أشباه الموصلات ومساعي الصين للاستقلال التكنولوجي (2)
جوردان نيل وليليان لي جوردان نيل وليليان لي

أشباه الموصلات ومساعي الصين للاستقلال التكنولوجي (2)

تحاول الصين أن تكرّر داخلياً وبأقصر زمن ما استغرق العالَم عدة عقود لتطويره. وتتلاقى الحكومة وعدة شركات صينية بدافع الاستقلال التكنولوجي عموماً و«الرقائقيّ» خصوصاً؛ فهذا أوّلاً اهتمامٌ جيوسياسيّ، نظراً لخطر استمرار تبعيّة قطاع التكنولوجيا الصيني لمعدّات هذه الصناعة المُسَيطر عليها أمريكياً. وهو ثانياً اهتمامٌ سُوقيّ لشركات الرقائق المحلّية ببناء قدراتها التصنيعية المستقلة وهي ترى التصاعد السريع للطلب، وتتلقّى تهديدات أمريكية بقصم ظهرها كمنافس واعد.

تعريب وإعداد: قاسيون

التبادل الأمريكي- الصيني اللامتكافئ «رقائقيّاً»

لنلاحظ الأرقام التالية آخذين بالاعتبار الفرق الكبير بعدد السكان بين البلدين: توجد في الولايات المتحدة المقرّات الرئيسة لثُلث (أو 33%) من صانعي الرقائق بالعالم (في الصين يوجد 26%). ويستهلك الأمريكيون لوحدهم ربع (25%) أجهزة العالَم الإلكترونية المزوَّدة بالرقائق (وتستهلك الصين 24%). وفي حين لا يتم في أمريكا تصنيع أو تجميع سوى 19% من أجهزة العالَم هذه، بينما تصنّع أو تُجمّع الصين 35% منها.
وهكذا فإنّ الصين تتميّز بطلب هائل ومتزايد على الرقائق، ولكنّ بمعروض أقلّ لتسدّ منه طلبها ما عدا الإنتاج الناجم عن إيكال الشركات الأجنبية أعمالَها لصانعين صينيّين (ما يصنَّف تحت مصطلح OSAT). وحصة الصيّن من السوق العالمية للفبركة المستقلة نسبياً للرقائق هي 16% ومعظمها من صناعة شركتها الرئيسة SMIC (الدوليّة لصناعة أشباه الموصلات).
ويجدر بالذكر بأنّ SMIC، رغم تداول أنباء عن تمكّنها من صناعة رقائق الـ 7 نانومتر (ومعظمها لتعدين العملات الرقمية - الكريبتو)، ولكنها على مستوى الإنتاج التسويقي الكبير (غير التجريبي) ما تزال عند عقدة 14 نانومتر فما فوق. وجرت العادة عالمياً أنْ يتدرّج تطوّر شركات الرقائق بالتسلسل في تصغير العقد؛ فتمرّ مثلاً من صناعة 14 نانومتر ثم 10 ثم 7. أما شركة SMIC الصينية فيبدو أنها مقتنعة بضرورة «القفز» مباشرةً من 14 إلى 7 نانومتر (حرق المراحل) وخاصة بعد قلقها من مثال تأثير العقوبات الأمريكية على شركة هواوي.

أهمية «الاستقلال الرقائقيّ» للصين

ينظر المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني إلى الاستقلال بصناعة أشباه الموصلات كقضيةٍ رئيسة، كما يبرز في الخطط الخمسية الأخيرة. ولكن ليس الحزب وحده يراها كذلك، فالعديد من الشركات الصينية الصغيرة تعلم بأنّ شركاءهم الغربيين والأمريكيين قد يتمّ ترغيبهم أو ترهيبهم بقرار سياسيّ من واشنطن لتجنّب التكنولوجيا ذات المنشأ الصيني، لأغراض جيوسياسية، مما يعرّضها للخطر.
وتحرز الصين تقدماً جيداً في بناء قطّاعها الرقائقيّ حيثما تُشكِّل العمالة الرخيصة أفضليةً، رغم أنّ التكاليف العالية لـ«نفقات رأس المال» تشكّل عائقاً رئيساً (النفقات الرأسمالية أو ما يعرف اختصاراً بـ capex هي ما تنفقه الشركات لشراء أو زيادة أو ترقية أصول فيزيائية ثابتة كالتكنولوجيا والمعدات والمباني وغيرها).
لكن هذا التقدم متاحٌ للصين بشكلٍ رئيسيّ في أشباه موصلات «الحافة المتأخرة» lagging edge كالرقائق المنطقية وذواكر «فلاش ميموري»، وبعض المراحل دون «فبركة». أما في «الحافة الأكثر تقدماً»، فتجري عرقلة الصين، باستثناء مراحل التجميع والتغليف كأعمال أجنبية موكَلة لها محلياً (outsourced).
والمشكلة الرئيسة هي أنّ تكنولوجيا الرقائق الأكثر تقدماً هذه تعتمد كثيراً على «أدوات أتمتة التصميم الإلكتروني» EDA المحتكرة أمريكياً. ولا تزال الصين متأخرة في نموّ «مسابِك» الرقائق (مصانع فبركتها الأهمّ)، حيث يتم حرمان شركة SMIC (التي هي الأولى بالصين في هذا المجال) من الحصول على آلات «الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرِّفة» EUV، ومن الوصول إلى المعدّات الحسّاسة في هذه الصناعة. فالشركات الصينية تعاني في صراعها من أجل استنساخ هذه المهارات والعمليات الضرورية والمعقّدة، والتي يشكّل امتلاكها «عنق الزجاجة» للعبور إلى الاستقلال بصناعة أشباه الموصلات.
من خلال شركتها «إنتل» Intel والمحتكرين الآخرين، تمكّنت الولايات المتحدة الأمريكية من الاحتفاظ بعرشها في هذا المجال. ومع ذلك شهد العقد الأخير تزايد الحصة السوقيّة للصين في العديد من المجالات التي كان مهَيمناً عليها أمريكياً، وإحرازها تقدماً سريعاً، ولا سيّما حيثما يَرضى المستهلكون بجودة أقل وأسعار أرخص.

ما العمل؟

الصين بحاجة إلى بناء ثلاث مقدرات رئيسة: المهارة، المعدّات، والتعقيد الاحترافي المتقدّم في العمليات.
تعمل جامعات الصين الأهم، وبشكل متزايد، على إدخال برامج دراسية في الدارات المتكاملة والإلكترونيّات الدقيقة. حتى أنّ هناك جامعةً مسخّرة بأكملها لأشباه الموصلات في نانجينغ. ومع ذلك، يقدّر بأنْ تبقى الصين تعاني نقصاً بمئات آلاف الوظائف في هذا المجال حوالي العام 2030، والتي تملؤها حالياً بعمّالٍ من الخارج تجتذبهم إلى شركاتها مثل SMIC وYMTC.
يعود سبب الفجوة بالمهارات إلى أنّه، وبخلاف كثير من الصناعات الأخرى، يكاد يكون مستحيلاً القيام بـ«هندسة عكسية» للعمليّات المعقَّدة في صناعة الرقائق على المدى القصير، يكون استئجار مهندسين خبراء أسهل بكثير من محاولة المهندسين المحليّين أن يكتشفوا بشكل مستقل كيفية العمل. ولكن هذا ليس مستداماً على المدى الطويل، فهو يعرقل تنمية وتطوير خبرات وطنية محلية.
ولا يمكن استنساخ العملية بأكملها بتوظيف اثنين أو ثلاثة من المهندسين الخبراء، بل يحتاج الأمر عدة مئات دفعة واحدة، وأن يكونوا جميعهم معتادين على منظومات خط الإنتاج ومكوّناته، وأنْ يتمتّعوا بالقدرة على العمل الجماعي. وبما أنّ المهارات هنا قليلة وثمينة، تُسارع الشركات الناشئة لضخّ رأسمال كبير كي تقتنص (أو تسرق) المهارات من الشركات الرائدة.
بالنسبة للمعدّات المتقدّمة، يصطلح على تسميتها اختصاراً semicap للدلالة على رأس المال الأكثر حساسية في صناعة الرقائق ومعدّاتها وأدوات تصميمها، التي تحرص الولايات المتحدة الأمريكية على حرمان الصين منها، في وقتٍ لم تتوصّل فيه هذه الأخيرة بعد إلى تصنيعها بنفسها.
وتفرض أمريكا قبضة محكمة على مصدّري هذه المعدّات مثل الشركات الأمريكية Lam Research وKLA Tencor وApplied Materials وشركة ASML الهولندية. مما جعل هذه الشركات محدودة القدرة على البيع للشركة الصينية الرئيسة SMIC وغيرها من أبرز شركات الرقائق الصينية، وبالمقابل لا توجد هذه التقييدات الصارمة لبيع المعدّات نفسها إلى TSMC التايوانية وSamsung الكورية، مما ساعد في تحصين مواقع هذه الأخيرة في ريادة هذه الصناعة.
مع ذلك، لم يشمل الحظر الأمريكي-الغربي كل المعدّات. مثلاً، ما زال متاحاً للصين شراء ماكينات «الطباعة الحجرية (الليثوغرافيا) بالأشعة فوق البنفسجية العميقة» DUV lithography إضافة لمنظومات «الحافة المتأخرة». ولكن هذا لا يسهّل سوى عمليات إنتاج رقائق الـ 14 نانومتراً فما فوق، في حين أنّ الصين بحاجة إلى معدّات «الحافّة المتقدّمة» وأهمّها ماكينات «الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرّفة» EUV lithography.
ومع أنّ شركتين صينيّتين قادرتان على إنتاج معدّات تصنيع رقائق الـ 5 نانومتر، لكنّ الشركة الصينية الأكبر SMIC غير قادة على الاستقلال حتى الآن بسبب الحظر المفروض أمريكياً ضدّ حصولها على منظومات EUV.
ولا بد من التنويه على نقطتين بخصوص تصنيع رقائق 5 نانومتر أو حتى 7 نانومتر. فأولاً، ثمة قفزة كبيرة بين القدرة على تصنيعها تجريبيّاً بسياق البحث والتطوير R&D وبين تصنيعها الواسع الموثوق للسوق. وثانياً، حتى بعد الحصول على الماكينات، فهذا لا يضمن تلقائياً منافسة ماكينات شركات غربية مثل Lam Research وKLA machines إذ يجب أنْ تتمتع أيضاً بالموثوقية وجدوى السعر بالنسبة للأداء، وذكاء المنظومة، وقيمة مقبولة لما يسمى «الزمن الوسطي بين الإخفاقات» MTBF.
وفقاً لخطة «صنع في الصين 2025» تهدف البلاد بحلول ذلك العام إلى تحقيق اكتفاء ذاتيّ من أشباه الموصلات بنسبة 70% مسترشدةً بالخطة الخَمسية للشيوعي الصيني. ولكن هذه النسبة اليوم هي 20%. وبالتالي تحتاج إلى جهود هائلة. وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، شكّلت المنح التشجيعية نسبة مهمة من المدخول الصافي لشركات الرقائق الصينية حيث نمت بنسبة من 25% إلى 125% وسطياً. وضخّت الدولة في هذا المجال 32.5 مليار دولار، عام 2020 لوحده، ما يشكل قفزة بنسبة 407% عن العام السابق.
ما لم تتمّ ممارسة المعرفة بشكلٍ متكرّر وواعٍ فإنها تضيع. والصين متأخرة في تلك العمليات الأكثر تعقيداً ضمن صناعة الرقائق، وكلّما اتّكـلت على المعدّات الأمريكية والأجنبية قلّ نموّ مقدراتها الداخلية.

(الجزء الأول)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1110
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 12:16