سورية المستقبل والعواقب النفسية - الاجتماعية على جيلٍ بلا أب
يناقش عالِم النفس الأمريكي الروسيّ الأصل، يوري برونفين- برينر Urie Bronfenbrenner، استناداً إلى دراساته ودراسات غيره، أنّه في العائلات التي غاب عنها الأب- لأسباب مختلفة بما فيها تعرّض المجتمعات لحروب أو عمليات تهجير وتفكيك للأسرة واختلال بالتوازن الديمغرافي بين الذكور والإناث- يتعرّض أبناؤها الذكور خاصةً لخطر أنْ يصبحوا أشخاصاً أكثرَ اتكاليّةً وخضوعاً. وقد خَصّص برونفينبرينر لهذا الموضوع (من بين موضوعات متنوعة أخرى) مساحةً في كتابه «عالَمان للطفولة: الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية» الصادر بالإنكليزية عام 1971. يستعرض المقال التالي ما جاء في الكتاب المذكور عن هذا الموضوع، ثم يختم بأسئلة جدّية ذات صلة عن احتمالات التأثير السلبي النفسي-الاجتماعي- التربوي لـ«قانون غياب الأب»، إذا صحّ أن نسمّيه كذلك، على «جيل الأزمة» السوريّة، مما يستدعي مهمّة ضخمة لإعادة التأهيل و«إعادة الإعمار الروحيّ» والنفسي- الاجتماعي لجيلٍ يعوَّلُ عليه في بناء سورية الجديدة ما بعد الحلّ السياسي.
يقول برونفينبرينر: أظهرت دراسات في كلّ من الولايات المتحدة الأمريكية والنرويج [وسوف يلاحظ أن نتائج مشابهة بدراسات في الاتحاد السوفييتي أيضاً] بأنّ غياب الأب عن عائلته لا يؤثِّرُ فقط في سلوك الطفل مباشرةً، بل ويؤثِّرُ أيضاً على الأمّ بحيث يدفعها باتجاه المبالغة في حماية أبنائها، ويكون هذا التأثير المزدوج لغياب الأب (على الطفل والأم) حسّاساً بشكل خاص بالنسبة للصِّبْيان. فالأطفال في العائلة التي غاب عنها الأب على الأقل في البداية، يكونون أكثرَ خضوعاً واتكاليةً وخنوثةً، وأكثرَ عرضةً لتأثير المجموعة بحيث يتحدَّدُ سياق تطوُّر الطفل فيما بعد بطابع المجموعة، التي يجد نفسَه فيها. وهكذا في عائلات الزنوج من الطبقات الأدنى حيث يكون غيابُ الأب شائعاً بشكلٍ خاص، يقوم الصبيّ السلبي والاتكالي نموذجياً بتحويل ارتباطه مباشرةً صوب «الشلّة» أو «العصابة»، حيث ينبغي عليه هناك، وكيما يكسب مكانته ويحافظ عليها، أنْ يُظهِرَ صلابتَهُ وعُدوانيَّتَهُ.
وتُرجَّح تأثيراتٌ مشابهة، ولو بدرجةٍ أقلّ تطرُّفاً، في تلك العائلات التي يكون فيها الأب موجوداً ولكنّه يلعب دوراً ثانوياً واضحاً. في دراسةٍ للعلاقة بين بنية دَور الوالدين وسلوك الطفل، وجد برونفينبرينر بأنّ العائلات الأمومية (التي تحتل فيها الأم سلطة القرار الرئيسية) تميل إلى إنتاج أطفال «لا يأخذون زمام المبادرة» و«يلجؤون إلى الآخرين لتلقّي التوجيه والقرار». وفي الوقت نفسه، فإنّ بنية العائلة غير المتناظرة تحمل تأثيراتٍ متباينة بعض الشيء على كلا الجنسَين. ولا سيّما ما يلي:
«تتعزّز سِمَتا المسؤولية والقياديّة لدى الطفل عن طريق اتصاف الوالد الذي من جنس هذا الطفل نفسه بشخصيّةٍ أبرز نسبياً... فيميل الصِّبيان إلى أنْ يكونوا أكثر تحمّلاً للمسؤولية عندما يكون الأب- أكثر من الأم- هو مَن يلعب دور المسؤول الرئيس عن الانضباط؛ في حين تتمتّع الفتاة بشخصيّة يمكن الاعتماد عليها أكثر عندما تلعب الأم دور شخصية السلطة الرئيسية».
وعزَّز البحثُ الإضافي هذه النتيجةَ من جانبٍ مهمّ؛ فقد كشف أنّ أولئك الأطفال، ومن كلا الجنسَين، الذين أظهروا أعلى درجات القياديّة وإمكانية الاعتماد عليهم، لم يكونوا غالباً المنحدرين من عائلات أموميّة ولا أبويّة، ولا حتى من العائلات التي يتساوى ويتشابه فيها الأب والأم من حيث المساهمة في تربية الطفل، بل كان أولئك الصغار منحدرين بالأحرى من عائلاتٍ يتولّى فيها كلٌّ من الأب والأم نصيباً فعّالاً من التربية، ولكن على نحوٍ مختلف، بحيث يكون هناك تقسيمٌ بين الدورين الداعم والضابط (التأديبي).
إرث الحروب والدمار وتفرقة العائلة
ما هي صلةُ هذه الاعتبارات بتربية الطفل في الاتحاد السوفييتي؟ أوّلُ ما ينبغي الانتباه إليه وخاصةً خلالَ وبعدَ الحرب العالمية الثانية، هو أنّ ملايين الأطفال الروس تربّوا في عائلاتٍ فاقدةٍ للأب. وبعد 15 عاماً من انتهاء الحرب، كان ما يزال عدد النساء أكثر من عدد الرجال بمقدار 20 مليون امرأة. ولكن هذه لم تكن ظاهرةً جديدة في التاريخ الروسي الذي شهد سلسلةً لا تتوقف من الغزوات المدمِّرة والحروب الأهلية والمجاعات، وحالات النفي الجماعي، والانزياحات السكّانية، والتي تركت جميعاً آثارها في تفرقة العائلات وإبعاد أعدادٍ كبيرة من الرجال عن منازلهم. وفيما هو أبعدُ من التأثير المباشر الذي يسبّبه هذا الغياب الأبويّ على الزوجات والأطفال، هناك احتمال حدوث تأثيرٍ غير مباشر يتمثّل في فرض أنماطٍ أموميّة في العائلات التي كان الأبُ حاضراً فيها جسديّاً.
وتَظهَرُ مؤشّراتٌ قويّة على مثل هذا التأثير بوصفه جزءاً من إرث العبودية في العائلة الزنجية في يومنا هذا. ومن الممكن أنْ يفعَلَ هذا التأثير فعلَهُ في أيّ مجتمعٍ يعاني من عواقب تاريخٍ من التفرقة الجماعية القسريّة للعائلة.
وعلى الرغم من تساوي النسبة بين الجنسين في تعداد السكان السوفييت الذين هم فوق سنّ 35 عاماً، والذين يضمّون الجيل الحالي [الكلام في بداية السبعينات] من آباء الأطفال الصغار، فإنّ استمرارَ ترأُّسِ الأمّ لتربية الطفل ما زالت ظاهرةً تترك انعكاساتها في كلّ الظروف الموضوعية (مثلاً، الممارسة الشائعة المسماة «كومانديروفكا»: رحلة العمل التي تتطلب الابتعاد عن العائلة لفترات طويلة نسبياً). وكذلك في الأدبيّات الشعبية عن التربية العائلية، حيث يتم تصوير الأمّ والتعامل معها ليس فقط بوصفها العامل الرئيس في تربية الطفل بل وكذلك بوصفها صانعةَ القرارات الرئيسة المؤثّرة في الطفل...
غلبة الإناث عددياً في محيط الطفل
فضلاً عن ذلك، لعلَّ أحدَ الأمور التي قد تكون حتى أهمّ مما سبق، هو أنّ بروز الإناث في بيئة الطفل السوفييتي يتزايد بشكلٍ ملحوظ مع دخوله إلى روضة الأطفال، وتستمر ما بعد ذلك، وعلى الرغم من وجود بعض المعلّمين الذكور وخاصةً في المدرسة الثانوية، يبقى تفوُّق عدد المعلّمات الإناث أكثر بروزاً مما هو في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلاوةً على ذلك فإنّ القادة المنتَخَبين في «مُجَمَّعات الأقران» يكونون غالباً من الإناث (فمن أصل حوالي 30 أو أكثر من المدارس والمخيّمات و«قصور الروّاد» التي تمّت زيارتها، صودِفَ لمرةٍ واحدة فقط أنْ كانَ المسؤول الأعلى في المُجَمَّع صبيّاً).
وعلاوةً على ذلك فإنه فيما بعد مستوى الصفوف الابتدائية تكون الفتيات هنَّ مَن يتولّين الدور الأكثر فعاليّة في فرض الانضباط في الجماعة، ويكون الصبيان هم الأكثر استهدافاً بأنْ يُضبَط سلوكهم.
استنتاجات تطبيقية من أجل سورية الجديدة
إذا صحّت استنتاجات وملاحظات علم النفس والتربية التي أشار إليها برونفين- برينر أعلاه حول الأطفال الذين يعيشون في بيئةٍ حُرِمَت من الأب، فيمكن أنْ نطرح على الأقل النقاط والأسئلة التالية تاركين معالجتها لأيدي الاختصاصيّين والمسؤولين مستقبلاً عن المهمّة الخطيرة والشاقة لإعادة إعمار سورية بشقّها التربوي والنفسي- الاجتماعي بعد كلّ عمليّات التدمير والتهجير و«التجريف» السكاني والاجتماعي والنفسي التي ستظلّ مستمرّة ومتفاقمة طالما لم يبدأ الحلّ السياسيّ والإنقاذ من الانهيار المتواصل اقتصادياً واجتماعياً وعائلياً ونفسياً:
1– ما التأثيرات المزمنة للاختلال الديمغرافي- الجنسي داخل سورية على السمات النفسية- الاجتماعية وبناء الشخصية لدى جيل «أطفال الأزمة»؟ وهو أمرٌ في غاية الخطورة، لأنّهم كشباب حالياً ولاحقاً هم الأكثر تعويلاً عليهم لإعادة إعمار سورية المستقبل.
2– العواقب النفسية- الاجتماعية السلبية التي لاحظها العالَم المستَشهَد بعمله أعلاه يمكننا أن نتوقّع أنْ تكون حتى أشدّ تطرّفاً وقسوةً بالحالة السورية للأسباب التالية: (أ) بخلاف النظام السوفييتي الاشتراكي الذي أوجد شبكة حماية اجتماعية ومؤسسات عامة قوية ورعائية أنقذت مواطنيه وأطفاله وعائلاته من أعتى الحروب والحصارات، يتسم الواقع السوري الذي دمّره نظام الرأسمالية الليبرالية الجديدة المتوحّشة والفاسدة، بهشاشة أكبر وتفشّي نشاطات «الاقتصاد الأسود» داخل سورية الأزمة (كالمخدرات والإتجار بالبشر) والمنتظمة في «عصابات» وتستقطب وتؤثر على الأطفال والشباب المعرَّضين للانضمام إليها والخضوع لنمط حياتها المريض نفسياً واجتماعياً. (ب) هشاشة وتدهور «الأسرة الثانية» أيْ المَدرسة وتردّي الواقع التعليمي والتربوي السوري، والذي كان من المحتمَل أن يخفف من التأثير السلبي للتفكك العائلي المتفاقم كأحد نتائج الأزمة. (ج) تراكم غياب الديمقراطية، وقمع الحرّيات في المجتمع بدءاً من الحرّيات السياسية بشكلٍ خاص، على مدى عقودٍ طويلة، سيجعل «جيل الأزمة»، أو نسبةً مهمّة منه، أشدّ عرضةً للاتكالية والخضوع والانقيادية بدلاً من قيادة النهوض بسورية الجديدة، مما يزيد ثقل المسؤولية على بقية الشباب والأجيال المتمتعين بتحمّل أكبر للمسؤولية والأكثر طليعيةً ووعياً سياسياً واجتماعياً والذين هم موجودون بلا شكّ، وعليهم مهمّة تخفيف التأثيرات السلبية وترميم ما أمكن تربوياً ونفسياً من الأضرار التي ستبقى إرثاً ثقيلاً من حقبة الأزمة وجراحاً ستأخذ وقتاً وجهداً لتندمل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1078