الرأسمالية الموبوءة والحاجة إلى نظرية ماركسية للتضخُّم (2)

الرأسمالية الموبوءة والحاجة إلى نظرية ماركسية للتضخُّم (2)

فشلت نظريات التضخم السائدة (كالنقدية والكينزية) بسبب عدم استنادها إلى قانون القيمة في نمط الإنتاج الرأسمالي. لم يطوِّر ماركس أبداً نظريةً شاملة للتضخم، لكن يبدو أن الاقتصادي الماركسي الإيطالي غولييلمو كاركيدي Guglielmo Carchedi تمكن حديثاً من ابتكار نظرية تضخم تستند إلى نظرية القيمة لدى ماركس؟ وسوف يتم نشر عمله بالكامل في وقت لاحق من هذا العام (2020). وفيما يلي يلخّص مايكل روبرتس (شريكه في تأليف بعض الأعمال) هذه النظرية الموعودة.

مايكل روبرتس
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
(الجزء الأول من المقال)

عارَضَ ماركس جوهر النظرية الكمية للنقود (والذي ستنطوي عليه أيضاً النظرية الكينزية لاحقاً) وذلك لسببين: (1) النقود هي داخلية المنشأ، وقد أنشأتها البنوك وليس بأمرٍ من الدولة. (2) بشكل عام، يمثل النقد قيمةً في إنتاج البضائع، وليس مستقلاً عن الإنتاج البضاعي.

في النظرية الكمية لمعادَلةِ النقود MV = PT (انظر الجزء الأول من هذه المادة) الاتجاه السببي الأساس بالنسبة لماركس هو من الأسعار إلى النقود (من PT إلى MV) وليس العكس. النقود داخلية المنشأ بالنسبة للإنتاج الرأسمالي، وتتشكل أسعار الإنتاج من خَلق القيمة، وليس من خَلق النقود. المعروض النقدي هو الذي يَلحَقُ عموماً بتغيرات الأسعار، لذا فإن المحاولات المتعمَّدة لتغيير المعروض النقدي ستفشل في تحديد تضخم الأسعار.

رفض ماركس أيضاً نظريات «رفع التكلفة» cost-push لأن ارتفاع الأسعار ليس نتيجة ضرورية لارتفاع الأجور. وكما قال في مؤلَّفِه «القيمة والسعر والربح» في نقاشه مع النقابي ويسطون الذي جادل بأنّ ارتفاع الأجور يسبب التضخم: «الصراع من أجل زيادة الأجور يأتي فقط تالياً لمسارٍ من تغيُّراتٍ سابقة، وهو الوليد الضروري الذي تتمخَّضُ عنه التغيرات السابقة في مقدار الإنتاج، وقوى العمل المنتجة، وقيمة العمل، وقيمة النقد، ومدى أو شدة العمل الذي تمّ انتزاعه، وتقلبات أسعار السوق، التي تعتمد على تقلبات العرض والطلب، والمعتمِدَة على المراحل المختلفة للدورة الصناعية؛ أيْ: وبكلمة واحدة، كردِّ فعلٍ مِن العمل على الفعل السابق لرأس المال». ويتابع ماركس: «من خلال معالجة النضال من أجل زيادة الأجور بشكلٍ مستقلٍّ عن كل هذه الظروف، ومن خلال النظر فقط إلى تغيُّر الأجور، وتجاهل كل التغييرات الأخرى التي ينبثِقُ منها هذا التغيُّر، فإنكَ تنطلقُ من فرضية خاطئة لتصل إلى استنتاجات خاطئة». وبشكل عام، يجادِلُ ماركس «إنّ الارتفاع العام في معدل الأجور من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض المعدل العام للربح، ولكن لن يؤثر على أسعار البضائع».

نحو نظرية تضخُّم تستند إلى قانون القيمة

يسعى الإنتاج الرأسمالي باستمرار إلى زيادة إنتاجية العمل (ما ينتجه كلّ عاملٍ من وَحَدات مِن المنتوج). لكن هذا يعني انخفاض وقت العمل لكل وحدة. ونظراً لأن العمل، لا غيره، هو الذي يخلق القيمة [في شكل قيمة تبادلية، أما «الثروة» بشكل عام فقد أكد ماركس بأنّ العمل ليس مصدرها الوحيد، بل والطبيعة أيضاً. انظر «نقد برنامج غوتا» – ملاحظة المُعرِّب]. وفي حين أن هناك اتجاهاً عاماً لزيادة معروض وحدات البضائع والخدمات، فثمّة أيضاً اتجاه عام لانخفاض قيمة البضائع على المدى الطويل. هذا لأن التراكم الرأسمالي عمليةٌ تقتصِدُ في العمالة، وبالتالي ستنخفض قيمة البضائع مع ارتفاع إنتاجية العمل. يتم إنتاج القيم الاستعمالية بكميات أكبر من القيمة المحتواة فيها. فإذا كانت أسعار الإنتاج تعتمد على القيمة، فثمّةَ مَيْلٌ متأصّل لانخفاضِ أسعار البضائع لا ارتفاعِها، إذْ ستنخفض القيمة الإجمالية نسبةً إلى إجمالي الإنتاج بمرور الوقت.

يعتمد طلب البضائع على القيمة الجديدة المخلوقة في الإنتاج. القيمة الجديدة هي التي تفرِضُ الطلبَ أو القوةَ الشرائية على عَرْض البضائع. ويَقسِم الصراعُ الطبقي القيمةَ الجديدة إلى أجورٍ وأرباح. وتشتري الأجورُ البضائعَ الاستهلاكية، بينما تشتري الأرباحُ البضائعَ الرأسمالية أو الاستثمارية.

لكن القيمة الجديدة تميل إلى الانخفاض، أولاً: لأن القيمة الإجمالية تنخفض بالنسبة لمعروض البضائع. وثانياً: بسبب ارتفاع التركيب العضوي لرأس المال (c/v). التراكم الرأسمالي مُقتَصدٌ في العمالة، وبالتالي فإن قيمة الآلات والمصانع والمواد الخام...إلخ (رأس المال الثابت c) ستميل إلى الارتفاع بالنسبة إلى قيمة قوة العمل (رأس المال المتغيِّر v). ونظراً لأن سعر الإنتاج، محسوباً بمقياس القيمة، يتكوّن من رأس مال ثابت (c) وقيمة منتَجة مجدَّداً (رأس المال المتغيِّر+ القيمة الزائدة، أيْ: v+s)، يميل ارتفاع التركيب العضوي لرأس المال (c/v) إلى تقليل حصة هذه القيمة الجديدة في سعر الإنتاج.

ستنخفض القيمة الإجمالية بالنسبة إلى القيمة الاستعمالية المُنتَجة، وستنخفض القيمة الجديدة بالنسبة إلى القيمة الإجمالية. لذلك فإنّ هناك ضغطاً على أسعار البضائع يدفع إلى الانكماش، أو إلى مَنْع التضخُّم على المدى الطويل. ولكن بالمقابل توجد عواملَ مُضادَّة يمكن أن تمارس ضغطاً رافعاً للأسعار على المدى الطويل، ولا سيّما تَدَخُّل السلطات النقدية في محاولاتها للسيطرة على المعروض النقدي.

نظرية كاركيدي للتضخم

يقول كاركيدي: إنّ هناك معدل تضخُّمٍ مستنِداً إلى القيمة Value Rate of Inflation (واختصاراً VRI) يجمع بين تأثير التغيُّرات في القوة الشرائية للأجور والأرباح (القيمة الجديدة) والمعروض النقدي، مقيسةً كودائع نقدية في البنوك (يرمز لها M2). العامل الأول: هو العامل المحدِّد ويميل إلى إنقاص تضخم الأسعار، في حين يميل العامل الثاني المعاكس إلى زيادة التضخم دون أنْ يفلِحَ بذلك دوماً.

معدل التضخم على أساس القيمة (VRI) = النسبة المئوية للتغيُّر في الأجور والأرباح (أيْ: في القدرة الشرائية المشترَكة CPP) + النسبة المئوية للتغير في المعروض النقدي (M2). وباستخدام بيانات من الولايات المتحدة منذ 1960، وجدنا أن VRI يهبط على المدى الطويل. بسبب النموّ الأبطأ للقوة الشرائية المشترَكة للأجور والأرباح، ولأنّ أية تغييرات في المعروض النقدي (M2) لم تكن كافية لوقف تباطؤ VRI.

ولكن هل ثمّة علاقة وثيقة بين VRI وتضخّم أسعار المستهلك؟ نعم. فبين 1960 و1979 ارتفع معدل قيمة التضخم، وكذلك تضخم مؤشر أسعار المستهلك في الولايات المتحدة. وبين 1980 و2019 تباطأ هذان المؤشران معاً.

الأفضلية التنبُّؤية لنموذج التضخم على أساس القيمة

إذا قمنا بنمذجة توقعات VRI لكل سنة مقابل تضخم المؤشر الفعلي لأسعار المستهلك، سنُلاحَظُ ارتباطاً وثيقاً على المدى الطويل، يمكن توضيحه برسمٍ بياني يتماشى فيه صعوداً وهبوطاً منحنياً VRI لتضخم أسعار المستهلك الأمريكي مع منحني التضخم الفعلي لمؤشر أسعار المستهلك. فالنظرية إذاً تقدم نتيجةً أفضل بكثير من التوقعات التي تقدمها النظرية النقدية، أو ما يسمى «منحنى فيليبس»، وخاصةً منذ أوائل التسعينات (وهي فترة تثبيط التضخُّم disinflation التي حيَّرتْ أتباع المدرستين البرجوازيّتين النقدية والكينزية معاً!)، كما تقدِّمُ تفسيراً علمياً لتباطؤ تضخُّم أسعار المستهلك السنوي منذ الثمانينات، على عكس النظريات السائدة المُحيِّرة.

ورغم ضخ البنوك المركزية لمزيد من الأموال في الاقتصاد، وتسارع نمو المعروض النقدي M2، ولا سيّما منذ التسعينات وبعد الركود العظيم [2008]، ولكن نظراً لاستمرار تباطؤ نمو القيمة الجديدة، واصَلَ تباطؤ القوة الشرائية المشترَكة لنمو الأجور والأرباح في دفع التضخم نحو الانخفاض.

كيف سيكون التضخم إثر الوباء؟

إذا كانت نظرية كاركيدي صحيحة، فيمكنها التنبُّؤ بأنّ عودة التضخم بعد كوفيد 19 ستعتمد على ما هي توقعات القيمة الجديدة ونمو النقود M2، وبالتالي، على توقعات معدل التضخم المستندة إلى القيمة. عندما يقرأ كاركيدي تحليلي هذا، سيشتكي من أن نظرية التضخم المستندة إلى القيمة مناسبة على المدى الطويل فقط، وليس لبضع سنوات. ولكن مع ذلك لنحاولْ.

شهد عام 2020 ارتفاعاً كبيراً في المعروض النقدي M2، بزيادة 25% على أساس سنوي حتى الآن. ولكن يمكننا توقّع انخفاض الأرباح 25% والأجور 20%، وبالتالي انخفاضاً كبيراً في القوة الشرائية المشترَكة للقيمة الجديدة.

إذا افترضنا للعامين المقبلين 2021 و2022 ارتفاع الأجور الاسمية 5% والأرباح 10% و15% على التوالي، وتباطؤ نمو المعروض النقدي إلى 10% سنوياً، فإنَّ نموذج VRI يتنبّأ بأنّ أسعار المستهلك في الولايات المتحدة ستمر بتضخّم 3,0 – 3,5% على التوالي، وليس بانكماش كما يتوقع البعض.

بالطبع، هذه النتيجة تعتمد على الافتراضات التي بُنيَت عليها. لكن الأهم من ذلك، هو أنّ نظرية التضخم المستندة إلى القيمة تكشف فشل نظريات التضخم السائدة، وسببه الكامن في تجاهلها، أو جهلها لنظرية القيمة الماركسية. إذْ إنّ تحليل التغييرات في القيمة، وليس في النقد أو التوظيف، هو ما يمكِّننا من فهم مسار التضخم في ظل الإنتاج الرأسمالي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
997
آخر تعديل على الأحد, 27 كانون1/ديسمبر 2020 14:54