من الخاسر في «حرب» الأجهزة الطبية بين الصين وأوروبا؟
دينغ بويون دينغ بويون

من الخاسر في «حرب» الأجهزة الطبية بين الصين وأوروبا؟

في 10 تموز 2025، أصدرت وزارة المالية الصينية «إشعاراً بشأن اتخاذ تدابير تتعلق بالأجهزة الطبية المستوردة من الاتحاد الأوروبي في أنشطة المشتريات الحكومية»، ينصّ على أنه يجب استبعاد الشركات الأوروبية من المشاركة في مشاريع شراء حكومية للأجهزة الطبية تزيد قيمتها عن 45 مليون يوان «نحو 6.2 مليون دولار أمريكي». إلا أنّ «الإشعار» لا يفرض أي قيود على الأجهزة الطبية التي تُنتجها الشركات الأوروبية داخل الصين.

ترجمة: أوديت الحسين

وتعود جذور هذا الإجراء إلى 20 حزيران 2025، حينما أصدرت المفوضية الأوروبية قراراً غريباً للغاية، ينصّ على أنه «لتصحيح اختلال التوازن في تجارة الأجهزة الطبية بين الصين وأوروبا»، فإنه اعتباراً من 30 حزيران 2025، يُمنع على الشركات الصينية المشاركة في مناقصات الأجهزة الطبية في منطقة الاتحاد الأوروبي التي تتجاوز قيمتها 5 ملايين يورو، كما أن العقود الفائزة يجب ألا تتجاوز فيها حصة المنتجات الصينية نسبة 50 بالمئة.

ما يثير الحيرة في هذا القرار الأوروبي، هو أنه يأتي في توقيت تشهد فيه صناعة الأدوية والأجهزة الطبية في الصين نمواً متسارعاً غير مسبوق، حيث ترتفع معدلات توطين الأدوية المتقدمة والأجهزة الطبية عالية التقنية بسرعة، وترتفع حصص العلامات التجارية المحلية في السوق بشكل مطرد. أيّ تدابير تجارية من هذا النوع، قد تدفع الصين إلى الرد بالمثل، وهو ما يعني أن المنتجات الأوروبية المعنية قد تودع السوق الصينية نهائياً.

شروق من الشرق وأفول من الغرب

بلغ حجم التجارة في الأجهزة الطبية بين الصين والاتحاد الأوروبي في عام 2024 حوالي 37.04 مليار دولار أمريكي. من هذا المبلغ، بلغت واردات الصين 28.04 مليار دولار، بانخفاض نسبته 6.09 بالمئة على أساس سنوي، وهو الانخفاض الثالث على التوالي منذ عام 2022، بينما بلغت صادرات الصين إلى أوروبا 9 مليارات دولار، بزيادة 12 بالمئة.

ومن حيث نوع المنتجات، فإن صادرات الصين من المعدات الطبية المتطورة إلى الاتحاد الأوروبي سجلت نمواً كبيراً. فعلى سبيل المثال، ارتفعت صادرات المناظير الداخلية خلال أربع سنوات بنسبة 294 بالمئة، كما أن أجهزة مثل الرنين المغناطيسي بقوة 7.0 تسلا، وأجهزة التصوير الطبقي المحوري ذات 640 شريحة، باتت تنافس نظيراتها الغربية من حيث الأداء، بينما تقلّ عنها في السعر بنسبة 30 بالمئة، وقد حققت انتشاراً واسعاً في الأسواق مثل ألمانيا وفرنسا. ومع أن الاتحاد الأوروبي لا يزال المصدر الأكبر لواردات الصين من الأجهزة الطبية، إلا أن التوجه المتزايد نحو التوطين في الأجهزة المتطورة بدأ يضغط على العلامات الغربية في السوق الصينية.

خذ مثلاً أجهزة التصوير الطبي المتقدمة مثل أجهزة التصوير المقطعي (CT) والرنين المغناطيسي (MRI). فقد أنشأت معظم العلامات الغربية مصانع إنتاج في الصين خلال السنوات الماضية: لدى سيمنز 6 قواعد بحث وإنتاج داخل الصين، وشركة GE لديها مصانع في بكين وتيانجين، وفيلبس أنتجت محلياً أكثر من 95 بالمئة من أجهزتها. ومع ذلك، شهدت هذه الشركات تراجعاً كبيراً في مبيعاتها بسبب المنافسة المتزايدة من العلامات الصينية: تراجعت إيرادات GE في الصين بنسبة 15 بالمئة، وانخفضت أعمال سيمنز في التصوير الطبي بنسبة 4 بالمئة، بينما سجّلت فيلبس تراجعاً مزدوج الرقم في مبيعاتها.

انفجار في نمو العلامات المحلية

تراجع الإيرادات والحصص السوقية للعلامات الغربية يعود بالدرجة الأولى إلى صعود العلامات المحلية. ففي عام 2024، وصلت نسبة التوطين في أجهزة الرنين المغناطيسي إلى 35.1 بالمئة، بزيادة 2.6 نقطة مئوية عن عام 2023. وفي مجال أجهزة CT، باتت الأجهزة المحلية التي تضم 320 أو 640 شريحة تُستخدم على نطاق واسع في المستشفيات الكبرى، حيث ارتفعت حصتها في أجهزة التصوير الجديدة. أما جهاز PET-CT، الذي تصل تكلفته للفحص إلى نحو 10 آلاف يوان، فإن العلامات المحلية باتت تمثل 30 بالمئة من الزيادة السوقية، وقد ساهمت في خفض تكاليف الفحص بنحو 25 بالمئة.

وفي مجالات أخرى، كان أداء العلامات المحلية لافتاً كذلك. فبحلول عام 2024، وصلت نسبة التوطين في الروبوتات الجراحية إلى 44.4 بالمئة، ويتوقع أن يتجاوز حجم السوق لهذه الأجهزة 10 مليارات يوان في عام 2025. أما في أجهزة التصوير بالموجات فوق الصوتية (السونار)، فقد بلغت نسبة التوطين 62 بالمئة، بزيادة 13.6 نقطة مئوية منذ عام 2020. ورغم أن السوق الراقية لهذه الأجهزة لا تزال بيد العلامات الأجنبية، إلا أن ظاهرة «شروق الشرق وأفول الغرب» باتت واضحة.

وحتى نهاية شباط 2025، صادقت الهيئة الوطنية الصينية للرقابة على الأدوية على حوالي 50 نموذجاً من المسرعات الخطية الطبية، منها 35 نموذجاً محلياً، بنسبة توطين بلغت نحو 70 بالمئة. أما مشرط الموجات فوق الصوتية بعرض 7 ملم، فقد كسر احتكار العلامات الغربية، وشارك في مناقصة موحدة تقودها مقاطعة غوانغدونغ وتضم 16 مقاطعة، حيث انخفض متوسط السعر بنسبة تجاوزت 70 بالمئة، في حين ارتفعت كفاءة الجراحة بنسبة 40 بالمئة. أما المعدات الكبيرة مثل سكاكين البروتون وسكاكين الأيونات الثقيلة، والتي تُكلّف أكثر من 100 مليون يوان، فقد أصبح لها بدائل محلية متطورة. علماً أن أسعار أجهزة العلاج الإشعاعي الصينية تمثل بين 40 إلى 70 بالمئة فقط من أسعار العلامات الأجنبية، مما خفف العبء المالي على المرضى بشكل كبير.

أما التعديلات الأخيرة في أسعار الخدمات الطبية في العديد من المقاطعات، والتي شملت خفض رسوم التحاليل، فقد جاءت مدفوعة بانتشار المعدات المحلية ومواد الفحص المصنعة محلياً «بدعم من حملة مكافحة الفساد»، مما خفض تكاليف التشغيل للمؤسسات الصحية.

وفي عام 2023، تجاوزت نسبة التوطين في تسعة أنواع من أجهزة الفحص الطبي (من حيث القيمة وعدد المناقصات)، بما فيها أجهزة التحليل الكيميائي الحيوي، وأجهزة تسلسل الجينات، وأجهزة تحليل خلايا الدم. وتجاوزت نسبة التوطين في أجهزة تحليل خلايا الدم، وتحليل البول، وتحديد الميكروبات، وأجهزة قياس السكر في الدم نسبة 70 بالمئة، وبلغت نسبة التوطين في أجهزة تحليل البول أكثر من 80 بالمئة.

لكن ما زالت هناك فجوة في بعض الأجهزة المتقدمة، مثل أجهزة مطياف الكتلة، التي لم تتجاوز حصتها المحلية في المناقصات 20 بالمئة من حيث القيمة والعدد. وكذلك الحال مع أجهزة تكبير الجينات (PCR)، حيث بلغت الحصة المحلية 29.84 بالمئة من حيث القيمة و39.65 بالمئة من حيث العدد، وهي نسبة ما زالت بعيدة عن المنافسة مع المنتجات المستوردة.

نضج تدريجي وثمار متراكمة

النجاح الذي حققته العلامات الصينية المحلية لم يكن مصادفة، بل جاء نتيجة تضافر عناصر «الزمن والمكان والناس». فقد وفّرت خطة «صُنع في الصين 2025» وسلسلة الخطط الخمسية المتلاحقة خارطة طريق واضحة لمعدل استخدام الأجهزة المحلية في المستشفيات العامة بمختلف مستوياتها، الأمر الذي قدّم حماية سوقية قوية. كما أطلقت الجهات التنظيمية قنوات موافقة سريعة في مجالات ناشئة مثل الذكاء الاصطناعي في التشخيص وواجهات الدماغ الحاسوبية.

كذلك، تتميز العلامات المحلية بفترات أقصر في الإنتاج والتوصيل، وسرعة استجابة أعلى في الصيانة، وتكلفة استخدام يومية أقل من نظيراتها الأجنبية. وهي أيضاً أكثر ملاءمة للواقع الصيني: فمثلاً، يمكن لأجهزة التصوير فحص عدة أعضاء دفعة واحدة، مما يجعل استخدامها في المؤسسات الطبية الريفية أكثر عملية، كما تُضاف إلى أنظمة المعالجة خصائص تدعم الطب الصيني التقليدي، مثل تحليل الصور لتحديد البنية الجسدية للمريض «بلغم، ضعف في الطاقة...إلخ»، ويُضاف إليها وظائف مرتبطة بالجيل الخامس من الاتصالات لدعم الاستشارات عن بعد.

1234_h_38

ومع دخول الاقتصاد الصيني مرحلة النمو عالي الجودة، بات الابتكار والإسناد الصناعي يوفران أرضية خصبة للنمو في المجالات التقنية الدقيقة.

ووفقاً للإحصاءات، فإن العلامات المحلية تستطيع تحديث منتجاتها بوتيرة أسرع بسنة إلى سنتين مقارنة بالمنتجات المستوردة، بفضل سلاسل الإنتاج المتكاملة وتغذية الملاحظات السريعة من المستشفيات المحلية. فعلى سبيل المثال، طورت إحدى العلامات المحلية جهاز CT من 128 شريحة إلى 320 شريحة في غضون عامين فقط، بينما استغرق الأمر 4 سنوات بالنسبة لشركة سيمنز. كما طوّرت إحدى الشركات مشرط الموجات فوق الصوتية من قطر 5 ملم إلى 7 ملم خلال 18 شهراً فقط، وهو ما أنهى احتكار العلامات الأجنبية لهذه التقنية لسنوات طويلة. وقدرة الصين الفريدة على تطوير الابتكار باتت تبهر العالم.

لنأخذ مثال استبدال صمامات القلب: كان المريض في الماضي يخضع لجراحة قلب مفتوح، تتطلب إيقاف القلب وربطه بجهاز الدورة الدموية الصناعي، مما يعرّض المريض لخطر الموت. أما اليوم، فيمكن استبدال صمام القلب عبر تدخل طفيف باستخدام جهاز محلي الصنع، وذلك من خلال شق صغير في شريان الفخذ فقط.

...ويُظهر عنوان الصورة المنشورة في الوسائل الإعلامية الصينية «زرعنا قلباً روسياً بـ”بوابة صينية”» الشعور بالفخر الوطني الذي عبّر عنه الطبيب الصيني دينغ بويون بعد نجاح العملية. الطبيب يعمل في مستشفى عادي بمقاطعة غير معروفة، لم يسبق أن تلقى أي دعم من «الخبراء السوفييت» خلال مرحلة العلاقات الصينية السوفييتية الذهبية، لكنه اليوم، مدعومٌ من وطن قوي، يستطيع أن يسافر لتقديم الإشراف الطبي في أكبر مركز لعلاج أمراض القلب في روسيا كلها.

من الخيال العلمي إلى الطب الواقعي

تُمكّن تقنية واجهات الدماغ الحاسوبية «Brain-Computer Interface»، وهي التقنية التي تُنشئ وصلة مباشرة بين دماغ الإنسان أو الحيوان والأجهزة الخارجية، من تبادل المعلومات بين الدماغ والأدوات. وتُستخدم هذه التقنية في تعزيز أو استعادة الوظائف الحركية والحسية لدى البشر، أو لتحسين التفاعل بين الإنسان والآلة. الصين هي أول دولة في العالم تُدرج هذه التقنية ضمن التأمين الصحي الأساسي، لتتحول هذه التكنولوجيا، التي بدت يوماً كأنها تنتمي إلى روايات الخيال العلمي، إلى أداة علاج لأمراض مثل مرض باركنسون، والصرع المستعصي، والشلل الرباعي.

الروبوتات الجراحية: من العدم إلى الريادة

شهدت الصين كذلك تطوراً مذهلاً في مجال الروبوتات الجراحية، حيث انتقلت من غياب تام لهذه التكنولوجيا إلى تقديم ابتكارات رائدة على المستوى العالمي. استفادت الصين من قوتها الصناعية في مجال الروبوتات، إضافة إلى ميزة البيانات السريرية الضخمة الناتجة عن حجم السكان الكبير. وقد طوّرت الصين أول روبوت جراحي بخمس أذرع، وكذلك أول روبوت لا يحتاج إلى ضخ الهواء في تجويف الجسم (gasless)، وهي تقنية ثورية في مجال الجراحة التنظيرية، حيث أن العمليات بالمنظار التقليدي تتطلب ضخ الغاز في الجسم لخلق مساحة للعمل، وهو ما ينطوي على مخاطر معينة.

السوق الداخلية الصينية تُعد أكبر سوق موحد على مستوى العالم. هذا الحجم الهائل للطلب يخلق احتياجات شخصية متنوعة جداً، ويوفر بيئة مثالية لتجريب الحلول التقنية على نطاق واسع، مما يدفع عجلة الابتكار والتحديث السريع للأجهزة والتطبيقات. التجربة الصينية في الاقتصاد الرقمي، من التجارة الإلكترونية إلى الخدمات الصحية، أثبتت أن الصين قادرة على تطوير منتجات رائدة في السوق العالمية، وهذا سيتكرر بلا شك في مجال الأجهزة الطبية أيضاً، حيث من المرجح أن تتحول هذه المنتجات إلى «بطاقة هوية وطنية» جديدة للصين.

مراكز الابتكار الطبية الوطنية: نحو إبداع من الجذور

في الوقت الراهن، تتجه مشاريع وطنية عديدة إلى تركيز جهودها على تحويل الإنجازات البحثية في مجالي الطب والأجهزة الطبية إلى منتجات عملية. وتسعى هذه المبادرات إلى تحقيق اختراقات مماثلة لما حققته أشعة X في بداياتها، أي أجهزة مبتكرة من حيث المبدأ لا مجرد تحسينات تقنية على ما هو قائم. فعلى سبيل المثال، تتضمن خطط إنشاء «المراكز الطبية الوطنية الشاملة» في مختلف المناطق، بناء قدرات تشخيصية وعلاجية عالية المستوى، إلى جانب دعم جهود الابتكار في مجالات مثل الطب المغناطيسي الصفري، والطب الفائق التوصيل، والذكاء الاصطناعي في التشخيص، بهدف إنتاج أجهزة طبية صينية مبدعة بحق.

أوروبا في مأزق: أدوات فارغة وردود باهتة

حتى لحظة إنهاء هذا المقال، كانت «الخطوة التصعيدية» الوحيدة من جانب الاتحاد الأوروبي رداً على «الإشعار» الصيني الصادر في 10 تموز 2025، هي مجرد تسريب إعلامي عن احتمال إلغاء زيارة أحد كبار المسؤولين الأوروبيين إلى الصين. هذا الرد المتواضع يفضح مدى خواء صندوق أدوات الرد الأوروبي، ويُظهر هشاشة الاستراتيجية الأوروبية في التصعيد مع الصين. من وجهة نظري، اختيار أوروبا هذا التوقيت لافتعال مواجهة مع الصين في هذا القطاع بالذات هو قرار خاطئ في توقيت خاطئ.

ألا تعتقد أوروبا أن لدى الصين سوقاً ضخماً ووكلاء أقوياء، وبأن ممارسة بعض الضغط عليهم قد يجعلهم يهرعون إلى بكين محاولين التأثير على السياسات العليا كما يفعلون في أوروبا عبر جماعات الضغط؟ إذا كان الأوروبيون يعتقدون ذلك، فهم لم يفهموا الصين بعد. الصينيون لا يخضعون لتلك اللعبة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1234