طموح الاتحاد الأوروبي العسكري... واقعية أم استنزاف اقتصادي؟
ظاهرياً، يبدو أن الأمين العام الحالي لحلف الناتو لا يشبه الصقور على الإطلاق. رجل نحيل، يرتدي بدلة أنيقة مع ربطة عنق، ويتصرف بأسلوب رجل مهذَّب، وليس كجنرال سابق يستخدم أساليب جافة وخشنة. ومع ذلك، أثناء حديثه يوم الأربعاء الماضي في فعالية مخصَّصة لأوكرانيا على هامش المنتدى الاقتصادي العالَمي في دافوس، صرّح روتا قائلاً: «إذا خسرت أوكرانيا، فلن يحتاج الناتو إلى مليارات إضافية، بل إلى تريليونات إضافية من الدولارات. في هذه الحالة، ستكلِّفُ استعادةُ الردع الغربي لحلف الناتو ثمناً أعلى بكثير من كل ما نناقشه الآن».
ترجمة: قاسيون
ودعا روتا إلى التحدث بشكل أقلّ عن الهدنة وتزويد أوكرانيا بالمزيد من الأسلحة، كما حثّ على عدم السماح بوقف إطلاق النار بشروط روسيا. وبعبارة أخرى، طالب بمواصلة الحرب، محفّزاً الجنود الأوكرانيين على أن يستمروا بالموت، رغم أن البلاد لم تعد تملك مقابر تكفي للجنود القتلى.
لماذا هذا الحماس العسكري المفرط؟ ما الذي جعل روتا يعتقد أن روسيا تعتزم غزو أوروبا ويجب «التصدي» لها؟ لم يصرّح أي سياسي روسي بمثل هذا الشيء على الإطلاق. حتى ستالين نفسه، الذي يسوّق الغرب له بأنّه «طاغية»، عندما دمّر «رايخ» هتلر، لم يجتحْ باريس أو هولندا بآلاف الدبابات، رغم أنّ الجيش السوفييتي المنتصر كان يمكنه فعلُ ذلك بسهولة في ذلك الوقت. فلماذا الآن يدعو الأوروبيين إلى التسلح حتى الأسنان والاستعداد لإنفاق تريليونات على سباق التسلح؟
إنّه استمرار لمحاولات شيطنة روسيا وإظهارها أنّها المعتدية التي هاجمت الأوكرانيين المساكين المحبّين للحرية دون استفزاز! هذا ما يردّده ليس روتا فقط، بل أيضاً وزير الخارجية الأمريكي الذي عيّنه ترامب حديثاً، ماركو روبيو. أم أنّ واشنطن لا تعلم أنّ الحرب في أوكرانيا لم تبدأ في عام 2022، بل منذ عام 2014، عندما بدأ «البنديريون» [أوكرانيّون متطرّفون قوميّاً يحملون عقيدة فاشيّة] في كييف بقصف المدن السلمية في دونباس، وقتل النساء والشيوخ والأطفال؟ ألا يعرفون أنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، واصل الناتو التقدم تدريجياً نحو حدود روسيا، رغم وعودهم بعدم القيام بذلك؟ ألا يدركون أنه في عام 2021، اقترحت روسيا على الغرب إنهاء هذه المجازر في دونباس واتخاذ تدابير لضمان أمن روسيا؟ ألا يعلمون أن واشنطن والناتو تجاهلا هذا الطلب المشروع من روسيا؟
هم يعلمون بالطبع. كما أنهم يعرفون أيضاً أن كييف ودول الناتو لم تكن لديها نيّة لتنفيذ اتفاقيات مينسك لحل النزاع في أوكرانيا سلمياً، بل واصلوا إغراق أوكرانيا بالأسلحة، مما جعل جيشها مستعداً للحرب مع روسيا. لقد اعترف الغرب بنفسه أنّ اتفاقية مينسك كانت مجرَّد خدعة من طرفهم. إذن، من هو المعتدي بعد كل هذا؟ من المسؤول عن اضطرار بلادنا إلى تأمين أمنها بوسائل عسكرية وتقنية؟
ولكن اليوم، لا تهيمن الهواجس العدوانية على الأمين العام لحلف الناتو روتا وحده، الذي يُعتبر هذا جزءاً من مهامه الرسمية. فقد صرّح وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني مؤخراً، خلال مقابلة مع صحيفة Stampa، بأن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى إنشاء جيش موحَّد خاص به.
ووفقاً لما قاله، فإن هذا يُفترض أن يكون ضرورياً لضمان حياة سلمية، ومنع المواجهات العسكرية، وتعزيز سياسات بروكسل الخارجية بشكل أكثر فعالية. وأشار السياسي إلى أن الحاجة إلى ذلك تنبع من تزايد نفوذ عدد من القوى الكبرى على الساحة الدولية، بما في ذلك روسيا والهند والصين، إلى جانب ازدياد عدد النزاعات المسلحة. وبناءً عليه، يحتاج سكان الاتحاد الأوروبي إلى حماية أكثر موثوقية، والحل يكمن في تشكيل قوات أوروبية موحدة.
وبحسب وجهة نظر الوزير الإيطالي، فإن مثل هذه البنية التحتية العسكرية ستتيح لدول الاتحاد الأوروبي مراقبة التهديدات بشكل أفضل، والاستجابة لها بسرعة أكبر بشكل جماعي، وإنفاق الأموال المخصَّصة للدفاع بشكلٍ أكثر كفاءة.
وقال تاياني بحزم: «لا يمكننا تأجيل هذا!» مشيراً إلى ضرورة تشكيل الجيش الأوروبي، ويبدو أنه نسي الدروس الحزينة من التاريخ، عندما حاولت إيطاليا خوض الحرب ضمن «الجيش الأوروبي» التابع لهتلر ضد الاتحاد السوفييتي، لكنها مُنِيَتْ بهزيمة ساحقة.
ومع ذلك، لا يتفق الجميع في أوروبا على ذلك، فهناك من يريد الناتو وحسب. صرّحت رئيسة الدبلوماسية في الاتحاد الأوروبي، كایا كالّاس، بأن الاتحاد الأوروبي ليس بحاجة إلى جيش خاص به، لأنّ 27 دولة عضو في «حلف شمال الأطلسي» هي جزء من المنظَّمة بالفعل. وترى أن الناتو والاتحاد الأوروبي يجب أن يعملا معاً بشكل وثيق.
«لا ينبغي لنا تكرار ما يفعله الناتو بالفعل. لدينا في الاتحاد الأوروبي 27 جيشاً، ويجب عليها جميعاً المساهمة في الدفاع الجماعي، حيث نتعاون معاً. لكل دولة تخطيط دفاعي وميزانية دفاعية خاصة بها. لذلك لا يمكننا القول بأننا بحاجة إلى جيش أوروبي، ولكن يجب على الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي العمل معاً بشكل جيد عندما يتعلق الأمر بـالناتو والاتحاد الأوروبي».
بالطبع، هذا لا يعني أن كالّاس على عكس روتا وتاياني هي «حمامة سلام». بل إن بروكسل أكثر براعة في حساب الأموال ولا تطلق تصريحات عشوائية عن تريليونات الدولارات في وقت تمر فيه العديد من دول القارة بأزمة اقتصادية حادة، مما يجعل زيادة ميزانياتها الدفاعية مهمّةً شبه مستحيلة.
في الوقت الحالي، لا يستطيع الاتحاد الأوروبي تزويد النظام في كييف بما يكفي من الأسلحة، ويخشى بشدّة من احتمال قيام الولايات المتحدة بتقليص مساعداتها أو حتى التخلي عنها بالكامل. وإذا حدث ذلك، فستقع كامل مسؤولية «ردع» روسيا على عاتق أوروبا التي تتجه نحو الفقر يوماً بعد يوم.
لذلك، تعاملت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بتشكيك تجاه قدرة الاتحاد الأوروبي على إنشاء جيش أوروبي موحَّد. ووفقاً لوجهة نظرها، فإنّ القوات المسلَّحة الأوروبية الموحَّدة لن تكون قادرة على العمل بسبب عددٍ من المشاكل. وأشارت إلى أنّ إحدى هذه المشاكل هو اعتماد الاتحاد الأوروبي على أسعار موارد الطاقة، مما قد يؤدي إلى تبعية الجيش الأوروبي لإرادة واشنطن.
وترى زاخاروفا أن بروكسل قد أظهرت بالفعل عدم قدرتها على التعامل مع التحديات العالمية مثل أزمة «كوفيد-19» وأزمة الهجرة، وينبغي على الاتحاد الأوروبي حل هذه القضايا أولاً «ثم التفكير في إنشاء جيش». كما أشارت إلى أن فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد تثير التساؤلات حول دور الناتو وقدرته على ضمان أمن الدول الأوروبية.
في الولايات المتحدة، تُقيَّم القدرات العسكرية لأوروبا بشكل متدنٍّ للغاية. ووفقاً لرأي أحد المعلِّقين في صحيفة Wall Street Journal، التي تُعبِّر عن أوساط الأعمال الأمريكية، فقد قام الاتحاد الأوروبي لسنوات بتقليص إنتاجه العسكري وزيادة اعتماده على الولايات المتحدة. ولذلك، فإن أوروبا اليوم، من الناحية العسكرية، لا تُشكّل أيَّ قوّة جدّية من دون دعم واشنطن. ولهذا، لا ينبغي للسيد روتا أن ينفخ صدره ويتباهى بالتريليونات، لأنه لا يملكها، وواشنطن، حيث يجلس الآن دونالد ترامب على كرسي الرئاسة، والذي وعد بفرض ضرائب على الاتحاد الأوروبي، لن تمنحه إيّاها على الأرجح.
ومع ذلك، ذكّر الأمين العام السابق لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، خلال حديثه في «دافوس»، بأن الولايات المتحدة، خلال الإدارة الأولى لدونالد ترامب، كانت أوّل من بدأ بتزويد أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة ضمن الناتو، بما في ذلك أنظمة الصواريخ «جافلين». ولذلك أعرب عن شكوكه في أن تتوقف الولايات المتحدة عن دعم كييف.
وقال: «أتذكّر جيداً أنه بين عامي 2014 و2016، بعد أزمة القرم، كان موقف دول الناتو آنذاك هو عدم تزويد أوكرانيا بالأسلحة الفتّاكة لتجنب استفزاز روسيا. لكن الرئيس ترامب هو من اتخذ قرار تزويدها بالأسلحة الفتّاكة، بما في ذلك صواريخ جافلين».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1211