هشاشة الردع الأمريكي: لماذا لا تستطيع واشنطن حسم معاركها في منطقتنا؟
عروة درويش عروة درويش

هشاشة الردع الأمريكي: لماذا لا تستطيع واشنطن حسم معاركها في منطقتنا؟

لا يمكن لمن تابع جلسات الاستماع في مجلس الشيوخ الأميركي في حزيران 2025 أن يرى فيها مناسبة لتقديم مرشح جديد لتسلّم قيادة «القيادة المركزية الأميركية CENTCOM» وحسب، بل لا بدّ وأن ننظر إليها كاعتراف مبطّن بأنّ الولايات المتحدة لم تعد قادرة على إدارة المنطقة كما اعتادت. فكل ما قدّمه نائب الأدميرال تشارلز كوبر من خطط «حديثة» و«مرنة» ليس إلا ستاراً لواقع بات واضحاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى: أمريكا تتراجع، وهذا التراجع يفرض عليها إعادة تعريف تدخلها واستراتيجيتها في المنطقة.

لا بد من التذكير بأهمية القيادة المركزية (CENTCOM) بالنسبة للنفوذ العسكري والاستراتيجي الأمريكي، فهي من أهم القيادات القتالية الموحدة التابعة للبنتاغون، وتُعنى بالعمليات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وأجزاء من جنوب آسيا.

وفي جلسة استماع مجلس الشيوخ لكوبر المرشح لقيادتها، بدءاً من حديثه عن «الردع المرن» و«الوجود الذكي» وصولاً إلى «القيادة من الخلف» يمكن قراءة مفردات العجز قبل أي شيء آخر. أمريكا التي لطالما تباهت بوجودها العسكري الكثيف في الخليج والعراق وسوريا، باتت الآن تتحدث عن الطائرات المسيّرة والشراكات المحلية كبدائل... لا عن قناعة، بل لأنها لم تعد تملك القدرة على البقاء بشكلها القديم. ومع ذبول هذه القدرة، يبدو أنّ ملحقاتها من إخضاع البلدان وتغيير الأنظمة بدأت تذوي معها.

في هذا الإطار، يذكر الصحفي روبرت برنز في أسوشيتد برس بأن فكرة تغيير الأنظمة لم تعد تُقابل بالحماس الذي كانت تحظى به في السابق، بل تُعامل كـ«وصفة للفوضى»، وعودة إلى نهج كارثي لم ينجح مسبقاً، و«يبدو أنه يعكس غياب البدائل السياسية الفعّالة أكثر مما يعكس ثقة بالقوة».

من الحضور القوي إلى الرمزي

لم يتوانَ الأدميرال كوبر، في حديثه أمام اللجنة، عن الترويج لاستراتيجية جديدة تقوم على الابتكار، والطائرات المسيَّرة (بلا طيار)، وتقليل الاعتماد على الجنود على الأرض. لكنه حين قال: «نسعى إلى أن تظل القيادة المركزية قوة قتالية ذات مصداقية في المنطقة، من خلال الابتكار، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة، وبناء الشراكات، وليس من خلال كثافة القوات»، كان في الواقع يعترف بأن واشنطن لم تعد تملك رفاهية الإنفاق على جيوش ضخمة في الشرق الأوسط، ولا تستطيع تحمّل تبعات سياسية جديدة لتواجدها العسكري، لا داخلياً ولا خارجياً.

ورد في هذا السياق في تحليل جوشوا كيتينغ، مؤلف كتاب «البلدان الخفية»، في منصة «vox»: «الولايات المتحدة تدخل وتنسحب، ثم تعود مجدداً... ليس لأن لديها خطة، بل لأن الفوضى التي خلّفتها سياساتها تُجبرها على العودة.

في السياق ذاته، يضيف سينا توسي، في مقال منشور في صحيفة «ذا غارديان» يتحدث عن المناوشات العسكرية الأخيرة بين إيران من جهة، والأمريكيين و«الإسرائيليين» في الجهة المقابلة، منظوراً أكثر حدة يظهر بأنّ محاولات الأمريكيين لقلب ميزان التراجع لا سبيل لها. يقول: «محاولات ترامب ونتنياهو لإعادة تشكيل الشرق الأوسط باستخدام القنابل ليست فاشلة فحسب، بل وكارثية. أظهرت إيران، بهدوء، أن الرد على الهجوم لا يكون دائماً بالسلاح، بل بالصبر الاستراتيجي».

يدرك الأمريكيون ذلك، ولهذا يتذبذبون في الذهاب والعودة. كتبت سافيا ك. ساوثي، من كلية القانون بجامعة كولومبيا ومحررة لدى «معهد كوينسي»، تحليلاً في صحيفة «ريسبونسيبل ستيتكرافت/ إدارة الدولة المسؤولة»، يتحدث عن توسّع الحضور العسكري الأمريكي الصامت في الشرق الأوسط وزيادة القوات بشكل لم يُعلَن عنه رسمياً، كشفت فيه عن تناقضٍ صارخ في الخطاب الأمريكي. تقول: «بينما تعلن الإدارة أنها تعيد تموضع قواتها لتكون أكثر رشاقة، فإنها عملياً تقوم بنشر آلاف الجنود الإضافيين والطائرات الحربية في المنطقة… دون أي إعلان رسمي».

شرح بول ك. ماكدونالد، البروفسور من جامعة جورجيا، بالاشتراك مع جوزيف م. بارنت من جامعة نوتردام، الأمر من زاوية أعمق في تحليلٍ أكاديمي في تقرير منشور في «كليّة الحرب العسكرية»، حيث قالا منذ عام 2024: «الانكفاء الأمريكي لا يمكن فهمه فقط في ضوء الإخفاقات الإقليمية، بل أيضاً ضمن إطار أوسع من التراجع النسبي في القوة الأمريكية الشاملة، والضغط الداخلي لإعادة توزيع الموارد نحو آسيا والداخل الأميركي».

لكنّ البروفيسور شين يي، يعرض منظوراً أوسع في مقالته التحليلية في منصّة «غوانتشا» الصينية، فيقول معلّقاً على الأعمال الأمريكية العسكرية الأخيرة: «الضربة الأميركية باستخدام قاذفات B-2 ضد منشآت نووية إيرانية لم تحقق نتائج عسكرية حاسمة، لكنها كشفت شيئاً أهم: حدود القوة الأمريكية في المنطقة، وفقدانها القدرة على فرض إرادتها كما كانت تفعل في السابق». ويضيف: «الهجمات العسكرية على إيران لم تؤدّ لفشل مشروعها النووي، بل منحت الجماعات المؤيدة للتسلح النووي داخل إيران ذريعة أكبر للمضي في خيار الردع الكامل».

تحتاج إلى «حلفاء»

في مرحلة ما بعد الهيمنة العسكرية المباشرة، تحاول أمريكا اليوم اللجوء إلى الاحتماء خلف حلفاء محليين؛ تأمل واشنطن أن تجنّدهم من بين صفوف القوات العراقية النظامية مروراً بالجيش اللبناني، وصولاً إلى أحلام «الردع الخليجي» غير المكتملة، متوّجة بالتأكيد بالحليف المخرّب «إسرائيل». كلّ ذلك يدخل ضمن سياسة «تقاسم الأعباء» التي تعني ببساطة: أنتم قاتلوا ونحن نزوّدكم ببعض السلاح والمشورة. كوبر نفسه قالها بصراحة: «الفرصة اليوم قائمة لتعزيز قدرة الشركاء المحليين على تنفيذ المهام، مما يقلل الحاجة لوجودٍ كبير لنا».

لكن كيتينغ في «Vox» يطرح سؤالاً مفصلياً: «هل يستطيع الحلفاء المحليون أن ينفذوا الأجندة الأمريكية كما تريدها واشنطن؟ وإذا فشلوا، فهل تتدخل مجدداً؟». تتقاطع هذه النظرة مع رأي توسي في «الغارديان»، الذي يرى أن مثل هذه المقاربات ليست مضللة فقط، بل وخطرة: «كل قنبلة تُسقط في طهران أو بيروت أو دمشق، تولّد مزيداً من الصلابة في الجبهة المقابلة. هذا ليس ردعاً، بل هو تعزيز غير مباشر للمقاومة السياسية والمجتمعية».

تعلّق ساوثي في «إدارة الدولة المسؤولة» على هذا التحوّل: «استراتيجية الردع الجديدة ليست سوى امتداد لاستراتيجية قديمة: الإنكار التكتيكي للانخراط الكامل، مقابل حضور عسكري دائم يُعاد تغليفه كل مرة باسم جديد». ويضيف ماكدونالد وبارنت موضحين: «في ظل تقلص الدعم الشعبي للتدخلات الخارجية، أصبحت الولايات المتحدة تميل إلى الحلول غير المباشرة، عبر الحلفاء والوكلاء، وهو ما يسمح باستمرار النفوذ دون تحميل الرأي العام تبعات مباشرة».

في هذا السياق، يأتي رأي الباحثة الصينية لي شوانشوان تفصيلياً أكثر: «الولايات المتحدة ليست فاعلاً مستقلاً في صراعات المنطقة، بل كثيراً ما جُرّت إليها بفعل تأثير اللوبيات والمخططات طويلة الأمد التي ترسمها «إسرائيل» [وبتعبير أدق بتأثير ومخططات الصهيونية داخل الولايات المتحدة و«إسرائيل» وخارجهما - المحرر]، مثل «استراتيجية الاجتثاث» التي وُضعت منذ تسعينيات القرن الماضي». تتابع شرحها بأنّ انخراط أمريكا في الحروب السبع الكبرى في الشرق الأوسط لم يكن نتيجة استراتيجية أمريكية واضحة، بل جزءاً من تنفيذ مشروع أوسع يهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة، عبر إسقاط أنظمة وتفتيت دول.

التكنولوجيا كغطاء للهروب

لم يعد الإفراط في الحديث عن الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة، والحرب السيبرانية، دليلاً على التفوق، بل تحوّل في بعض السياقات إلى ذريعة للتراجع. حين لا تستطيع الولايات المتحدة السيطرة على الميدان، تبدأ بالحديث عن السيطرة عن بعد. لكن هل حقاً يمكن لدرون أمريكية أن تُمسك بخيوط المشهد المعقّد في سوريا والعراق واليمن ولبنان والبحر الأحمر؟ حتى كوبر نفسه يلمّح إلى حدود هذه القدرة حين يقول: «وجود قوة محلية على الأرض يضاعف فعالية عمليات مكافحة الإرهاب عن بعد».

تحليل كيتينغ يصف هذا التحول التقني بشكل صريح: «استخدام التكنولوجيا كبديل للتواجد المادي ليس حلاً دائماً، بل هو مسكّن لحالة إنكار… واشنطن لا تريد الاعتراف بأنها لم تنجح في تشكيل الشرق الأوسط، ولا تريد أن تبقى مسؤولة عنه أيضاً»

ويكمّل تعليق توسي الصورة: «الولايات المتحدة لم تنتصر في العراق، ولا في أفغانستان، ولا في سوريا. والآن تتعامل مع الطائرات المسيّرة وكأنها أفيون أخلاقي يغطي على فشلها المزمن في خلق حلفاء مستقرين». بينما توضح ساوثي عمق التناقض ومحدودية القدرات الأمريكية التي تغطّي على إلزامية انسحابها: «الحديث عن الحد من التدخل لم يعد مقنعاً، فالوجود العسكري الأمريكي ازداد بصمت، ولكن بصيغة غير معلنة لتفادي الجدل الداخلي… إنه تمدد مقنّع وليس انسحاباً».

1232_h_41

في هذا الإطار، تحذر الباحثة الصينية من الطابع المسرحي للتدخل الأمريكي، والذي يظهر غرق الولايات المتحدة وعدم القدرة على اعتماد استراتيجية ثابتة: «عندما يتعلق الأمر بإيران، تتّضح سطوة «الاستراتيجية المسرحية»: تقوم «إسرائيل» بالضربة الأولى، وتُجبر واشنطن على اللحاق بها، مستندة إلى خطاب الطوارئ والأمن، حتى لو لم تكن أمريكا راغبة في التورط الكامل». وتضيف: «دور أمريكا في هذا النوع من الحروب ليس القيادة، بل الإمداد والغطاء السياسي، وهو ما يمنح «إسرائيل» حرية التحرك، ويُقيد واشنطن بمصالح غيرها».

يعزز شين يي هذه الفكرة بتأكيده: «المشهد كان أشبه بعرض بصري أكثر منه عملية عسكرية جدية: طائرات B-2، توقيت محسوب، إعلام متحفز، لكن النتيجة كانت صدمة… لا شيء تغير استراتيجياً». ويتابع: «الولايات المتحدة اضطرت حتى لإبلاغ إيران بشكل غير مباشر قبل القصف، في محاولة لتفادي التصعيد. هذا وحده كافٍ لفهم هشاشة ما يُسمى بردع أمريكي».

ويُجْمل تقرير ماكدونالد وبارنت المعضلة ومدى الأزمة الأمريكية بالقول: «ما يُعرض كابتكار تقني هو في الواقع نتاج لضغوط عميقة: اقتصاد متقلّب، مشهد جيوسياسي مضطرب، ورأي عام تعب من الحروب الطويلة... كل هذا يفرض على واشنطن تبنّي أدوات الحرب دون أن تخوضها مباشرة».

هل انقلب الشرق الأوسط إلى «مستنقع» لواشنطن؟

كوبر، الذي نعود ونذكّر بأنه المرشح لقيادة القوات المركزية الأمريكية «السنتيكوم»، أي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وأجزاء من جنوب آسيا، يذكر في جلسة ترشيحه أمام مجلس الشيوخ بأن: «التهديد الرئيسي للولايات المتحدة هو الصين، لكن علينا أن نمنع التهديدات من المنطقة قبل أن تصل إلينا».

تعليق توسي على هذه النقطة كان مباشراً: «أمريكا عالقة بين الماضي والمستقبل: لا تستطيع البقاء في الشرق الأوسط، ولا تملك رفاهية الرحيل منه». في حين يقول توسي: «حين تكون سياساتك الخارجية محكومة بالخوف من الخسارة، فإنك في الحقيقة قد خسرت فعلاً، حتى وإن بقيت في السماء بطائراتك المسيّرة».

إن هذا الحديث عن أمريكا «العالقة» في الشرق الأوسط، لا يمكن إلا أن يذكرنا، بما سبق لجيمس جيفري (الذي كان آنذاك المبعوث الأمريكي الخاص لسورية ومبعوث واشنطن لدى التحالف الدولي لهزيمة داعش) أن قاله في 16 تشرين الثاني 2020 عن تصوره للمهمة الأمريكية في سوريا: «جعل سوريا مستنقعاً للروس». ولكن هذه المرة، ومع وضع واشنطن «العالقة» في المنطقة ينبغي التساؤل: من التي غاصت أرجلها أكثر في «مستنقع» الشرق الأوسط اليوم؟

يحذّر إدوارد وايت في مقال في «فايننشال تايمز» بشكل صريح من التذبذب في وضع استراتيجية واضحة للولايات المتحدة: «سلوك واشنطن في الشرق الأوسط لم يعد يُقرأ بوصفه جزءاً من استراتيجية كبرى، بل بوصفه حالة ارتجال دائمة تُخضع الردود العسكرية لحسابات داخلية أكثر مما تُخضعها لمعادلات إقليمية أو عالمية». وتؤكد ساوثي على هذا التذبذب بالقول: «واشنطن لا تقدم جواباً واضحاً، بل تكتفي بالضبابية».

يصل ماكدونالد وبارنت إلى الجوهر بالقول: «الشرق الأوسط بات بالنسبة لواشنطن مسرحاً ثانوياً، لكنه لا يزال خطيراً بما يكفي ليتطلب الحذر… ولهذا، فالاستراتيجية الجديدة لا تعبّر عن خطة، بل عن موازنة اضطرارية بين التراجع والتهديد».

وهنا، يشدد شين يي: «نظام الأمن التقليدي في الشرق الأوسط، والذي بُني على تفوق «إسرائيل» المطلق ودعم أمريكي لا مشروط، ينهار الآن أمام مشهد جديد: إيران تصنع سلاحها، وترد بشكل غير متماثل، وأمريكا تكتفي بـ«التعبير عن القلق». يضيف: «المعادلة التي سمحت سابقاً لـ«إسرائيل» بفرض شروطها وتلقي الدعم الأمريكي غير المحدود لم تعد فعالة. واشنطن لم تعد قادرة أن تكون «شيكاً مفتوحاً» وتصادق لي شوانشوان بالقول: «تبقى واشنطن عالقة بين خدمتها وبين كلفتها».

كتب ستيفن كالين في «وول ستريت جورنال» عن عامل ضغطٍ آخر على واشنطن: موقف حلفائها القدامى من محاولاتها إعادة ترتيب الشرق الأوسط من جديد. يقول: «دول الخليج سعَت لضعضعة إيران من قبل، لكن الحديث عن تغيير نظامها أعاد إلى الأذهان احتلال العراق والفوضى التي أعقبته، فباتوا يرسلون رسائل واضحة لواشنطن بعدم التصعيد». يعزز هذا الرأي نهجنا النقدي بأن «الردع المرن» هو محاولة تأقلم مع الظروف الجديدة التي تغيّر فيها الواقع الإقليمي: «ما حدث أثبت أن الشرق الأوسط لم يعد منصة للخيارات العسكرية الأمريكية بلا تكلفة، بل أصبح فضاءً حساساً لا يرحم مبادرات الحسم السريعة».

يُضيف تحليل مورغان ستانلي من «بزنس إنسايدر» بُعداً اقتصادياً حاسماً، حيث يحذّر من أن تصاعد التوترات في الشرق الأوسط قد يؤدي لمشاكل اقتصادية لا ترغب الولايات المتحدة بإشعالها: «السيناريو الأسوأ للأسهم مرتبط بصعود نفطٍ حاد... ارتفاع بنسبة 75٪ على أساس سنوي، بما يعني بلوغ خام برنت مستوى 120 دولاراً للبرميل. هذا سيناريو قد ينجم عن اضطراب مستدام في مضيق هرمز».

فشل لا يُقال بصوت عالٍ

ما تسميه واشنطن «استراتيجية جديدة» هو في الواقع استجابة واقعية إلزامية: انخفاض النفوذ، وتراجع الاقتصاد، وتضاؤل القدرة على الحشد السياسي والعسكري. لم يعد الشرق الأوسط اليوم الساحة التي تديرها أمريكا على هواها، بل بات ساحة مفتوحة تتقاطع فيها مصالح الصين وروسيا وباكستان والهند، وإيران وتركيا والسعودية ومصر… بينما تقف أمريكا على الهامش، مكتفية بإرسال طائرات درون، ورسائل دبلوماسية، وصفقات سلاح مؤجلة.

ما يسمونه باستراتيجية «الردع المرن» ليس علامة على القوة، بل أسلوب تمويه للتغطية على حقيقة بسيطة: أن أمريكا لم تعد تستطيع أن تكون كما كانت، لا هنا… ولا في أي مكان آخر.

تؤكد ذلك الباحثة الصينية في قولها: «إن فشل «إسرائيل» في كسر إيران، يعني أن كل ما بُني على استراتيجية الاجتثاث منذ 20 عاماً سينهار... وهذا ما تخشاه واشنطن، لأن فشل (الاجتثاث) هو أيضاً فشل لها في تثبيت سيادتها على الشرق الأوسط».

ويؤكد شين يي الفكرة ذاتها في ختام مقاله: «أي محاولة لفرض وقائع استراتيجية في الشرق الأوسط عبر تكتيكات (المباغتة المحدودة) محكومة بالفشل، لأن طبيعة المنطقة تغيّرت، والأطراف الفاعلة تعلمت اللعب بلغة الخسائر المتبادلة». ويختم برسالة لافتة: «إذا كان هناك من دروس لهذه الجولة، فهي أن واشنطن – برغم استعراض القوة – لم تعد قادرة على الحسم، ولا على التراجع، ولا على الانتصار السريع. هذه هي معضلتها الكبرى».

يؤكد بيرنز في «الأسوشيتد برس» ذلك بالقول: «لماذا تُركّز الولايات المتحدة على أدوات الردع التكنولوجي والتحالفات غير المباشرة بدلاً من أي التزام قتالي مباشر؟… ببساطة، واشنطن لم تعد قادرة – سياسياً أو اقتصادياً أو أخلاقياً – على الدخول في حرب شاملة في الشرق الأوسط. الرأي العام مُنهك، والمؤسسات لا تثق بأن السيناريو سينتهي لصالحها».

إنّ هشاشة «الردع المرن» تتفاقم عند تحويل الأزمة السياسية إلى كارثة اقتصادية محتملة. يرى ستانلي أنّ: «انقطاع إمدادات النفط من هرمز قد يؤدي إلى ركود عالمي، ويؤجج موجة تضخّم تصبح عالقة بالدول الكبرى، بما يجعل الردع التكنولوجي غير كافٍ لمنع التأثيرات الاقتصادية القاسية».

كل هذا يؤكد الاستنتاج بأنّ تغيير الاستراتيجية الأمريكية لم يكن خياراً ذكياً أو استباقياً بقدر ما كان نتيجة لتآكل قدرة السيطرة والإقناع داخل مؤسسات الدولة نفسها، الأمر الذي يمكن عزوه بكلّ بساطة إلى التراجع الأمريكي العام.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1232