مَطالِب بتخليص نظام الدكتوراه من قيود القرن التاسع عشر

مَطالِب بتخليص نظام الدكتوراه من قيود القرن التاسع عشر

تناولت افتتاحية حديثة لمجلة «الطبيعة» انتقاداً للطريقة السائدة أكاديميّاً في إعداد الدارسين لنيل شهادة الدكتوراه، معتبرةً بأنه «من أجل أنْ يحقّق الباحثون تطلّعات المجتمع، يجب على طريقة تدريبهم وتأهيلهم والإشراف عليهم أن تهجر طرائق القرن التاسع عشر».

كتبت هيئة تحرير افتتاحية مجلة «الطبيعة» Nature في عددها المؤرَّخ في 19 كانون الثاني 2023، أنّ الطرائق المتبعة منذ عقود للتأهيل والتدريب بغرض نيل شهادة الدكتوراه، لم تعد ملائمةً لهذا الغرض، وأنها بحاجة إلى إصلاحٍ الآن، وحتى إلى «ثورة»، وذلك بغض النظر عن الحقل أو الاختصاص الذي يجري فيه التأهيل لهذه الدرجة الأكاديمية.
وكتبت «الطبيعة» في افتتاحيتها المذكورة، بأنها لاحظت هي وغيرها من الناشرين العلميّين، بأنّ التأهيل لنيل شهادة الدكتوراه يعاني من مشكلات منذ زمن. ويُحسَب لمحرّري الافتتاحية تعاطُفهم مع قضية الطلاب ذوي الدخل المحدود والفقراء، حيث تطرّقوا إلى المشكلات الاقتصادية والتضخم، المتزايد خصوصاً في السنوات الأخيرة، والذي يؤدّي إلى تقويض قيمة المنح الدراسية للطلاب أو معاشاتهم، والتي كانت ضئيلة أصلاً حتى قبل تفاقم التضخم.
ويشكو كثير من الباحثين، وخاصةً الذين ما زالوا في بداية حياتهم المهنية، من نقصٍ مزمن بالدعم، وكذلك من مستوى سيّئ الجودة في الإشراف على أبحاثهم، حيث نادراً ما يكون الباحثون المشرفون عليهم مؤهَّلين ومدرَّبين أصلاً على الاضطلاع بمهمة الإشراف.
إضافة إلى ذلك، تعاني بعض الجامعات والمعاهد والمؤسسات الأكاديمية، في بعض الأماكن في العالَم، من مشكلة العنصرية والتمييز على نحو منهجي في ثقافتها الأكاديمية.
ومن جوانب القصور أيضاً، أنّ المرشّحين لنيل شهادة الدكتوراه لا يتمّ إعدادهم بشكل كافٍ من أجل العمل «العابر للاختصاصات» (أي الذي يكون فيه تقاطعٌ بين عدة اختصاصات مختلفة)، أو العمل ضمن فرق كبيرة، مع أنّ هذا النوع من العمل البحثي هو من مميّزات العلوم «القاطِعة للتُّـخوم»، أي التي تتصدّى لتقديم أحدث الإنجازات. وينطبق هذا خصوصاً على المهن خارج إطار البحث الأكاديمي، والتي تتوجّه إليها عادةً الأغلبية العظمى من مرشحي الدكتوراه.
لكن الأمر ليس بهذا السوء، بحسب تعبير افتتاحية المجلّة؛ والتي رأت بأنّ الجامعات في عدد صغير من البلدان ذات الدخل المرتفع قد قامت بإصلاح نظام تقييم الدكتوراه، أو أنها في طور القيام بإصلاحه.
لكنْ في معظم الأماكن، ولا سيّما في البلدان منخفضة أو متوسطة الدخل، لا يزال عمل الدارس المرشّح لنيل الدكتوراه يخضع لتقييمٍ يعتمد على نموذج «الأطروحة ذات الكاتب الواحد».
ويتم «الدفاع» عن الأطروحة «شَفَهيّاً» أمام لجنة تحكيم، بطريقة ما زالت تسمّى حتى الآن viva voce التي تعني باللاتينية حرفياً «مع الصوت الحي»، وتعود أصولها إلى القرن التاسع عشر.
وفي العديد من البلدان يُشترط أنْ يقوم المرشَّح بالنشر في مجلّة علمية محكّمة، قبل أنْ يحصل على شهادة الدكتوراه، وهو أمرٌ يقولُ النقّاد بأنّه يمكن أن يغذّي تقاتلاً وتزاحماً «افتراسيّاً» على النشر.
لقد أخذت محدوديّات وضِيق هذا النظام تزداد وضوحاً أكثر فأكثر، وذلك بسبب الارتفاع الحاد في عدد الأشخاص الذين يتدرّبون من أجل الحصول على شهادة دكتوراه.
وبحسب كتابٍ ظهر عام 2022 بعنوان «نحو نظام قيمةٍ صميميّ عالَميّ في تعليم الدكتوراه» Towards a Global Core Value System in Doctoral Education – والمتاح بتنسيق pdf مفتوح المصدر – فإنّ عدد شهادات الدكتوراه التي تمّ منحها في الصين، قد ازداد بأكثر من مرتين، من 23400 عام 2004 إلى 55011 عام 2016، ووصل إلى حوالي 60 ألفاً عام 2019. وفي الهند زاد عدد إجازات الدكتوراه الممنوحة، من 17850 إجازةً عام 2004 إلى 25095 عام 2016. وفي الولايات المتحدة الأمريكية زادت إجازات الدكتوراه من 48500 إلى 69525 خلال الفترة نفسها.

ضرورة تحديث نظام الدكتوراه

في أغلب الحالات، لا يزال التأهيل لنيل درجة الدكتوراه، على الأقل من الناحية المفاهيمية، منظَّـماً على الطريقة نفسها التي كان عليها عقب نشوئه وتطويره في ألمانيا منتصفَ القرن التاسع عشر، ومن ثمّ تصديره منها إلى بقيّة العالَم بعد ذلك. ففي ذلك الزمان كان الباحثون الشباب مرتبطين بالبروفسور كفرد، على طريقة ارتباط صِبيان الحِرفة (الصُّـنَّاع) بمعلّمهم، بهدف الحفاظ على المعرفة ونقلها، مع مراعاة تقاليد محدَّدة من الانضباط والالتزام الفردي.
ولكن لا يمكن الاستمرار على هذه الحال إذا ما كان المطلوب من الجيل القادم من الباحثين أنْ يلبّوا حاجات المجتمع. إذ إنّ هناك حاجة إلى ثورة في تنظيم وتمويل التأهيل والتدريب لنيل شهادة الدكتوراه.
والتغيير المطلوب يجب أن يشكّلَ ثورةً على مستوى مشابهٍ في جذريّته للانقلاب الذي حدث في نظام التربية والتعليم المدرسي والجامعي، عندما كفّ عن أن يكون حِكراً على عدد صغير نسبياً من الناس الأثرياء، أو المتدرّبين من أجل مهنٍ تتعلّق بالتعليم السياسي أو الديني.
فعندما توسّع التعليم ليكون مفتوحاً للجميع (نظرياً على الأقل)، لم يعد أمراً عملياً بعد ذلك أنْ تجري العملية التعليمية في إطار مجموعات صغيرة يتولّى القيام بها تقريباً معلّم واحد فقط، والذي يكون غالباً قليلَ المؤهّلات، أو عديمها، للاضطلاع بمهمّة كهذه.
وعوضاً عن ذلك أخذت البلدان تُدخِل المختصّين بمادّة معينة كمعلّمين؛ وتم تقليص عدد طلاب الصف الدراسي، وتجريب تقنيات تعليم جديدة، والتعاون في قياس وضمان الجودة، وإجراء أبحاث تربوية وتعليمية تهدف إلى فهم كيف يختلف التحصيل العلمي للطلّاب في الظروف المختلفة، وباتباع الطرائق المختلفة.
إنّ المحرّرين والمشاركين في تأليف كتاب «نحو نظام قيمة صميميّ عالَمي في تعليم الدكتوراه»، وجميعهم خبراء في البحث بمجال التعليم العالي وسياساته وممارسته، قد زوّدوا الكتاب بلمحات عن وضع هذا التعليم كما يجري في بلدان مختلفة، بما في ذلك الأمثلة المهمة لتحديث نظام التأهيل لنيل الدكتوراه.
بعض المرشّحين (لنيل الدكتوراه) يتم تعليمهم وإرشادهم على شكل مجموعات يكون لها أكثر من مشرف واحد، بحيث يكون الطلاب أقلّ عزلة وفي وضع أكثر حماية لهم في حال ساءت العلاقة مع أحد المشرفين.
لن تكون عملية إصلاح نظام التدريب والتأهيل لنيل شهادة الدكتوراه عمليةً سهلة. إنها أشبه بتحويل مسار باخرة؛ ستكون بطيئة، وتحتاج إلى التخطيط والموارد. ولكن يجب أن تكون النتيجة النهائية تحويلاً على نطاق ضخم، على غرار ما حدث بعد إصلاح التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي. وإذا كان القادة السياسيون يريدون حقاً علماء يعملون بجدّ من أجل المجتمع، فإنّ عليهم بدورهم أنْ يعملوا ويتعاونوا مع الباحثين الذين يسعون لضمان أن يتمكن نظام التدريب والتأهيل لنيل الدكتوراه من الخروج من القرن التاسع عشر والانضمام إلى القرن الواحد والعشرين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1107
آخر تعديل على الثلاثاء, 31 كانون2/يناير 2023 08:44