أشباه الموصلات ومساعي الصين للاستقلال التكنولوجي (1)
جوردان نيل وليليان لي جوردان نيل وليليان لي

أشباه الموصلات ومساعي الصين للاستقلال التكنولوجي (1)

تسعى الصين إلى تحقيق الاستقلال التكنولوجي، لأهميته في الاستقلال الاقتصادي-السياسي. وتسيطر الولايات المتحدة الأمريكية على أغلبية المعدّات اللازمة لتصنيع رقائق أشباه الموصلات ولا سيّما الأكثر تقدّماً. وصناعتها معقّدة وحسّاسة لدرجة إمكانية التلف بسبب ذرة غبار واحدة (فالمصنع أنقى بنحو 100 إلى 1000 مرة من معظم غرف العمليات الجراحية). وتتطلّب المرايا المستخدمة في آلات «الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرِّفة» EUV صقلها إلى نعومةٍ خارقة بخطأ لا يتجاوز سماكة ذرة واحدة. هذه هي الصناعة التي تحاول الصين امتلاك ناصيتها على نحو مستقلّ.

تعريب وإعداد: قاسيون

تشكّل صناعة رقائق أشباه الموصلات، إحدى «نقاط الاختناق» الحسّاسة التي تضغط بها الولايات المتحدة الأمريكية على الصين. وهي صناعة حديثة نسبياً، ويهيمن عليها احتكاريّون على مستوى عالمي. عام 2020 ساهمت الصين بـ 310 مليار دولار من إجمالي الطلب على أشباه الموصلات في العالم البالغ 440 مليار دولار. ويبدو من الأرقام لأول وهلة بأنّ الصين تشكل 70% من الطلب العالَمي، ولكن نصف هذا الطلب «الصيني» تتم إعادة تصديره إلى خارج البلاد، إلى بقية العالَم، بعد أن تقوم الصين بعمليات التجميع والتغليف.
ولكن من الصعب فهم دور الصين في أشباه الموصلات، قبل فهم هذه الصناعة بمجملها بشكل عام.

صناعة معقَّدة ودقيقة

نظراً للحجم الذرّي (بكلّ معنى الكلمة) للعديد من «عُقَد» صناعة الرقائق، طوّرتْ الشركات التي تتعامل معها خبرات نوعية تصعب الاستعاضة عنها أو إعادة إنتاجها بسهولة. وذكرنا كمثال، صقل المرايا المستخدمة في آلات «الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرِّفة» EUV. هذه الآلات محتكرة من أمريكا وبعض حلفائها. ولدقّتها يمكن أحياناً لخللٍ بموضع ذرّتين فقط أنْ يجعل المنتوج بأكمله غير قابل للاستعمال. وللتشبيه، إذا اعتبرنا المرآة المراد صقلها بمثل مساحة ألمانيا، يجب ألا يتجاوز ارتفاع أعلى «جبل» على سطحها بَعد الصَّقل ميليمتراً واحداً. وسطياً هناك أكثر من 500 آلة مختلفة في مصنع الرقائق المتقدّمة، وتستغرق عملية صناعتها أكثر من 1000 خطوة.

سلسلة التوريد العالَمية للرقائق

هناك عدة أنواع من الرقائق بحسب الحجم والوظيفة: الرقائق الكبيرة (التماثلية analog)، والمتوسطة (للذاكرة memory)، والصغيرة (المنطقية logic). وتسعى الصين إلى المنافسة فيها جميعاً.
وهناك اليوم خمس فئات عريضة يمكن تصنيف شركات أشباه الموصلات ضمنها: 1- أتمتة التصميم الإلكتروني (DEA اختصاراً). 2- تصميم الشرائح: وهم «مصنّعون بلا فبركة» Fabless Manufacturers وهذا يعني شركات تنتج تصاميم الشرائح لكنها لا تملك مصانع (فَبارك) لتنفيذها. 3- مصانع الفبركة (وهي في الوقت نفسه مصانع ومسابِك Foundries متكاملة). 4- صانعو المعدّات: ويسمّون أيضاً «رأس مال أشباه الموصلات» واختصاراً semicap. 5- اختبار وتجميع أشباه الموصلات الموكَل لأطراف خارجية (outsourced) أو ما يعرف اختصاراً بـ OSAT (والصين من أهم بلدان «أشباه الأطراف» التي يوكِلُ إليها المركز الإمبريالي هذه المراحل في الصناعة).
ولتلخيص هذا التصنيف نقول إنّ تلك الرقائق في هاتفك الذكي، أو سيارتك أو حاسوبك المحمول (اللابتوب)، يتم تصميمها من قِبَل شركات تعرف بمصطلح «المصنّعون بلا فبركة» fabless manufacturers، وذلك باستخدام برمجيّات أتمتة التصميم الإلكتروني EDA. فإذا كانت الشركات تستطيع، فضلاً عن تصميم الشرائح، أن تقوم بتنفيذها صناعياً أيضاً (فبركتها)، فيطلق عليها عندئذٍ مصطلح «صانعو الجهاز المتكامل»، وأضخم شركتين من هذا الصنف هما «سامسونغ» الكورية الجنوبية و«إنتل» الأمريكية. أما معظم شركات الرقائق في العالَم فإنها لا تستطيع فـَبْرَكة الرقائق بنفسها، فتقوم بإرسال التصاميم إلى شركات أخرى تستطيع ذلك، وهذه الأخيرة تسمّى بـ«المَسابِك» foundries (من السِّباكة)، وأهم أمثلتها في العالَم هي شركة أشباه موصلات تايوان الشهيرة TSMC.
ولا يمكن لأيّة جهة أنْ تفبرك الرقائق إلا إذا امتلكت أو اشترت معدّات متخصّصة عالية التعقيد، يصطلح على تسميتها semicap وهي اختصار لـ«معدّات رأسمال أشباه الموصلات»، وتحتكرها حفنة قليلة من المزوِّدين. وتقوم المَساِبك بالجمع بين هذه المعدّات ومواد خاصّة مع الخبرة بمعالجتها من أجل تصنيع الرقائق. وتكون بعد ذلك بحاجة إلى التجميع والاختبار والتغليف، وهي عمليات ذات كفاءات مختلفة عن تلك المطلوبة للفبركة، ولذلك فإنّ المسابِك توكِلُ هذه المهمّات إلى شركات أخرى خارجية متخصصة بها (OSAT).
وهكذا لا تصبح الرقاقة جاهزة للاستعمال إلا بعد أنْ تمرّ بمراحل التصميم، والفبركة، والاختبار، والتجميع، والتغليف.

تصنيف الرقائق إلى أحجام أو «عُقَد»

يطلق على أصناف الرقائق وعمليات تصنيعها، بناءً على حجمها ونطاق استعمالاتها اسم «العُقد»، وهي كبيرة ومتوسطة وصغيرة وواعدة.
1- العُقَد الكبيرة: رقائقها أكبر من 180 نانومتر، وعادةً ما تكون تماثلية analog وتستخدم لتستقبل دخلاً غير ثنائي (غير رقمي) non-binary وتحوّله إلى ثنائي. كما في حسّاسات السيارات الكهربائية التي «ترى» الطريق وتنقل المعلومات عبر بقية النظام.
2- العُقَد المتوسطة: من 28 إلى 180 نانومتر. بمعظمها عقد منطقية logic. وهي التي يتصوّرها معظم الناس عندما يسمعون كلمة «رقائق»، حيث تستخدم مثلاً في معالجات الكمبيوتر.
3- العُقَد الصغيرة: من 10 إلى 22 نانومتر. معظمها رقائق ذاكرة وبعضها رقائق منطقية. ومعظم رقائق الذاكرة هي تلك التي تستخدم في وسائط التخزين (الأقراص) ذات الحالة الثابتة SSD، وكذلك في «ذاكرة الوصول العشوائي الديناميكية» DRAM، مثل التخزين المؤقت الذي يعتمد عليه كمبيوترك للحفاظ مثلاً على جميع تبويبات صفحات الإنترنت مفتوحة بالوقت نفسه في المستعرض؛ حيث تحفظ هذه الذاكرة كلّ «بت» في مكثّفات منفصلة داخل دارة متكاملة، وهي من نوع الذاكرة القابلة للزوال.
4- عُقَد «الحافّة القائدة»: أو Leading-edge وتعني تقنيّاً رقائق صغيرة متقدّمة أو واعدة، بأيّ حجم اعتباراً من 1 نانومتر الموعودة من الشركة التايوانية وحتى 10 نانومتر الموجودة في جهاز iPhone8. ومع ذلك معظم الرقائق المتقدّمة ذات الإنتاج السُّوقيّ (غير التجريبي) اليوم هي رقائق 5 نانومتر في أجهزة iPhone12 المزوَّدة بتقنية 5G.
كلّ مستوى أو نوع من هذه «العُقَد» مهيمَنٌ عليه من شركات معيّنة تمتلك خبرة نوعية معيّنة. وبما أنّ الرقائق التماثلية (أيْ الأكبر حجماً) هي الأسهل صناعةً، تقتصر الأفضليات التنافسية لشركاتها على مدى توسيع المنتوجات والوصول إلى قنوات التسويق وتقليص تكاليف الإنتاج السوقيّ الكبير. وتعدّ شركة Texas Instruments الأمريكية (الشهيرة بصنع الآلات الحاسبة) هي الرائدة في هذا المجال.
وبالنسبة للرقائق متوسطة الحجم، التي تستعمل غالباً للذاكرة، فهناك ثلاث شركات عالمية تسيطر عليها: Micron في أمريكا وكلٌ من SK Hynix وSamsung في كوريا الجنوبية. ولأنّ رقائق الذاكرة تحتاج مكثّفات وترانزستورات معاً، فإنّ تصغير أحجامها تحت حدّ معيّن يكون أصعب من تصغير الرقائق المنطقية الحاوية على ترانزستورات فقط. ولذلك لم يتم التوصل إلى تصغير رقائق الذاكرة إلى ما دون 10 نانومتر. وخلاصة القول في المنافسة برقائق الذاكرة هو أنّ الطريقة الوحيدة لزيادة المعروض منها هي الزيادة الكمية لخطوط الإنتاج عبر شراء المزيد من معدات فبركتها من شركات المعدّات (التي ذكرناها سابقاً تحت مصطلح semicap)، وتدريب المزيد من طواقم العمّال لتشغيل الخطوط الجديدة.
أما الرقائق الصغيرة المنطقية، وهي «البنية التحتية» للحَوسبة، فهي الأصعب في استنساخها وتقليدها. وهي التي تحظى بالتركيز الأكبر لجهود الصين لكي تتمكّن من تصنيعها بشكل مستقل.
في الجزء الثاني من هذا المقال سنتابع الإضاءة على التبادل اللامتكافئ «رقائقيّاً» بين أمريكا والصين، وأهمية «الاستقلال الرقائقيّ» للصين، وماذا يجب أن تفعل لتنال استقلالها الكامل في مجال أشباه الموصلات.

■ بتصرّف عن ورقة بعنوان China, Semiconductors, and the Push for Independence، بتأليف مشترك من جوردان نيل (كاتب ومحلل اقتصادي)، وليليان لي (محرّرة موقع خصائص صينيّة Chinese characteristics). نُشِرت الورقة في آب وتشرين الأول 2021 بحجم 60 صفحة على جزأين في موقع «خصائص صينية».

(الجزء الثاني)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1108
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 12:16