ما وراء ترامب وماسك: أزمة المركز الرأسمالي تبلغ عتبة الانفجار السياسي
عروة درويش عروة درويش

ما وراء ترامب وماسك: أزمة المركز الرأسمالي تبلغ عتبة الانفجار السياسي

احتلّ الخلاف بين ترامب وماسك، بعد فترة الوفاق التي أدّت لتسلّم ماسك حقيبة حكومية، عناوين وسائل الإعلام، وما زالت آثاره وتحليلات سببه تتحفنا بشكل يومي. بدأ الخلاف يطفو على السطح بعد مشروع قانون ترامب الشهير في عام 2025، والذي تضمّن تمديد التخفيضات الضريبية، وزيادة ضخمة في الإنفاق العسكري وعلى الحدود، وتخفيض أو إلغاء حوافز الطاقة النظيفة – ما اعتبره ماسك خيانة لما وعد به ترامب من تقليص الإنفاق الحكومي، وتهديداً مباشراً لصناعة السيارات الكهربائية التي تعتمد على الحوافز البيئية.

خرج ماسك عن صمته وشنّ هجوماً واسعاً على القانون، واصفاً إياه «بالمقزز» و«الجنوني»، ووصف أعضاء الكونغرس الذين أيدوه بالخونة لقضية ضبط الإنفاق. وأعلن نيّته إنشاء حزب ثالث لتهديد الجمهوريين الذين يدعمون القانون. كانت هذه لحظة فارقة: أحد أكبر داعمي ترامب أصبح فجأة عدواً مباشراً يهدد حزبه من الداخل.

ترامب لم يصمت، بل استخدم نفوذه لتهديد ماسك بالترحيل وهدّد بإلغاء الدعم الفيدرالي لشركاته. وفي منشور على «تروث سوشيال» كتب ترامب أن «إيلون تلقّى دعماً حكومياً أكثر من أي شخص في التاريخ… من دون هذه الأموال كان عليه إغلاق مشاريعه والعودة إلى جنوب أفريقيا». ليهدد ماسك بعدها بإيقاف برنامج «سبيس إكس» الذي تعتمد عليه وكالة ناسا، قبل أن يتراجع بعد انتقادات واسعة من البنتاغون. لكن هل حقاً الخلاف هو حول قوانين؟ وهل حقاً يمكن اختزاله بصراع بين ثريين تضررت مصالح أحدهما جرّاء «نهج الآخر» القومي؟

ما الذي يمثّله كل من ترامب وماسك؟

في النظرية الماركسية، يجري فهم التناقضات داخل الطبقة الحاكمة بوصفها جزءاً من التناقضات الثانوية – أي تلك التي تحدث بين فصائل مختلفة من الرأسماليين، لا بين الرأسماليين والطبقة العاملة – فهذا الأخير يبقى التناقض الأساسي. لكن في أوقات الأزمات، يمكن لهذه التناقضات الثانوية أن تتفجّر إلى صراعات ذات طابع سياسي مفتوح، تؤدي إلى انقسامات داخلية تُضعف موقع الطبقة الرأسمالية ككل وتكشف عمق مأزق النظام الرأسمالي بأكمله، خاصة أنّ الرأسمالية الأمريكية هي مركز الرأسمالية العالمية وقائدتها لعقود من طورها الإمبريالي.

من المغري النظر إلى صدام ترامب–ماسك باعتباره مجرد صراع شخصي بين رجلين نرجسيين. لكن تحت هذا السطح، تكمن تناقضات أعمق بين فصائل مختلفة داخل الطبقة الرأسمالية الأمريكية، فكلّ من ترامب وماسك يمثّل قطاعاً معيناً من رأس المال. وتفسير الخلاف بينهما من منظور الاقتصاد السياسي الماركسي يكشف كيف أن ما جرى ليس صدفة ولا مفاجئة، بل انعكاسٌ مباشر للتصدعات داخل البنية الرأسمالية الأمريكية في عصر أزمتها.
لم يكن ترامب، منذ صعوده في 2016 مجرد شعبوي، بل كان ترجماناً لرؤية اقتصادية تمثل ما يمكن تسميته بـ«رأسمالية قومية محافظة» – أي تلك المرتبطة بالصناعات الثقيلة والطاقة الأحفورية، والمقاولات العسكرية والزراعة الشركاتية الكبرى. هذا التحالف من رأس المال، الذي شعر بتهميش متزايد في عصر العولمة والرقمنة، رأى في ترامب فرصته للعودة.

خلال ولايته الأولى، فرض ترامب تعريفات جمركية على الصلب والألمنيوم، وشن حرباً تجارية ضد الصين، وانسحب من اتفاقيات مناخية، ورفع الإنفاق العسكري بشكل غير مسبوق. من هنا يبدو منطقياً أنّ تمويل حملته الانتخابية الثانية في 2024 قد أتى بمعظمه من شركات النفط والدفاع والتعدين. ترى هذه القطاعات في الدولة الأمريكية أداة للهيمنة الاقتصادية عبر سياسات الحماية التجارية، والسيطرة على الهجرة، وإلغاء القيود البيئية. من هنا نفهم أيضاً لماذا تضمّن مشروع قانون ترامب في 2025 بنوداً مثل تصنيف الفحم «معدناً استراتيجياً»، والتراجع عن الإعفاءات الضريبية للطاقة النظيفة، وتمديد التخفيضات الضريبية للشركات – فجميعها إجراءات تصبّ في مصلحة هذا القطاع من رأس المال.

أما إيلون ماسك، فلا ينتمي عضوياً لا إلى هذه الفئة من رأس المال، ولا إلى الفئة الليبرالية التي تميل «للديمقراطيين» التقليديين. بل يمكن القول إنه يمثّل رأس مال هجيناً: رأسمالية عالية التقنية، طموحة، عالمية، ومبنية على الابتكار الصناعي المتقدّم.

تسلا، وسبيس إكس، ونيورالينك، وستارلينك – جميعها شركات تقف عند تقاطع الصناعات التكنولوجية والعسكرية والبيئية. وهي تعتمد إلى حد بعيد على التمويل والدعم الحكومي «سواء عبر عقود البنتاغون أو الإعفاءات الضريبية أو برامج ناسا». حتى عام 2024، كانت شركات ماسك قد تلقّت أكثر من 38 مليار دولار من الدعم الحكومي.

لكنه في الوقت ذاته، يقدّم نفسه على أنه مناهض للبيروقراطية، مناصر لـ«الحرية»، ناقد لـ«ثقافة الإلغاء» و«اليقظة الاجتماعية». إنه يُعبّر عن تيار قديم متجدد داخل رأس المال، وصفه الاقتصادي سيلفييرو روتشا بأنّه: «تيار تكنوقراطي عالمي، يسعى للدمج بين منطق السوق والمنفعة العامة، ويعتمد على الدولة ليس للضبط، بل كأداة دعم وتمويل».

يحتاج ماسك ومن يمثلهم إلى دولة قوية تدعم مشاريع الفضاء، وتضع معايير بيئية تصبّ في مصلحة السيارات الكهربائية، وتسهّل هجرة العقول من الخارج - وهو ما يفسّر غضبه من سياسات ترامب المعادية للمهاجرين المهنيين. يرى ماسك في تقليص الحوافز البيئية تهديداً وجودياً لتسلا، تماماً كما يرى في الإجراءات الحمائية تهديداً لسلاسل الإمداد العالمية التي تعتمد عليها مصانعه في الصين وألمانيا.

ترامب، إذاً، يمثّل رأس المال القومي القائم على النفط والفحم وجدران الرسوم الجمركية. أما ماسك، فيمثّل رأس المال التكنوقراطي العالمي المعتمد على الكهرباء والليثيوم والذكاء الاصطناعي. يريد الأول دولة «حمائية» متمنياً إعادة أمريكا التي «لم تعد عظيمة» - وهذه هي الحقيقة الساخرة وراء شعاره الشهير، والثاني دولة «دافعة» تستثمر في «المستقبل» متمنياً أيضاً إعادة أمجاد ماضية، لكن مأساتهما كليهما هو التراجع الاقتصادي الأمريكي للإنتاج بكل قطاعاته وضعف متزايد في منافسة جبابرة الإنتاج والصناعة الصاعدة بقيادة الصين. الصراع بينهما هو تخبط في الرؤية لحل «رأسمالي» ما، لمستقبل الرأسمالية الأمريكية.

وبينما يريد ترامب إبقاء الدولة قوية مع سياسات صارمة تجاه المهاجرين لدعم الصناعات القديمة، فإن ماسك يريدها فعّالة في تمويل الأبحاث، وخلق بنية تحتية للابتكار، وفتح الحدود أمام العقول. تجعل هذه التباينات من تحالفهما السابق مجرد مرحلة انتقالية قصيرة، لا يمكن لها أن تصمد طويلاً أمام واقع التناقضات.

من يدعم ترامب ولماذا؟

الصراع بين ترامب وماسك هو انعكاس مباشر لانقسام داخل الطبقة الرأسمالية الأمريكية إلى فصيلين متمايزين في بنيتهما الاجتماعية، ومنطقهما الاقتصادي، وأدواتهما السياسية. هذه الفصائل تختلف في طبيعة الأرباح التي تطاردها، وفي علاقة كلٍّ منها بالدولة، وحتى في رؤيتها لدور أمريكا في العالم.

يشكل فصيل ترامب تحالفاً تقليدياً بين رأس المال الريعي والصناعات الاستخراجية. هذا الفصيل أقل اعتماداً على الابتكار أو الأسواق الجديدة، بل يعتمد على امتلاك الأصول والتحكّم بها: أراضٍ، موارد طبيعية، عقارات، شركات محتكرة، بل وحتّى أدوات مالية ممّا كان يُحسب بشكل كلي على «الديمقراطيين» من قبل. أبرز مكونات هذا الفصيل:

أباطرة النفط والفحم: مثل هارولد هام من النفط الصخري، وشبكة الأخوين كوك في الصناعات البتروكيميائية. هؤلاء ضخّوا ملايين في حملات ترامب مقابل وعود مباشرة: رفع القيود البيئية، الانسحاب من اتفاق باريس، وفتح الأراضي الفيدرالية للتنقيب.

المضاربون العقاريون وكارتيلات البناء: من ضمنهم الملياردير ستيفن روس، ومطورون آخرون استفادوا من تخفيض الضرائب العقارية وتقليص قواعد الإشراف على البناء والملكيات.

أباطرة الكازينوهات: مثل شيلدون أديلسون من لاس فيغاس وستيف وين، الذين دعموا ترامب مقابل تخفيف الرقابة على نشاطاتهم والضرائب.

شرائح معينة من رؤوس الأموال المضاربة: مثل روبرت ميرسر، الذين رأوا في ترامب فرصة لتقويض تنظيم الأسواق المالية، وتخفيض الضرائب على الاستثمارات والأرباح الرأسمالية.

الصناعات المحمية والقديمة: شركات الصلب والألمنيوم والتعدين، التي استفادت من سياسات ترامب الحمائية والرسوم الجمركية، وكانت من أبرز مؤيدي الحروب التجارية.

يتمحور منطق هذا الفصيل حول ما يمكن تسميته «الربح من دون تغيير». فهذه القطاعات تسعى إلى الربح من الموجود أصلاً – مثل استخراج الموارد، أو تحصيل الريوع، أو المضاربة. يستخدم هذا الفصيل الرأسمالي الدولة لمنع التغيير: تقويض البيئة، منع التحوّل إلى الطاقة النظيفة، وسحق النقابات، وتخفيض الضرائب التي تموّل الخدمات العامة.

يريد هذا الفصيل دولة متدخلة فقط حين تدعمهم: يرفضون الدولة التي تقوم بأي دور اجتماعي، لكنهم يريدون الدولة الأمنية، والدولة التي توفّر العقود، والحماية التجارية، والإعفاءات الضريبية. لذا، فإن ما يريده فصيل ترامب هو دولة تخدم الريعيين وتحميهم من تحوّلات الاقتصاد العالمي.

1233_h_22

من يدعم ماسك ولماذا؟

في المقابل، يتكوّن فصيل ماسك من رواد الأعمال التكنولوجيين، والمستثمرين في القطاعات المستقبلية، ومن شريحة أخرى من رؤوس الأموال المضاربة، تختلف بنوع القطاعات التي تضارب بها عن نظيرتها الداعمة لترامب، حيث يضارب داعمو ماسك في الذكاء الصناعي والعملات الرقمية. وهم، رغم خطابهم الليبرالي أو «التحرري» يعتمدون اعتماداً عميقاً على الدولة كمحرك ومموّل للابتكار. أبرز مكونات هذا الفصيل:

شركات ماسك نفسها: تسلا، سبيس إكس، ستارلينك، نيورالينك – كلها تنمو عبر عقود حكومية، ودعم مالي مباشر، وإعفاءات ضريبية ضخمة. تسلا كمثال، ربحت في عام واحد 2.8 مليار دولار من بيع الاعتمادات البيئية التي وفّرتها لها القوانين الفيدرالية.

رأس المال المغامر (Venture Capital): بيتر ثيل مالك «بي.بال» ومارك أندرسن مالك «نيت.سكيب» ولاري إليسون مالك «أوراكل» – جميعهم لعبوا دوراً محورياً في دعم ماسك على أمل توجيه السياسات نحو دعم مشاريعهم التكنولوجية «الذكاء الاصطناعي، العملات الرقمية، الدفاع السيبراني...».

شركات الطاقة النظيفة والتكنولوجيا العالية: مثل مصانع بطاريات السيارات الكهربائية، وشركات البنية التحتية لشبكات الشحن، والمؤسسات العاملة في تقنيات الطاقة الشمسية والنووية الجديدة.

اللاعبون في مجال العملات الرقمية والذكاء الاصطناعيّ: ممن يسعون إلى بيئات قانونية مرنة أو معدومة الضوابط، ويطمحون إلى خصخصة المجالات العامة عبر أدوات خوارزمية.

منطق هذا الفصيل هو تسارعي مستقبلي. يرون أن الربح يتولّد من خلق أسواق جديدة تماماً: الفضاء والسيارات الكهربائية والذكاء الاصطناعي والإنترنت عبر الأقمار الصناعية... إلخ. وهم بحاجة إلى الدولة ليس لضبطهم، بل لتمويلهم وتقديم السوق الأولى لهم.

إنهم يكرهون «البيروقراطية»، ولكنهم يحبّون العقود الحكومية الضخمة. يدّعون «التحررية»، لكن شركاتهم تعيش على ظهر المال العام. والنتيجة هي مشروع رأسمالي جديد: خصخصة المستقبل، تحت رعاية الدولة.

هل الدولة هي الجائزة؟

نعم. الدولة الأمريكية، بما تملكه من أدوات تنظيمية وميزانيات ضخمة ومكانة استراتيجية، أصبحت الجائزة التي يتصارع عليها الفصيلان. لطالما شدد ماركس على أن الدولة ليست كياناً محايداً، بل هي أداة في يد الطبقة المسيطرة، وإن تعددت أطرافها. وفي هذا السياق، فإن جهاز الدولة الأمريكي تحوّل إلى ساحة صراع مفتوحة بين الفصائل الرأسمالية المختلفة: ترامب يستخدمه لتعزيز الحواجز الاقتصادية والاستعانة بالجيش والحدود لحماية الأسواق المحلية، فيما يرى ماسك الدولة كمنصة لتمويل التقدم التكنولوجي والانفتاح العالمي.

هذه التناقضات حول دور الدولة، والاختلاف في «أولويات الدعم»، هو ما فجّر الصراع في مشروع القانون المالي لعام 2025، الذي تضمن دعماً هائلاً للوقود الأحفوري والتسليح على حساب الطاقة النظيفة والبحث العلمي – أي دعم لترامب وقاعدة داعميه، واستبعاد لأجندة ماسك.

إنّ كلا الفصيلين الرأسماليين – رغم تناقضهما – يستخدمان الدولة كأداة لا ككيان عام محايد، بل يريدان تشكيل السياسات بحسب حاجتهما، سواء عبر التبرعات، أو الضغط السياسي، أو التهديد بسحب الاستثمارات. وفي ظل الضعف النسبي لقوة عمالية أو شعبية منظمة بما يكفي لقلب الموازين حتى الآن، تبقى الدولة ساحة مفتوحة لمن يملك الأكثر، لا لمن يمثّل الأكثر، وهو في الحقيقة ما يختصر ما نسميه عادة «بالديمقراطية البرجوازية».

تصدُّع في قوى رأس المال

إن الصدام بين إيلون ماسك ودونالد ترامب ليس مجرّد «دراما إعلامية» بين اثنين من أثرياء النخبة، بل هو تجلٍّ علني لأزمة بنيوية في هيكل السيطرة الرأسمالية الأمريكية، أو كما أسمته ميغان داي في صحيفة «اليعاقبة»: «تفجّر بالواجهة بأكملها». فكلا الرجلين، وإن ظهرا على طرفي نقيض، يشتركان في هدف جوهري واحد: الحفاظ على منطق الربح الرأسمالي، كلٌّ بطريقته. لذا، فإن ما بينهما هو تناقض ثانوي داخل الطبقة المالكة، لا يمسّ البنية العميقة للاستغلال الطبقي القائم، بل يسعى كل طرف إلى احتكار أدوات الدولة لتثبيت نموذج خاص من الرأسمالية في سياق متقلّب.

لكن أيضاً، وأتحدث هنا من زاوية ماركسية، فإن التناقض بين ماسك وترامب يُظهر بشكل صارخ أن الطبقة الحاكمة لم تعد قادرة على تقديم مشروع موحّد يحظى بالإجماع داخل صفوفها، كما اعتدنا أن نرى قبل أزمة 2008. فبينما يريد ترامب توظيف الدولة كدرع لفئات رأسمالية قومية تعيش على حافة التراجع التاريخي، يرى ماسك أن الدولة يجب أن تتحول إلى محرك تكنولوجي مموِّل للطفرة التالية من الربح المعولم.

لكن مأساة كليهما هو أنّه منذ أزمة 2008، دخل النظام الرأسمالي الأمريكي طوراً جديداً من التآكل البنيوي. إذ تزايدت الفجوة بين النشاطات الريعية المالية المضارباتية من جهة، والإنتاج الحقيقي من جهة أخرى، وتراجعت مستويات المعيشة للطبقة الوسطى والعاملة، وظهرت الصين كندّ اقتصادي عالمي، وتعمّقت أزمة المناخ، وتزايدت الضغوط على نظام التجارة الحرة. في ظل هذه التطورات، أصبح من المتعذر الحفاظ على التوافق التقليدي الذي حكم الرأسمالية النيوليبرالية لعقود.

من المهم ألا ننخدع: الطرفان ليسا خصمين للرأسمالية، بل منافسين على قيادتها. كلاهما مارس القمع ضد التنظيمات العمالية، وكلاهما دعم تخفيض الضرائب على الأثرياء، وكلاهما نظّر لتقليص الدور الاجتماعي للدولة، ولتحويلها إلى كيان يقتصر على خدمة رأس المال لا الناس العاديين. إنهم يتقاتلون على شكل الرأسمالية، لا على جوهرها.

لا تنبع هذه التناقضات فقط من شخصيات متضخّمة مثل ترامب أو ماسك، بل من تحوّلات أعمق: صعود الصين، وتآكل القاعدة الصناعية الأمريكية، وتحديات المناخ، والثورات التكنولوجية، وتعاظم الدَّين العام. هذه العوامل بمجموعها تهدد النموذج النيوليبرالي السائد الذي طبع الإمبريالية الأمريكية في السنوات منذ تعاظم نفوذ النيوليبراليين العالمي - الذي يمكن اعتبار سياسات بينوتشيه وإعادة الهيكلة في تشيلي في 1973 كنقطة بداية تجريبية له - وتجعل من كل حلّ رأسمالي محاولة لترقيع السفينة لا أكثر. كل من الاتجاهين يحمل في طيّاته تناقضاته الخاصة، وكلاهما لا يعالج الجذر: الاستغلال الطبقي البنيوي، والتوزيع غير العادل للثروة والسلطة.

لعلّ أفضل ما يمكن قوله في وصف هذا الصراع هو ما جاء في إحدى التحليلات الماركسيّة الحديثة: «هذا الصراع لا يمكن اعتباره نزاعاً شخصياً بين شخصيتين بارزتين في الإعلام، بل هو انعكاس آني لتحولات أيديولوجية وهيكلية داخل الطبقة الرأسمالية الأمريكية، وصراع متصاعد على الهيمنة داخل مشروع يترنح».

أثناء تحرير هذا المقال، أعلن إيلون ماسك عن تشكيل حزب سياسي جديد «حزب أمريكا»، في تحطيم دراماتيكي للمنظومة السياسية الأمريكية ذات الرأسين التي تزامن تثبيتها تقريباً مع دخول الرأسمالية مرحلتها الإمبريالية مطلع القرن العشرين. وقد تظهر قراءاتٌ لتسويق هذا التحول على أنه مزيد من «الديمقراطية» و«التعددية الحزبية»، وتغفل أن السياسة تكثيفٌ للاقتصاد، وبالتالي فإن تفجر الأزمة سياسياً هو إعلانٌ لاستعصاء وتفجر غير مسبوق في أزمة البنية الاقتصادية، وربما يسرّع العمليات التي تهدّد اتحاد الولايات الأمريكية في دولة واحدة. وباتت المسألة حتى من وجهة نظر مصلحة الرأسمالية أخطر وأعمق من تنوع «صحّي» بالعقليات ووجهات النظر؛ فلعل جزءاً من تفسير هذا الانقسام في صفوف طغمة رأس المال المالي نفسها، يكمن في محاولتها تجريب طرقٍ مختلفة لإدارة الأزمة الرأسمالية، وهي مؤشرٌ على عدم وجود اتفاق ضمني على شكل الحل. فهذه النخب جميعها مأزومة وتعي ذلك، ولأنها تفشل في الجوهر بإيجاد حل «رأسمالي» للأزمة، نجد التمظهر بشكل «اختلاف على الحل» وعجز من أي قطب أو فصيل ضمنها عن أن يقنع البقية منهم «بالتوافق» و«بلا فضائح»، مما يدفع الخلافات للظهور علناً على السطح بهذه الصورة الفاقعة في عقر دار المنظومة ومركزها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1233