إذا استمرت الرأسمالية ستحولنا إلى «آكلي حشرات»!
تتزايد الأبحاث حول استبدال المصادر الحيوانية للغذاء البشري، وخاصة اللحوم، بل وحتى النباتية، وإحلال الحشرات مكانها كمصدر بروتيني «بديل»! قد يقول البعض: «ولِمَ لا؟ أليس حلّاً إبداعياً وثورة في التغذية»؟ أليس «حلّاً» للمجاعات و«نقص الموارد» وارتفاع تكاليف تربية الحيوانات والزراعة، والتي لم تعد تكفي «العدد الزائد عن اللزوم» من سكان الكوكب؟ أليس «بديلاً أخضر ومستداماً ويحارب التغير المناخي»؟ الحقيقة أنّ هذا هو بالضبط خط الحجج والذرائع النيومالتوسية التي يتزايد الترويج لها منذ مؤتمر منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) عام 2014 تحت عنوان صريح وصادم لمن لم يسمع به من قبل: «مؤتمر الحشرات العالَمي لإطعام العالَم»!
في مادة نشرت في «قاسيون» في 10/01/2022 حول محاضرة للبروفيسور أندريه فورسوف، في نوفمبر 2021 كان لافتاً إشارته لمؤتمر «سانتافي» المغلق 2018 في نيومكسيكو الأمريكية، الذي حضره كبار المسؤولين والمدراء التنفيذيين لكبرى الشركات وأعضاء الاستخبارات والشخصيات الأكثر نفوذاً في تحديد الإستراتيجيات العامة المستقبلية، وجرى في آخره نقاش «سيناريوهات التطور العالمي». ويصف فورسوف «السيناريو الرابع والأخير» بأنه الأكثر شؤماً «وهو: الانتقال أو التحول الأنثروبولوجي والذي حظي بترجيح 25% من المشاركين... انتبهوا هو تحول أنثروبولوجي، ليس اجتماعياً بل أنثروبولوجيّاً... تشكيل ذاك المجتمع الذي تتمايز فيه القمة عن القاعدة كنوعين مختلفين أنثروبولوجياً وبيولوجياً، بمعنى أن من هم فوق يعيشون 120 إلى 140 عاماً يأكلون الغذاء الطبيعي الصحي يعيشون في مناطق مخصصة نظيفة بيئياً، أما من هم في الأسفل، فيعيشون كما تشاء الظروف، فيحصلون على البروتين من الديدان والحشرات ويعيشون في أماكن بيئية أخرى ملوثة. بمعنى أنه يجري تشكيل مجتمع ليس طبقياً ببساطة وإنما متمايز نوعياً».
بعد اطلاع معد المقال الحالي على بعض الدراسات حول إطعام الحشرات للبشر يبدو أنها تتوافق مع تفكير جدّي لدى نخبة شيطانية بالتحكم بتطوّر أغلبية النوع البشري باصطفاء «غير طبيعي» بل مُهَندَس اصطناعياً وبشكلٍ نُكوصِيّ رجعي وليس تقدّمياً، لتحويلنا إلى نوعين متمايزين بيولوجياً: أقلية من نوع الإنسان اللاحم homo carnivorous وأكثرية من نوع «الإنسان آكل الحشرات» homo insectivorous.
لمحة تاريخية
يطلق على ممارسة أكل الحشرات عند البشر مصطلح «إنتوموفاجيا» entomophagy (من entomo- وتعني حشري، وphagy وتعني التهام أو أكل أو بلع). وتصنف إحدى الدراسات هذه الممارسة إلى حركتين:
الأولى، أكل الحشرات التقليدي، أو الشعبي التراثي، مارستها شعوب ومجموعات بشرية عبر آلاف السنين، تقوم على جمع والتقاط (وبدرجة أقل تربية) بعض أنواع الحشرات من الحقول أو المناطق البرية المجاورة لسكنها، ثم معالجتها بطرق تقليدية لاستهلاكها، وهي متداخلة مع ثقافات الشعوب التي اكتسبت خبرة في معرفة ما يروق لها ويفيدها وما يمكن أن يضرها ويؤذيها من حشرات. ومن الجدير بالتشديد عليه هنا نقطتان: أولاً، هذه الممارسة التقليدية ليس فيها شيء مصطنع أو غير منسجم مع الطبيعة لأن دافعها الأساسي طبيعي مبني على الحاجات الداخلية والتفضيلات والاختيارات لدى هذه الشعوب دون إكراه أو قسر لها على ذلك من قوى السوق أو من إجبار أو ترويج ربحي. وهنا ندخل إلى حركة أكل الحشرات السوقية الرأسمالية المعاصرة التي وصفتها الدراسة كما يلي: «على الرغم من أن أساس هذه الحركة الجديدة يستند إلى العلم ولكن القوة الدافعة لها هي السوق مثلها مثل أيّ بزنس زراعي حديث».
النيومالتوسية وبزنس الحشرات كغذاء
تقول إحدى الدراسات «تم تصميم هذه المنتجات على أنها تلبي التحدي المتمثل في زيادة عدد سكان العالم مع تزايد الطلب على الأطعمة الحيوانية. وبذلك، سيأخذون نصيباً كبيراً من أسواق البروتين التي تبلغ قيمتها مليار دولار، بينما يعالجون في الوقت نفسه عواقب الأذواق التي تبدو نهمة للحوم ومنتجات الألبان والبيض». وتلاحظ الدراسة بالفعل علاقة هذا التوجه مع النيومالتوسية حيث تقول: غالباً ما يظهر رقمان في هذه الإطارات: «9 مليارات» و «2050». يشير الأول إلى التعداد المتوقع أن يبلغه سكان الأرض، والثاني إلى السنة التي سيتم فيها الوصول إلى هذا التعداد السكاني.
كذلك تلاحظ الدراسة سردية عددية أخرى: «2 مليار يشير إلى مجموعة سكانية أكثر تحديداً تتركز بشكل كبير في الجنوب العالمي، وتعاني حالياً من نقص التغذية والفقر». ومن الواضح أنّ الحديث يدور عن نظرية «المليار الذهبي» التي تعود لمالتوسيّي عصابة بيلديربرغ سيّئة الصيت الذين نظّروا لتقليص عدد سكان الكوكب إلى 3 مليارات يكون مليار واحد منهم «ذهبياً» يعيش على حساب المليارين الآخرين.
وتنتقد الدراسة المذكورة عن حق أنّ «هذه التجريدات العددية تصوّر مستقبلًا مكتظاً، ونقصاً في البروتين على وجه التحديد، حيث لا تستطيع قدرات الكوكب تلبية متطلبات سكانه» وتسمي الدراسة صراحةً هذه الذرائع بأنها «روايات مالتوسية»، يتم الزعم فيها بأنّ إنتاج البروتين عبر تربية الماشية «معطوب» و«غير فعال» و«قديم». وفي الحقيقة حتى لو أقررنا بعيوب ونواقص منظومة الإنتاج الحيواني الحالية لكن ما لا يتم انتقاده كسبب أساسي في ذلك هو النظام الرأسمالي نفسه كسبب.
تجدر الإشارة أنّ إحدى أشيع الأدوات الترويجية المرتدية شكلاً علمياً في هذا المجال هو تكرار التركيز على أنّ الحشرات أغنى بالبروتين من الحيوانات ذات اللحوم. ولكن يجب الانتباه هنا إلى أنّ تلك الجداول والأرقام المقارنة التي توضع في الدراسات حول ذلك، هي أولاً، تنتقي أنواعاً معينة من الحشرات قد تحوي بالفعل تركيز بروتين في واحدة الوزن الرطب لها أعلى مما في اللحوم، ولكن بالمقابل هناك حشرات أخرى أقل محتوى بالبروتين بالطبع، ويختلف الأمر حسب طور دورة حياتها إذا كانت يرقة أو بالغة وإلخ. وثانياً، هذا التجريد الكمي يتجاهل ملاحظات وانتقادات تذكرها دراسات أخرى تقول: «مهما كان الطعام آمناً ومستداماً... ورغم كون الهدف الأساسي لاستهلاكه هو التغذية، ولكن خيارات الطعام هي أيضاً علامة على الهوية الشخصية والثقافية، وقبول الطعام عملية معقدة يقرر فيها الفرد ما يأكله وما لا يأكله». ولمن يتذرع بتاريخ البشرية بأكل الحشرات كممارسة موجودة، ترد الدراسة بأنّه «في ممارسة أكل الحشرات التقليدية يتناول المستهلكون الحشرات بشكل أساسي بسبب طعمها»، مما يعني بأنها كانت ممارسة اختيارية أعجب فيها مذاق حشرات معينة الإنسان، ولكن نادراً ما اعتمدت بكميات كبيرة كسبيل وحيد أو أساسي للغذاء، وهذا بخلاف ما يبدو أن اتجاه بزنس الحشرات الجديد يدفع إليه عندما يتحدث عن «استبدال» البروتين الحيواني وإحلال البروتين الحشري.
تسارع الأبحاث على الحشرات كطعام
وصفت إحدى الدراسات أنّ «مؤتمر الحشرات العالَمي لإطعام العالَم» الذي عقدته الفاو عام 2014 كان بمثابة «الانفجار العظيم» لأصحاب المصلحة المنخرطين بإنتاج الحشرات، وبعد ذلك «ازداد الاهتمام بالموضوع بشكلٍّ أسّي تقريباً»، وذكر مؤلفو الورقة مثالاً بأنهم لدى مراجعة إحصائيات الأبحاث عن حشرة «ذبابة الجندي الأسود» وجدوا أنّ كلّ ما نشر عنها بين عام 1800 و2013 كان 22 ورقة بحثية فقط، في حين نشر عنها 10 أوراق في عام 2014 لوحده (بعد مؤتمر الفاو المذكور) ثم 13 ورقة عام 2015، وبعدها تسارعت الأبحاث السنوية، فكانت بين 2016 و2020 كما يلي على التوالي: 42 بحثاً، ثم 51 ثم 136 ثم 223.
«حرية وتنويع» أم إطعام قسري؟
تلاحظ إحدى الدراسات حول العوامل المعرقلة لبزنس إطعام الحشرات للبشر بأنه «عدا عن عامل الخروج عن المألوف... فبالمقارنة مع الحشرات لطالما ارتبطت اللحوم بما يعرف بالـ 4ns وهي الأحرف الأولى من الكلمات الإنكليزية التي تصف استهلاك اللحم بأنه: طبيعي وعادي وضروري ولطيف... بالمقابل ارتبط أكل الحشرات لدى كثير من البشر بصفات 3ds أي القرف والقذارة والموت». وتضيف بأنه «على الرغم من محاولة كثير من الدراسات تقديم الحشرات كبديل للحوم فإن هذا قد يكون وهماً سفسطائياً لأن كثيراً من الحشرات لا تعطي مذاق اللحوم، والمستهلكون المعتادون على اللحوم سيكتشفون الفرق بالطعم». يمكن لنا أن نتوقف عند هذه الملاحظة الأخيرة لنفكر بواقع شعوبنا بالذات في ظل سياسات الإفقار والتجويع المتعمّد الممارَس علينا، والتي جعلت الملايين يقولون حرفياً بمرارة ساخرة: «نسينا طعم اللحم»، لنسأل: هل تتقاطع هذه السياسات مع المشروع النيومالتوسي المذكور أعلاه، وهل تخدم تمهيداً مخططاً لقبولنا بتناول أيّ شيء، إما المخدرات (لننسى الجوع) أو وصولاً لأكل الحشرات!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1077