAR الذي اقترحه عالِم الكوارث «بن ريسنر»، ويستند على تفكير واقعي مادّي بأنّ البشرية إزاء الكوارث تكون بين «طرفي كمّاشة»: أحدهما يتمثّل بقوى موضوعية طبيعية وتاريخية تضغط على الناس، وبالتالي تقع المسؤولية في تفريج كُربة الكوارث أو «تحرير» الضغط على الطرف الآخر الذي إمّا أن يسهّل سحقّ الناس أو إنقاذهم: وهو سلوك النظام السياسي-الاقتصادي والدولة والمجتمع، ليس فقط بعد «وقوع الفأس بالرأس» بل لا بدّ من الاستعداد والوقاية، وفي هذا تكشف الرأسمالية عن تخلّف واستهتارٍ قاتِلَين.

يتحدّث ريسنر في كتابه «في الخطر - المخاطر الطبيعية، وتعرّضيّة الناس، والكوارث» (2003)، أنه عندما تؤثّر الأخطار الطبيعية على الناس «المعرَّضين للخطر»، فإنّ ضعفهم متجذّر في العمليات الاجتماعية والأسباب الكامنة التي قد تكون في نهاية المطاف بعيدة كثيراً عن حدث الكارثة الآنيّ نفسه.
ويوضح بأنّ أساس فكرة «إصلاح الإدارة الحكومية» هو الإقرار بأنّ الكارثة تنجم عن تقاطع قوتين متقابلتين: تلك العمليات التي تولّد الضَّعف والعُرضَة من جانب، وحدث الخطر الطبيعي من ناحية أخرى.

الأسباب الجذرية

وفقاً لريسنر: «الأسباب الجذرية الأكثر بعداً هي مجموعة مترابطة من العمليات العامة واسعة النطاق داخل المجتمع والاقتصاد العالَمي». وعندما نقول «بعيدة» نقصد واحداً أو أكثر من المعاني التالية: بعيدة مكانياً تنشأ في مركزٍ سلطويٍّ اقتصاديّ أو سياسيّ بعيد - بعيدة زمانياً في التاريخ الماضي - أو بعيدة بمعنى أنها عميقة للغاية، ومرتبطة بالافتراضات الثقافية والأيديولوجية والمعتقدات والعلاقات الاجتماعية.
ويُسجَّل لصالح ريسنر طريقةُ تفكيره المادّية، حيث اعتبر أهمّ الأسباب الجذرية المؤدّية للضَّعف وإعادة إنتاج الضَّعف، هي «العمليات الاقتصادية والديموغرافية والسياسية». فهي «تؤثّر على تخصيص وتوزيع الموارد بين مجموعات مختلفة من الناس». إنه بتعبير آخر يتحدّث عملياً عن مشكلة كيفية توزيع الثروة في المجتمع كعامل جوهريّ في إضعاف أو تقوية البشر ضدّ الكوارث. كما لم يهمل تأثير عوامل البنيان الفوقي، فأشار إضافة إلى «وظيفة الهياكل الاقتصادية» إلى وظائف البنى «الاجتماعية والسياسية، والتعاريف القانونية وإنفاذ الحقوق والعلاقات بين الجنسين وعناصر أخرى من النظام الأيديولوجي».
كما أكّد على أنّ «الأسباب الجذرية تعكس ممارسة وتوزيع السلطة في المجتمع»، لافتاً إلى أنّ العُرضَةِ تكون أكبر لدى المهمَّشين اقتصادياً كسكّان العشوائيات الحضرية، أو بيئياً في النظم الإيكولوجية الساحلية أو الغابات المعزولة أو الأراضي القاحلة أو شبه قاحلة، والمعرّضة للفيضانات...إلخ.

الضغوط الديناميكية

الضغوط الديناميكية (الحركية) هي العمليات والأنشطة التي «تترجِمُ» أو «تنقل» تأثيرات الأسباب الجذرية زمانياً ومكانياً محوِّلةً إيّاها إلى «ظروف غير آمنة». فالحديث هنا عن التجليّات الملموسة الأكثر معاصرة أو فوريّة، المتمظهرة في أنماط محدَّدة اقتصادية واجتماعية وسياسية. يقول ريسنر: «على سبيل المثال، الرأسمالية هي نظام اقتصادي وأيديولوجي عمره 500 عام على الأقل، بينما الليبرالية الجديدة هي الشكل الخاص الذي اتخذته العلاقات الرأسمالية منذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. في الثمانينات فُرضَت سياسات التكيّف الهيكلي النيوليبرالية على العديد من البلدان الأقل نموّاً... سياساتٌ يُنظَرُ إليها بوصفها مسؤولةً عن تدهور الخدمات الصحية والتعليمية التي تشير في لغتنا إلى أنها سببٌ جذريٌّ للضّعف».
ويشير إلى أهمّية التمتّع بتغذية جيّدة وصحية من أجل «القدرة على الصمود» بمواجهة الصدمات الخارجية، وأنّ «هناك علاقة مهمة بين التغذية والمرض، والتي غالباً ما تظهر بعد تأثير الخطر، خاصة عندما يضطرّ الناس إلى البحث عن ملاذ وإلى التماسّ الوثيق مع بعضهم. يعاني الأشخاص المصابون بسوء التغذية المزمن من ضعفٍ في جهاز المناعة ويصابون بسهولة أكبر بأمراض مثل الحصبة أو الزُّحار».

دور الهجرة من الريف للمدينة

الهجرة من الريف إلى الحضر ضغطٌ ديناميكي آخر في العديد من البلدان الأقلّ نمواً، والتي تعاني من التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية المتأصّلة في الأسباب الجذرية. قد تكون مثل هذه الهجرة «نتيجةً لفقدان الأراضي التي يستخدمها المزارعون والرعاة الفقراء، وسياسات التسعير التمييزي للمحاصيل التي ينتجها المزارعون الفقراء بكميات صغيرة، وبَلتَرة الفلاحين [تحويلهم إلى بروليتاريا – عُمّال بأجر]. وقد تؤدّي الهجرة الخارجية إلى تآكل المعرفة المحلية التي قد تعمل على الوقاية من الكوارث وفقدان المهارات اللازمة للتكيُّف في أعقاب الكارثة».

ما هي «الظروف غير الآمنة»؟

الظروف غير الآمنة هي الأشكال المحدَّدة التي يتم فيها التعبير عن ضعف السكاّن في الزمان والمكان بالاقتران مع الخطر. تشمل الأمثلة الأشخاص الذين يتعيّن عليهم العيش في مواقع خطرة، وعدم القدرة على تحمّل تكاليف المباني الآمنة، والافتقار إلى الحماية الفعّالة من قبل الدولة (مثلاً عندما تكون قوانين البناء غير فعّالة أو يشوب تطبيقها الاستهتار والفساد)، والاضطرار إلى الانخراط في سبل خطيرة لتحصيل الرزق (كالصيد في المحيطات في قوارب صغيرة، والصيد الجائر، أو الدّعارة مع ما يصاحبها من مخاطر صحيّة، أو التنجيم عن الذهب على نطاق صغير في الأمازون وشرق إفريقيا، أو الحراجة على نطاق صغير). الحصول على الحد الأدنى من الاستحقاقات الغذائية، أو الاستحقاقات المعرضة لاضطراب سريع وشديد هي أيضاً ظروف غير آمنة. ويختلف هذا المستوى بين المناطق الكبيرة والصغيرة والأسر والأفراد. من المهم النظر في نمط الوصول إلى الموارد الملموسة، مثل النقود والمأوى والمخزون الغذائي والمعدّات الزراعية والموارد «غير الملموسة» كشبكات الدعم والمعرفة المتعلقة بالبقاء ومصادر المساعدة والروح المعنوية والقدرة على العمل في سياق أزمة.

الاستعداد ليس «تقنياً» بحتاً

لا ينبغي أن يؤخذ أيُّ عنصر واحد منفرداً، ولا سيّما المحدّدات التقنية لضعف الناس، وبمعزلٍ عن النطاق الكامل للعوامل والعمليات التي تشكّل هذا الموقف. يتمثّل الخطر الآخر في أنّ التركيز على جوانب الضعف في الأجهزة أو المعدّات الصلبة (hardware) سوف يصرف الانتباه عن الاهتمام الذي يجب إعطاؤه للمحدّدات السياسية والاقتصادية للضعف: فمعظم الناس معرَّضون للخطر لأنَّ لديهم سبل عيش غير كافية، وهم ليسوا مَرِنين في مواجهة الصدمات، وهم في الغالب فقراء. إنهم فقراء لأنهم يعانون من علاقات محدّدة من الاستغلال والمساومَة غير المتكافئة والتمييز داخل الاقتصاد السياسي، وقد تكون هناك أيضاً أسبابٌ تاريخية لوجود منازلهم ومصادر رزقهم في مناطق فقيرة الموارد.
وفي كثير من الحالات يتعلّق الحدّ من الضعف بالتعامل مع قضية الفقر المربكة في المجتمع. وهذا هو سبب الحاجة إلى وجود صلة واضحة بين التأهُّب للكوارث والحدّ من الضعف وعملية التنمية نفسها (تحسين سبل عيش الناس ورفاههم وفرصهم)، حيث تتقاطع الثغرة التي تنشأ من الظروف غير الآمنة مع خطر مادي (كحدثٍ محفّز) لتخلق كارثة، ولكن يحتاج تفسيرها في حد ذاتها من خلال تحليل العمليات الديناميكية والأسباب الجذرية التي تولّد الظروف غير الآمنة.

(الجزء الثالث)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1112
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 12:08