الثورة القادمة بأشباه الموصلات: هل يدفن الغرافين وادي السيليكون؟

الثورة القادمة بأشباه الموصلات: هل يدفن الغرافين وادي السيليكون؟

في شهر آذار الجاري 2023، أعلن فريق من العلماء الروس من معهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا (MIPT) توصّلهم لتطوير جديد على مادة «الغرافين ذي الطبقتين»، وهي مادة تجري منذ سنوات أبحاثٌ عالمية غرباً وشرقاً لتطويرها للاستخدام فيما يبشّر بأنه سيكون الجيل التالي من أشباه الموصلات. وقالت الأنباء الواردة بأنّ «العلماء الروس تمكّنوا من تطوير آلية لزيادة سرعة حركية الإلكترونات عبر غرافين ذي طبقتين». في المقال التالي نستعرض بعض المعلومات حول مساعي استكشاف وتطوير الغرافين بديلاً عن السيلكون لأشباه الموصلات.

قبل استعراض سير الأبحاث السابقة، نبدأ بالخبر الإعلامي حول الإنجاز العلمي الجديد؛ فبحسب تصريح وزارة العلوم الروسية لوكالة «سبوتنيك»، فإنّ ما توصل إليه فريق العلماء الروس بمعهد MIPT بشأن «الغرافين ذي الطبقتين» يحمل إمكانية تطبيقه لصناعة أشباه موصلات بسرعة أعلى. ويمثّل ما يسمى بتقاطع «p-n» الأساس لجميع إلكترونيات أشباه الموصلات الحديثة، فهو منطقة الاتصال بين اثنين من أشباه الموصلات بأنواع مختلفة من الموصلية بالنسبة لحركة الإلكترون، ويمثل هذا التقاطع مشكلة في انتقال الطاقة. وقال دميتري سفينتسوف، رئيس مختبر الإلكترونيات في الجامعة: إنّ هذا الإنجاز العلمي مهمّ بالنسبة للإلكترونيات، حيث يسمح هذا الغرافين بتحرّك الإلكترونات بسرعة عالية ممّا يسهم بإمكانية تصنيع أشباه موصلات سريعة، كما يسمح بالتحكم بالطاقة حتى عندما يكون التيار الفولتي منخفضاً، مشيراً إلى أنّ مثل هذا المزيج من السرعة وكفاءة الطاقة كان من المستحيل تحقيقه في الإلكترونيات استناداً إلى مواد أشباه الموصلات «الكلاسيكية».
وأضاف القائمون على العمل، أنّ ما تم اكتشافه مهمّ لإدخال الغرافين ثنائي الطبقات في الإلكترونيات الرقمية، وأنّ تأثير «النفق» في الغرافين ثنائي الطبقات سيجعل من الممكن «الشعور» ليس فقط بالإشعاع، بل وكذلك تتبع كمّيات من المركّبات الكيميائية والبيولوجية، والعمل كجهاز استشعار كيميائي وبيولوجي حسّاس.
في الحقيقة، ليس مستغرباً أنْ تأتي اكتشافات جديدة حول الغرافين من علماء روسيا، حيث يجدر التذكير بأنّ أوّلَ من اكتشف الخصائص المذهلة للغرافين هما الباحثَان الروسيّان أندريه جايم وكوستيا نوفوسيلوف، اللذان مُنحا جائزة نوبل عام 2010 لتجاربهما الرائدة المشتركة في هذا المجال منذ 2004 (لتفاصيل أكثر عن عملهما، انظر مقالاً سابقاً في «قاسيون»، بتاريخ 26 أيلول 2022، بعنوان «الحاجة لتغيير المنهج السائد برعاية الأبحاث لعدم خسارة المغمورين»). كذلك سبق لعملاء معهد MIPT بموسكو أن اقترحوا عام 2016 نموذجاً لـ«ترانزستور نفقي جديد مستند إلى الغرافين ثنائي الطبقة» من شأنه أن يقلّل استهلاك الطاقة ويسرّع عمل المعالجات، وآنذاك صرّح ديمتري سفينتسوف: «عند استخدام طاقة أقلّ، تتعرّض المكونات الإلكترونية لحرارة أقلّ، وهذا يعني أن تعمل بسرعة أعلى؛ ليس واحد غيغا هرتز، بل 10 أو حتى 100 غيغا هيرتز».

ما هو «الغرافين»؟

الغرافين بلوّرة «ثنائية الأبعاد» من الكربون النقي، بشكل صفيحة مسطّحة يعادل سمكها ذرة كربون واحدة، وهو يتميز ببنية خليوية فريدة من نوعها. وتقع ذرات الغرافين في زوايا مسدّسات أضلاع مثالية. وهي مادّة أرقّ وأقوى من أيّة مادة أخرى معروفة حتى الآن، أقوى بنحو 100 مرة من الفولاذ. متر مربّع من الغرافين أرقّ بألف مرة من ورقة دفتر عادية، إذا صُنِعَتْ منه أرجوحةٌ فستكونُ قويّةً بما يكفي لاحتضان قطّة تزن أربعة كيلوغرامات، على الرغم من أنّ هذه الأرجوحة الغرافينية لا تزن أكثر من شعرة واحدة من شارب القطة. والغرافين موصل جيّد للكهرباء، وقابل للمطّ وشفاف تقريباً، ويوصل الحرارة بشكل أفضل من أية مادة أخرى معروفة وله خصائص فيزيائية أخرى مدهشة.

الغرافين ثنائي الطبقة

فيما يلي تلخيص لأبرز ما جاء في مقال سابق نشره عام 2017 المعهد الروسي MIPT (نفسه الذي حقّق الإنجاز الجديد المذكور أعلاه)، واعتمد بدوره على تقرير علميّ موسّع نشر في 104 صفحات في مجلة «تقارير الفيزياء» Physics Reports عام 2016 بعنوان «الخصائص الإلكترونية للأنظمة ثنائية الطبقة المستندة إلى الغرافين». واعتبر من أشمل المراجعات للأدبيات العلميّة المنشورة حتى ذلك الوقت حول الإمكانيات الواعدة لاستخدام الغرافين ثنائي الطبقة في إلكترونيات أشباه الموصلات والبصريات، حيث استشهد بحوالي 450 ورقة علمية حول الموضوع، واشترك بتأليفه فريق ضمّ باحثين روس من MIPT ومن معهد الديناميكا الكهربية النظرية والتطبيقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ومعهد أبحاث الأتمتة لعموم روسيا، إضافة لباحثين من معهد الأبحاث الياباني RIKEN وجامعة ميشيغان الأمريكية.
ويرتبط تطوير الإلكترونيات الدقيقة ارتباطاً وثيقاً بالبحث عن تكنولوجيا ومواد جديدة لاستخدامها في الترانزستورات. فاستحوذ الغرافين كمادة واعدة، على انتباه العلماء والمهندسين بفضل خصائصه الميكانيكية والكهربائية والبصرية غير العادية. وبدأ الاندفاع باتجاه الغرافين في عام 2004 بنشر بحث بقلم كونستانتين نوفوسيلوف وأندريه جايم في مجلة «العلوم» الشهيرة. وتتجاوز الأوراق المنشورة التي تناولت الغرافين عشرة آلاف ورقة، وتم منح أكثر من ألف براءة اختراع تتعلق بهذه المادة. ويعد الغرافين ثنائي الطبقات (bigraphene) أحد الأشكال المثيرة من هذه المادة. في عامي 2014 و2015 وحدهما، تم نشر أكثر من ألف بحث حول البايغرافين.

لماذا اثنان أفضل من واحد

إحدى الميزات الجذّابة للغرافين هي قابليته العالية لنقل الشحنة، فهي أعلى بعشرات المرات من نظيرتها لدى السيليكون الذي هو مادة النقل الأساسية في الإلكترونيات الدقيقة الحديثة. يمكن للإلكترونات والثقوب (الشواغر الإلكترونية) في الغرافين أنْ تتحرك بسهولة وبسرعة تحت تأثير الحقل الكهربائي الخارجي. ومع ذلك، فإنّ الترانزستور الذي يعتمد على طبقة واحدة من الغرافين له عيبٌ كبير حيث لا يمكن إيقاف تشغيله بشكل فعّال. ويفسِّرُ ذلك حقيقةَ أنّ الغرافين لا يمتلك «فجوة نطاق»، بمعنى نطاق من قيم الطاقة المحظورة على إلكتروناته. وبالتالي، لا يمكن الإيقاف التام لتدفق التيار عبر مثل هذا الترانزستور.
بالمقابل، فإنّ الميزة الرئيسة للغرافين ثنائي الطبقة هي إمكانية إحداث فجوة نطاق محلّية وضبط حجمها من خلال تطبيق حقل كهربائي قوي عمودي على ألواح الكربون. وهذا يعني أنه يمكن استخدامه لتصميم الجيل التالي من الترانزستورات التي ستعمل بشكل أسرع وتستهلك طاقةً أقلّ، وهو أمرٌ مهمّ خصوصاً للأجهزة المحمولة التي تعمل بالبطاريات. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ إمكانية ضبط فجوة النطاق تعني أنّ هناك إمكانية أكبر للتطبيقات في الإلكترونيات البصرية optoelectronics وأجهزة الاستشعار.
ومع ذلك، فإنّ ثورةً حقيقية في مجال الإلكترونيات الدقيقة لم تأتِ بعد. بالمقارنة مع الغرافين العادي، يصعب تصنيع عيّنة ثنائية الطبقة عالية الجودة، حيث يتعيّن على المرء التحكّم في جودة المواد ودقّة محاذاة الطبقات للحفاظ على قابلية الشحن العالية والخصائص الأخرى.
هناك ثلاثة أنواع رئيسية من الغرافين ثنائي الطبقة، الأول: هو المكدَّس AA حيث تتم محاذاة الطبقات بطريقة تجعل كلّ ذرة في الصفيحة العلوية تتوضّع تماماً فوق ذرة في الصفيحة السفلية. والثاني: هو المكدَّس AB حيث تتراكب الطبقات بحيث يقع نصف الذرات فقط في الصفيحة العلوية فوق ذرّة، بينما يقع النصف الآخر فوق مركز مسدَّس في صفيحة الشبكة البلّورية.

مستقبل الغرافين

علق الدكتور آرتيم سبويتشاكوف، وهو مؤلِّف مشارك في المراجعة الواسعة المنشورة عام 2016، وعالم أبحاث كبير في المختبر رقم1 التابع لمعهد الديناميكا الكهربية النظرية والتطبيقية الروسي: «الغرافين ثنائي الطبقة الملتوي يتمتع بفيزياء معقدة نوعاً ما...» مثل المنظومات ثنائية الطبقة عموماً «فبعض جوانب سلوكها ليست مفهومة بالكامل بعد، مثل: تأثيرات التفاعلات بين الإلكترونات. ويجب أن نتوقع عدداً من الاكتشافات المثيرة في هذا المجال».
وأخيراً، يجدر بنا طرح التساؤل: إذا تراكمت اختراقات كافية في هذا المجال، وخاصة من جانب علماء الشرق، بحيث تنتقل للتطبيق العملي والصناعي الواسع باعتماد الغرافين أكثر من السيليكون في جيل ثوريّ جديد من أشباه الموصلات، وإذا ترافق ذلك مع تحقيق السَّبق شرقاً ببناء سلاسل توريد مستقلة عن سلاسل رقائق السيلكون المتحكَّم بها غربياً، فما هي التأثيرات الجيوسياسيّة والاقتصادية المحتملة لذلك على الدفع بقضية تحقيق القوى الصاعدة بقيادة روسيا والصين للاستقلال التكنولوجي عن الاحتكارات الغربية؟ (يمكن للقارئ أيضاً مراجعة المقالين المنشورين في «قاسيون» عن «أشباه الموصلات ومساعي الصين للاستقلال التكنولوجي» في 5 و20 شباط الماضي 2023).

معلومات إضافية

العدد رقم:
1114
آخر تعديل على الإثنين, 20 آذار/مارس 2023 18:19