حرب غزة واتفاقها: تحطيمُ الباب المهترئ للسكون الإمبريالي العالمي
إنّ الوضع في الشرق الأوسط، بل في العالم، في حالة من التغيّر المستمر. وحرب غزة كانت هي المقلاع الذي حطّم الباب الهشّ الذي كان يحاول تأخير التغيير. أدّت الأزمة الغربية العامة إلى اضطرار جزء من النخب الأمريكية، بالتحالف مع الحكومة «الإسرائيلية»، إلى تعكير صفو شبه السكون الذي كان يحكم المنطقة في العقود الثلاثة الماضية، عبر أعمال التدمير الباحثة عن «النصر العظيم» الموهوم. إنّها الأعمال التي وضعت الكيان وداعميه في أزمة لا خلاص منها.
منذ أيام إدارة أوباما على الأقل، كانت الركيزة الأساسية لـ«توازن المنطقة» الذي سعى إليه الأمريكيون هي تحقيق مخططهم المعقّد الذي يصل في النهاية إلى إنشاء دولة فلسطينية لا تتمتّع بمقومات الدولة المستقلّة الحقيقية بل تعمل كإقليمٍ منزوع السيادة، وتخضع لإدارة دولية-غربية.
لكن وكما كان واضحاً منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بات هذا المخطط غير قابل للتطبيق، وذهبت أدراج الرياح جميعُ سياسات العصا والجزرة التي كان يأمل من خلالها نتنياهو وحكومته ترويضَ المقاومة الفلسطينية، سواء عبر الإفراج عن تحويلات، أو إعطاء تصاريح بالعمل، وغيرها. هذا ما جعلهم مضطرّين إلى الذهاب إلى ما شاهدناه من تدمير هائل وإبادة، والذي كان بمثابة لعنةٍ على «الإسرائيليّين» وعلى الإمبرياليّين الأمريكيّين الذين أرادوا إدامة الهيمنة والسكون.
اليوم وبعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بين المقاومة الفلسطينية و«إسرائيل»، يحاول بعض «الإسرائيليّين» حفظ ماء وجههم بالحديث عن انتصارات في لبنان، وربّما الأهم في سورية. ورغم أنّ بعضَ المكاسب التي حقّقوها في سورية لا يمكن إنكارها، لكنها لا تصلح لتكون «انتصارات» يمكن التفاخر بها، خاصة أنّهم لم يحقّقوا أيّاً من أهدافهم المعلَنة في غزة «خطّة الجنرالات، أو التهجير إلى سيناء، أو القضاء على حماس»، أو غير المعلنة بإنهاء القضيّة الفلسطينية بشكل كامل.
الهروب من توسّع الحرب
بالنسبة للإمبرياليّين الأمريكيين، فإنّ الهدف الأكبر: إشعال المنطقة. لم يتوقّف هذا الهدف، ولكن يبدو أنّ الطريق إلى تحقيقه، حتّى في سورية، يتقلّص يوماً بعد آخر، وهذا التوصيف ليس دعوةً للركون والاستخفاف بالمخاطر، لأنها ما زالت موجودة ويجب العمل على مواجهتها وحلّ المشكلات التي تُضعف سورية وتهدّدها وتُؤخّر استعادة وحدتها ونهوضها وعوامل قوتها.
يرى البعض، كما عبّر عن ذلك الجنرال جاك كين، بأنّ إيران الآن «ضعيفة بشكل مذهل» بسبب فقدان سورية - لكن وكما ذكرت أكسيوس: «تَقدُّم إيران النووي مُؤخَّراً يضع أمام الرئيس المنتخب ترامب قراراً حاسماً لاتخاذه في الأشهر الأولى من ولايته: إما تحييد التهديد النووي الإيراني عبر المفاوضات والضغوط المتصاعدة، أو إصدار أمر بضربة عسكرية. ويعترف بعض مستشاري ترامب بشكل خاص بأن برنامج إيران قد تقدَّمَ إلى درجة قد لا يكون معها هذا النهج المبكر فعالاً بعد الآن. هذا يجعل الخيار العسكري احتمالاً حقيقياً... وقد جادل بعض كبار مستشاري الرئيس بايدن في الأسابيع الأخيرة بشكل خاص بضرورة ضرب المواقع النووية الإيرانية قبل أن يتولّى ترامب منصبه، في ظل ضعف إيران ووكلائها بشكل كبير».
لكن بميزان الربح والخسارة، لا يمكن لترامب المجازفة بهذا الطريق، فتكلفة الحرب وخسائرها عليه وعلى الولايات المتحدة تكتيكياً واستراتيجياً أكبر بكثير من الأرباح، خاصة وأنّ إيران باتت تعطي إشارات دبلوماسية مرنة بالتعاطي مع الإدارة الأمريكية المقبلة، انطلاقاً من هذا التحليل، ودون تناسٍ لتوجُّه ترامب بسحب قواته من المنطقة، والذي أعطى به إشارة في الملف السوري قبل بضعة أسابيع بقوله: إنّه لا يجب على الأمريكيّين التدخُّل بما يجري، ومثل هذا الانسحاب الآتي عاجلاً أم آجلاً يشكّل ضربة لـ«إسرائيل».
في الحقيقة، قد يكون التفكير بحرب أمريكية على إيران قائماً على الأوهام، وليس ذلك فقط لأنّ إيران وروسيا قد وقّعتا رسمياً الاتفاقية الاستراتيجية الشاملة. أعاد ترامب نشر مقطع فيديو في 7 كانون الثاني 2025، يظهر فيه أستاذ جامعة كولومبيا جيفري ساكس وهو يتحدث عن دور اللوبي «الإسرائيلي» في دفع الولايات المتحدة إلى حرب العراق، ومساعي نتنياهو المستمرة لإقحام الولايات المتحدة في صراع محتمل مع إيران. ربّما الأهم هو فحوى الرسالة التي قالها البروفيسور ساكس في المقابلة المعاد نشرها: «نتنياهو لا يزال يحاول دفعنا لقتال إيران حتى هذا اليوم. إنه شخص خبيث وظلاميّ لأنّه أدخَلَنَا في حروبٍ لا نهاية لها».
في الواقع يمكن إيلاء ما قاله السفير الأمريكي في السعودية، تشاس فريمان، أهميّة في هذا السياق، فقد قال: «بأنّه على الرغم من أن تحقيق سلام مستدام بين الولايات المتحدة وروسيا ممكنٌ من الناحية النظرية، إلّا أنّ تحقيقَه سيكون صعباً للغاية. وأضاف راي ماكغفرن مراراً أنّ ترامب ذكيٌّ بما فيه الكفاية ليعلم أنه يمتلك أوراقاً ضعيفة في مواجهة روسيا في الفضاء الأوراسي، وأن ترامب الواقعي لديه قضايا أكبر لمعالجتها».
يؤيّد هذا الاتجاه، ولو بشكل جزئيّ، ما فعله إيلون ماسك -صاحب المنصب الحكومي في إدارة ترامب- عندما أشعل عاصفة في أوروبا من خلال تغريداته – ودعوته للبث المباشر مع أليس فايدل من حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD). تعدّ ألمانيا قلبَ الاتحاد الأوروبي. وإذا قرَّرت «الانسحاب» من الحرب مع روسيا –بالتوازي مع انسحابات أوروبية أخرى قيد التنفيذ– فقد يكون بإمكان ترامب بشكلٍ معقول إنهاء عبء اقتصادي كبير يثقل كاهل الاقتصاد الأمريكي.
ماذا عن روسيا وأوكرانيا؟
رفضَ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الأسبوع الماضي مقترحات السلام التي طرحتها إدارة ترامب بشأن أوكرانيا، واعتبرها غير مرضية. وكما لاحظت صحيفة «الثقافة الاستراتيجية» الروسية، فإنّ روسيا ترى، في الجوهر، أنّ الدعوات إلى صراع مجمّد تفوّت النقطة الأساسية: فمن وجهة النظر الروسية، لا ترقى مثل هذه الأفكار –كالصراعات المجمدة، ووقف إطلاق النار، وقوات حفظ السلام– إلى أنْ تكون من النوع الذي تطالب به روسيا منذ عام 2021 كاتفاقية شاملة مبنية على معاهدة.
فمن دون إنهاء دائم ومستدام للصراع، تفضِّلُ روسيا الاعتمادَ على نتائج المعركة في الميدان –حتى مع المخاطر العالية المترتبة على رفضها، والتي قد تؤدي إلى تصعيد مستمر– بل وحتى إلى حافة المواجهة النووية من جانب الولايات المتحدة. السؤال الحقيقي هو: هل السلام المستدام بين الولايات المتحدة وروسيا ممكن أصلاً؟
تُعيد وفاة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر إلى الأذهان تلك الانتقالات السياسية المضطربة في السبعينيات، التي تجسّدت في كتابات بريجينسكي، مستشار الأمن القومي لكارتر – وهي الانتقالات التي لا تزال تؤثر على العلاقات الأمريكية-الروسية منذ ذلك الحين وحتى اليوم. شهدت فترة كارتر نقطة تحوُّل كبرى مع اختراع بريجينسكي لفكرة الصراعات الهويّاتيّة المسلَّحة، وتبنّيه للأدوات نفسها –ولكن بشكل أوسع– من أجل إخضاع المجتمعات الغربية لسيطرة نخبة تكنوقراطية «[تمارس] مراقبة مستمرة على كل مواطن... [إلى جانب] تلاعب النخبة بسلوك ووظائف التفكير لدى جميع الناس...».
بإيجاز، دعت كتب بريجينسكي المؤثِّرة إلى إدارة مجال «كوزموبوليتاني» قائم على الهويّات، يستبدل الثقافة المجتمعية – أيْ القيم الوطنية. ومن خلال ردّ الفعل العدائي تجاه هذه الرؤية التكنوقراطية «للسيطرة»، يمكننا أن نفهم أسباب اندلاع الأزمات الحالية في كلّ مكان وعلى جميع الجبهات العالمية.
ببساطة، تعكس الأحداث الحالية في نواحٍ عديدة، تراجعاً عن قواعد فترة السبعينيات الأمريكية. إنّها الفترة التي بدأ فيها النمط السائد حالياً مع تقرير اللجنة الثلاثية المهم «أزمة الديمقراطية» 1975 – الذي يُعتبر مقدمة للمنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس» ومجموعة بيلدربيرغ (وهو منتدى دوري لنخبة من أثرى أثرياء العالم وممثّليهم في الاقتصاد والسياسة والإعلام والثقافة) – حيث تمّ، وفقاً لكلمات بريجينسكي، تتويج البنوك الدولية والشركات متعددة الجنسيات باعتبارها القوة الإبداعية الرئيسية بدلاً من «الدولة القومية كوحدة أساسية في حياة الإنسان المنظَّمة».
وجّه بريجنسكي السياسة الأمريكية في نهاية السبعينيات لإدخال ثقافة هويّة جهاديّة متطرّفة إلى أفغانستان لاستنزاف الثقافة الاشتراكية العلمانية في كابول، التي كانت موسكو تدعمها. وتم تصوير نتيجة الحرب في أفغانستان لاحقاً على أنها انتصار أمريكي ضخم، وهو ما أثبتت الأحداث اللاحقة بأنّه لم يكن كذلك. ومع ذلك –وهنا يكمن جوهر المسألة– فإنّ ادّعاء النصر في أفغانستان شكّلَ الأساس لفكرة أنّ المتمرّدين الإسلاميّين هم «الحلّ المثالي» في مشاريع تغيير الأنظمة.
لكن بريجينسكي لم يكتفِ بهذا القدر. ففي كتابه رقعة الشطرنج الكبرى الصادر عام 1997، جادل بريجينسكي بأنّ الولايات المتّحدة وكييف قد تستغلّان التعقيدات الثقافية واللّغوية القديمة -كما حدث في أفغانستان- لتشكيل محور يتم من خلاله تفكيك قوة قلب العالم عبر حرمان روسيا من السيطرة على أوكرانيا: «في غياب أوكرانيا، لن تتمكن روسيا أبداً من أنْ تصبح قوة قلب العالم، ولكن بوجود أوكرانيا، يمكن لروسيا أن تصبح، وستصبح، كذلك». وقد دعا إلى إغراق روسيا في مستنقع مماثل من الصراع الثقافي-الهوياتي في أوكرانيا.
ثمّ، ومنذ 2014، سعت كييف لإرضاء الإمبرياليّين الأمريكيّين. كما سارعت دول الاتحاد الأوروبي إلى تبنّي هذا التعديل الاستراتيجي الأوكراني: حيث تمّ تصوير «أوكرانيا» كمُدافِعٍ عن «القيم الأوروبية» في مواجهة «القيم» الروسية الآسيوية. كان هذا بمثابة محورٍ –رغم زيفه– يمكن عبره صياغة وحدة أوروبية في وقت كانت فيه وحدة الاتحاد الأوروبي تتآكل.
فهل السلام «المستدام» مع روسيا ممكن؟ إذا كان السعي لتحقيق هذا السلام يقتصر على الحفاظ على أوكرانيا المتبقية كمضيقٍ عدائيٍّ يمثّل «أوروبا وقيمَها» في مواجهة «المجال السلافي الرجعي»، فلنْ يكون السلامُ ممكناً. لأنّ هذا الافتراض سيكون زائفاً بالكامل وسيؤدي بلا شك إلى تجدُّد الصراع في المستقبل. ومن المؤكَّد أنّ موسكو سترفض مثل هذا الاتفاق. ومع ذلك، هناك قلق متزايد بين الجمهور الأمريكي من أنّ الحرب في أوكرانيا تبدو وكأنّها عالقة في تصعيدٍ دائم، مع مخاوف شعبية ملموسة من أنّ الإمبرياليّين يقودون الولايات المتحدة نحو «محرقة نووية».
من الواضح أنّ هناك إلحاحاً لوقف الانحدار نحو التصعيد. مع ذلك، فإنّ مساحة المناورة السياسية تتقلص باستمرار. من منظور فريق ترامب، فإن مهمة التفاوض مع بوتين ليست بالأمر السهل. فالجمهور الغربي لم تتمّ تهيئتُه نفسياً قطّ لاحتمالية ظهور روسيا كقوّة كبرى مِن جديد. على العكس من ذلك، لطالما استمعوا إلى «خبراء» غربيّين يسخرون من الجيش الروسي، ويقلِّلون من شأن القيادة الروسية ويصوّرونها على شاشاتهم بأنّها شَرٌّ مَحض.
بالنظر إلى سيطرة أفكار بريجينسكي الجوهرية، وتجسيدها لاحقاً في «مجال هويّاتيّ» تديرُه النخبةُ التكنوقراطية، ليس مِن الصعب فهمُ كيف تَجِدُ دولةٌ فيها صراعٌ نخبويّ، مثل أمريكا، نفسَها في موقف ضعيف بينما يتّجه العالَم نحو التعدُّدية القطبيّة القائمة. إنّ ما هو مطلوب هو اتفاق شامل قائم على معاهدة يعيد ترتيب هيكل الأمن والحدود بين مصالح الأمن في قلب العالَم وحافّة العالَم.
لكن هل ستُعتُبَر مثل هذه الصّفقة مِن قبل العديد من الأمريكيّين علامةً على «الضعف»، وكأنّها تنازُل عن «قيادة» الولايات المتّحدة و«عظمتها»؟ بالطبع، سيُنظر إليها بهذه الطريقة –لأنّ ترامب سيكون فعلياً يُبرم هزيمة أمريكا ويُعيد تموضع الولايات المتحدة كدولة بين دول متساوية في «حفل القوى» الجديد– أيْ في عالَم متعدِّد الأقطاب.
إنّه مطلبٌ كبير. هل يستطيع ترامب القيام بذلك وتجرّع كبرياء أمريكا؟ في نهاية المَطاف، تدور السياسة والمفاوضات حول المصالح، وحول القدرة على حلِّ لغز كيفيّة إدراك كلِّ طَرَفٍ لما يراه الطَّرف الآخر – هل يُعتبَر ضعفاً أم قوّة. ترامب، إذا وجد نفسَه في مأزق حقيقي بشأن أوكرانيا، قد يصعد ببساطة إلى مستوى أعلى مِن الخطاب ليدّعي أنّه وحدَه يمتلك الرؤية لإنقاذ أمريكا من الحرب العالمية الثالثة: أيْ لإنقاذ أمريكا مِن نفسِها.
مؤشِّرات تدعو للتفاؤل
هناك بعض المؤشِّرات التي تدفع للتفاؤل. عندما وصلت الأمور إلى نقطةٍ حاسمة، كان رئيس وزراء «إسرائيل» بنيامين نتنياهو هو مَن تراجَع أوّلاً. لأشهر، أصبح نتنياهو -وما يمثّله من إدارة النخب الإمبريالية الأمريكية- العقبة الرئيسية أمام وقف إطلاق النّار في غزَّة، ممّا أثارَ إحباطاً كبيراً بين مفاوضيه أنفسهم.
أصبح هذا واضحاً منذ أكثر من شهرين عندما استقال وزير دفاعه، يوآف غالانت، المهندس الرئيسي للحرب التي استمرت 15 شهراً، قال غالانت بصراحة إنه لم يتبقَّ للجيش ما يفعله في غزة. مع ذلك، واصل محرِّكو الخيوط «الإسرائيلية» عنادَه. ففي الربيع الماضي، رفضَ نتنياهو صفقة وقّعتها حركة حماس بحضور مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز، مفضّلاً شنَّ هجومٍ على رفح.
في الخريف، لجأ نتنياهو إلى «خطّة الجنرالات» كطوقِ نجاة، والتي هدفت إلى إفراغ شمال غزة تمهيداً لإعادة توطينها بالمستوطنين «الإسرائيليّين». كانت الخطّة تقضي بتجويع وقصف السكان في شمال غزة عبر إعلان أنّ أيَّ شخص لا يغادر طَوعاً سيُعامَل كإرهابيّ. كانت هذه الخطة متطرّفة للغاية ومخالِفة لقوانين الحرب الدولية لدرجة أنّ وزير الدّفاع الأسبق موشيه يعالون أدانها واعتبرها جريمةَ حرب وتطهيراً عرقياً.
العنصر الأساسي في هذه الخطة كان ممرّاً عسكرياً يتكوّن من طريق عسكري وسلسلة من النقاط العسكرية التي تقطع قطاع غزة من الحدود مع «إسرائيل» حتى البحر. كان «ممرّ نتساريم» سيقلِّصُ فعلياً مساحة غزّة البرّية بنحو الثلث تقريباً ليصبحَ حدودَها الشمالية الجديدة. ولم يكن يُسمَحُ لأيِّ فلسطينيّ تمَّ تهجيرُه من شِمال غزّة بالعودة. الأمر الذي تمَّ نسفُه مع اتّفاقِ وقفِ إطلاق النّار في غزّة.
كلُّ صحفي «إسرائيلي» غطّى المفاوضات أكّد أنّ نتنياهو رفضَ جميع الصفقات السابقة وكان مسؤولاً عن تأخير الوصول إلى هذا الاتفاق. لكن استغرق الأمر اجتماعاً قصيراً واحداً مع المبعوث الخاص لترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، لإنهاء حرب غزة التي استمرت 15 شهراً. بعد اجتماع واحد فقط، تمّ مسح الخطوط الحمراء التي رسمَها نتنياهو وأعادَ رسمها بشدّة خلال 15 شهراً.
كما قال المحلّل «الإسرائيلي» إيريل سيغال: «نحن أول من يدفع الثمن لانتخاب ترامب. [هذه الصفقة] فُرضت علينا... كنا نظن أننا سنسيطر على شمال غزة، وأنهم سيسمحون لنا بعرقلة المساعدات الإنسانية». يبدو أنّ هناك إجماعاً ناشئاً على هذا الأمر. فالمزاج العام في «إسرائيل» مشكِّكٌ في ادّعاءات النصر. كما كتب المعلّق يوسي يهوشواع: «لا حاجة لتجميل الواقع: اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى الناشئ سيِّئٌ لـ«إسرائيل»، لكنها لا تملك خياراً سوى قبوله».
إذا كان هناك جيش ينزف ومستنزَف اليوم، فهو الجيش «الإسرائيلي». الحقيقة العسكرية الواضحة في غزة هي أنه، بعد 15 شهراً، تستطيع حماس التجنيد والتعافي بوتيرة أسرع من قدرة «إسرائيل» على قتل قادتِها أو مقاتليها.
قال أمير أفيفي، العميد «الإسرائيلي» المتقاعد، لصحيفة وول ستريت جورنال: «نحن في وضع حيث وتيرة إعادة بناء حماس لنفسها أعلى من وتيرة القضاء عليها». إذا كان هناك شيء يوضح عبثية قياس النجاح العسكري فقط بعدد القادة الذين تم قتلهم أو الصواريخ التي تم تدميرها، فهو هذا.
في الجزائر وفيتنام، كانت الجيوش الفرنسية والأمريكية تتمتع بتفوق عسكري كاسح. ومع ذلك، انسحبت كلتا القوتين في نهاية المطاف في خزي وفشل بعد سنوات عديدة. ففي فيتنام، حدث الانسحاب بعد أكثر من ست سنوات من هجوم تيت، الذي اعتُبر في ذلك الوقت فشلاً عسكرياً، تماماً كما اعتُبر هجوم حماس في 7 تشرين الأول 2023. لكن رمزية المقاومة بعد سنوات طويلة من الحصار أثبتت أنّها كانت حاسمةً في الحرب. أمّا في فرنسا، فلا تزال جراح الجزائر قائمة حتى يومنا هذا. في كلّ حرب تحرير، كانت عزيمة الضعفاء على المقاومة أكثرُ حسماً من قوة النيران لدى الأقوياء.
في غزة، كانت عزيمة الشعب الفلسطيني على البقاء في أرضه –حتى مع تحوّلها إلى أنقاض– هي العامل الحاسم في هذه الحرب. وهذا إنجاز مذهل، بالنظر إلى أنّ قطاع غزة، الذي تبلغ مساحته 360 كيلومتراً مربعاً، والذي لا توفّر تضاريسه الطبيعية غطاءً من الاعتداءات «الإسرائيلية»، كان قبل السابع من أكتوبر معزولاً بالكامل عن العالَم، من دون أيّ حلفاء لكسر الحصار.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1210