الجنوب العالمي وتعزيز صناعات «الطاقة الجديدة»: التمويل والتكنولوجيا والشروط
كيف يمكننا، نحن بلدان الجنوب العالمي، أن نحصل على حصّة أكبر من التمويل والتكنولوجيا العالميّة المخصصة لصناعات الطاقة الجديدة، والتي قد تصل إلى الترليونات؟ وكيف يمكن التأكّد من ربطها بسياسات تنمويّة تجعلنا جزءاً من سوق «صناعة الاستدامة» العالمي، ومن سلاسل صناعة الطاقة الجديدة الرخيصة وتخزين الكهرباء والنقل...إلخ؟ تحتاج الإجابة عن هذه الأسئلة لمعرفة تفاصيل القدرات التمويلية، وسياسات التمويل والإقراض ونقل التكنولوجيا، والقدرات التصنيعية الخاصة بهذه الصناعة، لأهمّ وأكبر دولتين مموِّلتين ومتطوِّرتَين تكنولوجياً في العالم: الصين والولايات المتحدة.
يجدر التوضيح بدايةً إلى أننا سنستخدم صفة «الجديدة» لصناعات الطاقة غير الأحفورية بدلاً من «الخضراء» أو «النظيفة» أو «المتجدّدة» أو حتى «المستدامة»، نظراً إلى أنّ نمط الإنتاج التكنولوجي لمعظمها ما زال حتى الآن عرضة لانتقادات وشكوك علمية غير محسومة بشأن مدى خَضارِها أو نظافتها أو تجددها أو استدامتها، إذا استثنينا ربّما الطاقة النووية التي تبدو حتى الآن واعدةً أكثر من غيرها في هذه المناحي.
إنّ عمليّة البحث عن التنمية والتمويل في صناعات الطاقة الجديدة من قبل بلدان الجنوب العالمي لن يكون دون سياق. ولكن يرى الأكاديميون الأمريكيون بأنّ على الولايات المتحدة أن تركّز على عمليات تمويل وتنمية تحت مسمّى «خطّة مارشال خضراء». كما لم يكن الأمريكيون وحدهم الذين تحدّثوا عن ذلك، فقد سبقهم بعض الرسميين الصينيين أيضاً. يبدو أنّ التمويل الخاص بالطاقة والتكنولوجيا المرتبطة بها هو حجر زاوية في المواجهة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين، والتي يمكن لبلدان الجنوب العالمي أنْ تحقق من خلاله الكثير من أهدافها التنموية.
يبدو هذا الأمر متّسقاً أيضاً مع ما قاله الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا منذ مدّة قصيرة، من على منبر الأمم المتحدة، حيث وصف النظام المالي الدولي الحالي بأنّه «خطّة مارشال معكوسة»، تموِّل فيها البلدانُ الفقيرة تلكَ الثريّة. شرح لولا مقصدَه عندما أضاف: «تقترض البلدان الإفريقيّة بأسعار فائدة أعلى ثماني مرّات من ألمانيا، وأربع مرّات من الولايات المتحدة». في ظلّ هذا المشهد العالمي الذي يُظهِر استمرارَ النهب الإمبريالي في تغذية «دول الشمال» على حساب «شرايين الجنوب العالمي المفتوحة».
علينا البدء بأنَّ الجزء المتعلّق بوضع سياسات صناعية تنموية وطنيّة في بلدان الجنوب العالمي هو أهمّ حتّى من الحصول على التمويل، فبغير هذه السياسات ستظلّ هذه البلدان مجرّد أسواق، أو ورشات، أو حتّى مستعمرات للموارد، للدّول الأكثر تقدماً من الناحية الصناعية. وفي حال حدث ذلك، سيتمّ «تغليف» التمويل المدمِّر بشعارات صديقة للتنمية والبيئة بهدف التعمية على إدامة مستوى النهب وتحويله إلى قطّاعات أخرى. لهذا، فإنّ بلدان الجنوب العالمي التي نقصدها هنا، هي البلدان التي تحكمها، أو ستحكمها بفعل تغييرات تقدُّمية قادمة، طبقاتٌ سياسية جديّة في التطوّر وتنمية شعوبها، وليس طبقات حاكمة تمضي في عمليات إفقار شعوبها وتهجيرها.
بأيّ حال، ودون أن نستبق النتيجة التي يجب أن نستخلصها من المقال، لا يمكننا وضع الولايات المتحدة والصين في سلّة واحدة - فالولايات المتحدة هي المركز الإمبريالي الذي يتّخذ من التمويل أداة رئيسيّة لاستخراج القيمة ونهبها من بلدان الجنوب العالمي، بينما الصين هي واحدة من البلدان التي يتمّ نهبها بغضّ النظر عن فائضها التجاري والتمويلي المرتفع. هذا بدوره لا يمنعنا من الاعتراف بأنّ العلاقات الرأسمالية لا تزال تحكم جزءاً كبيراً من بنية الأعمال في الصين، وبالتالي وإلى حين أن يُحَلّ التناقض بين الدرب الاشتراكي والرأسمالي الصيني نفسه بشكل نهائي، على بلدان الجنوب العالمي أنْ تتعامل مع أيّ مموِّلٍ خارجي على أساس تعظيم المنفعة الوطنية، ووضع شروط تخدم تنمية القطاعات الاقتصادية المحلّية، وبناء رأس مال بشريّ قادر بعد فترة من الزمن على الاضطلاع بمهام التطوير التكنولوجي في مجال البطاريات والتخزين والطاقة المستدامة وغيرها من «الصناعات الخضراء». أي كما فعلت الصين نفسها بعد الانفتاح على رأس المال الغربي منذ 1979.
في الواقع، من المهمّ أنْ ندرك بأنّه، بعيداً عن الأجندات التي تخفي وراءها ما تخفيه من نمط «التحوّل الأخضر» الأوروبي، فإنّ عدم السعي لتعزيز ما يمكننا تسميته «الصناعات الخضراء» - شاملة البطاريات والألواح الشمسية والعنفات الهوائية ووسائل تخزين الطاقة وغيرها - ليس خياراً للدول التي تسعى لحجز مكانة لها في سلسلة التصنيع المستقبلية، سواء بسبب قدرتها على امتصاص العمالة الفائضة، أو تطوير رأس المال البشري، أو غيرها من التأثيرات غير المباشرة على اقتصاد هذه الدول بأكمله.
الاتجاه الصيني والغربي
لا يمكن اختصار الحديث عن مبادرة الحزام والطريق الصينية هنا، لكنّ المقارنات بينها وبين خطّة مارشال الأمريكية التالية للحرب العالمية الثانية، لم تبدأ عند هذا المقال، ولن تنتهي عنده. لكن اليوم، وبعد أن زادت حدّة الصراع التجاري الأمريكي-الصيني، وبعد أن بدأ الغرب بفرض رسوم تجاريّة على منتجات «الصناعة الخضراء» الصينيّة بذريعة أنّها تحصل على «دعم غير قانوني من الدولة الصينية»، بدأ الصينيون يشعرون بشكل متزايد بأنّ الخلاص من «فائض الإنتاج المحلي» لديهم هو مشكلة يجب حلّها، والكثير من الحلول تتجه نحو دعم الإنتاج والتوزيع في الخارج. ضمن هذا المشهد، بات أمام بلدان الجنوب العالمي مشهد صراع عليهم الخوض بحذر داخله.
تحدّث هونغ يي بينغ، بروفسور الاقتصاد في جامعة بكين والمسؤول السابق في بنك الشعب الصيني، عن «خطّة التنمية الخضراء للجنوب العالمي»، وكان اقتراحه هو إنشاء «مجتمع اقتصادي بمستقبل مشترك… تتمكّن من خلاله الصين من مساعدة البلدان النامية على إجراء هذه التحوّلات، وتشجيعها على شراء المنتجات الصينية، وإدخال تكنولوجيات الصين، وحتّى تشجيع بعض الشركات الصينية على الذهاب إلى الخارج».
لكنّ مثل هذا الخطّة، وكما أقرّ هوانغ نفسه، تستلزم تدويل الرنمينبي (العملة الصينية) بحيث يصبح مقبولاً للتعامل به أكثر، وهو الدرب الذي يسير حتماً في مواجهة الدولار وهيمنته العالمية. الفكرة التي يتحدّث عنها هوانغ أن تسعى الصين إلى إيجاد أسواق لبضائعها المنتهية (الجاهزة للاستهلاك النهائي)، وربّما الأهم التكنولوجيا الخاصّة بها، من خلال شكل من أشكال تمويل البائعين للدول المُثقَلة بالديون حتّى تتمكّن من شراء «السلع الخضراء» الصينيّة بأسعار معقولة، وبطرق دفع وسداد يمكنها تحمّلها. الواقع أنّ التحوّل في التوجُّه نحو الخارج أمرٌ حقيقي، فكما وضّحت صحيفة FDI: «يبدو أنّ الصين تمرّ بتحوّل كبير، من مستوردٍ لرأس المال إلى مصدِّرٍ لرأس المال». علاوة على ذلك، فإنّ الشروط الاقتصادية والسياسية لهذا التمويل يجب أن تكون متمايزة عن «التبادل اللامتكافئ» الذي لطالما ميّز تَصدير رأس المال من الدول الإمبريالية.
حتّى الغرب يعترف بأنّ الصين باتت متفوِّقة في مجال الطاقة المستدامة، وبأنّها تركّز جهودها على تقنيات التكنولوجيا المتطوّرة. من المتوقّع أن تشكّل الصين ما يقرب من 60% من إجمالي القدرة الإنتاجية للطاقة المتجددة في مختلف أنحاء العالم بين الآن وعام 2030.
على الطرف المقابل في الولايات المتحدة، كتب بريان دييز -المستشار الاقتصادي الوطني السابق لجو بايدن ومستشار حملة كامالا هاريس الحالية - مقالاً في أغسطس/آب في مجلة «فورين أفيرز» يدعو فيه إلى «خطة مارشال للطاقة النظيفة». بالنسبة لدييز، وكما يمكن أن نتوقّع من محللي اقتصاد الدولار، فهذه الخطّة لا يمكن أن تنجح دون الحفاظ على موقع الدولار المهيمن في العالم. تتلخّص هذه الفكرة في توسيع نطاق الصناعات الأميركية لتلبية الاحتياجات العالمية، والفوز بنفوذ أكبر في هذه العملية. ولكنْ تعتمد هذه الرؤية على افتراض التفوق التكنولوجي الأميركي في مجال احتجاز الكربون وتخزينه، والهيدروجين، والطاقة النووية، والطاقة الحرارية الأرضية.
إنّ الحديث عن «خطّة مارشال أمريكيّة جديدة» يستقطب الكثير من الآراء حوله في الولايات المتحدة، فالكثير من النخب الأمريكية باتت على قناعة أنّه، بالإضافة إلى محاولات التشويش على صعود الصين عبر تفجير المناطق المحيطة بها والقريبة منها بالمعنى الإرهابي والعسكري، عليهم أن يعيدوا دول إفريقيا وآسيا إلى حظيرة الولايات المتحدة عبر تخصيص تمويل أكبر يخدم في نهاية المطاف إدامة الهيمنة الأمريكية. يقوم مؤيدو هذا الحراك بالإشارة إلى أنّ خطط بايدن لدعم التجديد الصناعي في الولايات المتحدة قد نجحت في جذب الكثير من الاستثمارات والأعمال «من أوروبا بشكل رئيسي»، والتي بلغت بحساباتهم أكثر من 400 مليار دولار من الاستثمارات في «الطاقة النظيفة» توليداً وتخزيناً وتكنولوجيّا.
التأخر الأمريكي ووهم العظمة
إذا أردنا أن نُجمل ما تريده بلدان الجنوب العالمي من المموّل ومورّد التكنولوجيا من أجل تمكينها من تحقيق أهدافها للتنمية، والدخول في معادلة ربح-ربح مع أيّ جانب، يمكننا أن نحدّد الأهداف العمليّة التالية: تكنولوجيا متطوّرة أساسية قادرة على دعم النمو المستقبلي، وشروط تمويل تسمح لهذه الدول بسداد الديون وهيكلتها بحيث تكون قادرة بشكل سيادي على إدارة شؤونها الاقتصاديّة والاجتماعية وعدم الوقوع ضحيّة لهذه الديون، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية السياسية بذرائع الحفاظ على قدرات سداد الديون.
لا يبدو أنّ الولايات المتحدة، بالاستناد إلى تاريخها الإمبريالي والمؤسسات التمويلية التي تتحكّم بها، قادرة على تلبية اثنين من هذه الاحتياجات: شروط التمويل، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية. لكن حتّى إذا ما ناقشنا موضوع التكنولوجيا المتطوّرة، يبدو أنّ الولايات المتحدة غير قادرة على اللّحاق بالصين في هذا المجال.
إنّ مقترحات أمثال بريان دييز تعبّر عن الانفصال الأمريكي عن الواقع، وعن استمرار العنجهيّة الأمريكية في ادعاء الصدارة رغم عدم وجود بنية ماديّة حقيقية تدعم ذلك. إنّ أمثال هذه المقترحات غير قادرة على تلبية ما تريده بلدان الجنوب العالمي. الأمر الآخر، وهو الذي أشار له عددٌ من الأمريكيين أنفسهم، أنّه يروّج لنظرة مضلِّلة تبالِغ في البراعة والقدرات الأمريكيّة في مجال «التصنيع الأخضر». تحدّثت آلان بيتي في فاينانشال تايمز، أنّ الولايات المتحدة ليس لديها الإجماع والتماسك الداخلي الذي كان موجوداً أيّام خطّة مارشال. كما كتب آدم توز بأنّ الكثير من التكنولوجيا التي يتبجّح بها دعاة التصنيع الأمريكي «الأخضر» هي في الحقيقة هامشيّة بشكل عام بالنسبة للاحتياجات الفعلية للطاقة في أغلبية العالم، وأنّها بكثير من الحالات مجرّد خيال علمي، مثل التقاط الكربون وتخزينه.
يواجه التيّار الأمريكي الذي يسعى لإدامة الهيمنة العالمية حالة إنكار لجوهر التحدي العالمي الحالي، ولا يملك وسائل حقيقيّة لمعالجته. لن تقبل بلدان الجنوب العالمي التي تسعى للتنمية بأن تبقى دولاً فقيرة تحصل على التمويل لشراء المنتجات التكنولوجيّة الأمريكية باهظة الثمن. في الوقت ذاته، لا تملك الولايات المتحدة القدرة على بناء قاعدة تحويلية منافسة للصين ما لم يكن لديها الطاقة والمنتجات «النظيفة» التي يمكن الاعتماد عليها، والتي عليها أنْ تستوردها من الصين دون رسوم جمركية، فهي بسياساتها «لدى الحزبين» تأخذ الولايات المتحدة إلى الخلف.
من ناحية أخرى، وكما هو واضح في المقال الحديث الذي كتبه وزير الخارجية الأمريكي بلينكن بعنوان جذّاب: «استراتيجيّة أمريكا للتجديد»، لم يعد هناك مجال للشك بأنّ الخطوات الأمريكية تجاه بلدان الجنوب العالمي هي مطالبتها بالاستمرار بالخنوع، بهدف أن تكون مكاناً لاستخراج القيمة وإثراء الولايات المتحدة ومن يحيط بها من البلدان الثريّة؛ أيْ الحفاظ على «التبادل غير المتكافئ» بل وتعميقه. قال بلينكن: «في حين كان بعض الأصدقاء قلقين في البداية من أنّ الاستثمارات والحوافز المحلية لإدارة بايدن قد تهدد مصالحهم الاقتصادية، فقد رأوا بمرور الوقت كيف يمكن للتجديد الأمريكي أن يعود بالنفع عليهم. فقد عزز الطلب على سلعهم وخدماتهم وحفز استثماراتهم في الرقائق وتكنولوجيا الطاقة الجديدة وسلاسل التوريد الأكثر مرونة. كما سمح للولايات المتحدة وأصدقائها بمواصلة دفع الابتكار التكنولوجي ووضع المعايير التكنولوجية التي تشكل أهمية حاسمة لحماية أمنهم وقيمهم ورفاههم المشترك».
إذا ما تركنا جانباً التشكيك في مصداقيّة ادعاءات بلينكن بالنسبة للأصدقاء، فإنّ تركيزه على ما فعلته الولايات المتحدة بخصوص عقد التحالفات الأمنية والعسكرية والاقتصادية مع دول مجموعة السبع وتعزيزها، يضع بلدان الجنوب العالمي بشكل آليّ في الخندق المقابل للأمريكيين وحلفائهم. إنّ ما يعتبره بلينكن دلائل على الانتصار للأفقر: حقوق السحب الخاصة في عام 2021، ومقعد الاتحاد الإفريقي في مجموعة العشرين، والتغييرات في البنك الدولي، هي في ممارستها العملية دلائل على فشل الولايات المتحدة. لقد فشلت أيضاً، كما أشار توز، حتّى في إنجاز خطط الطاقة الأصغر بكثير، أو ما تسمّى «خطط انتقال الطاقة العادلة JETPlans»، والسبب هو اعتمادها على أسلوبها المستمرّ منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي لا يبدو بأنّها ستغيّره طواعية.
التحديات أمام الصين
في الحقيقة، وبعيداً عن الإنكار الإعلامي، تدرك الولايات المتحدة أنّها متأخرة كثيراً عن الصين من حيث التدفقات المالية الإجمالية المخصصة لمشاريع البنية التحتية الأساسية في البلدان النامية «النقل، والطاقة، وصناعة التعدين والبناء؛ الاتصالات؛ وإمدادات المياه والصرف الصحي». فقد وجد تقرير صادر عن مكتب المحاسبة الحكومي الأميركي في سبتمبر/أيلول أنّ الصين أنفقت أكثر من الولايات المتحدة بنحو تسعة إلى واحد على تمويل البنية الأساسية الأجنبية بين عامي 2013 و2021 «679 مليار دولار مقارنة بـ 76 مليار دولار». من الدول الرائدة التي تلقّت التمويل الصيني: روسيا 104 مليارات دولار، وماليزيا 36 مليار دولار، وباكستان 34 مليار، ونيجيريا 29 مليار، وأنغولا 29 مليار، وإندونيسيا 28 مليار.
لكن هناك مشكلة. تمّ تقليص الاستثمارات الصينية الخارجية في الطرق السريعة ومحطات الطاقة ومشاريع السكك الحديدية، وذلك بدءاً من عام 2018. بلغت إجمالي قروض الصين لإفريقيا في العام الماضي 4.6 مليار دولار، وهي رغم كونها زيادة مقارنة مع السنوات التي سبقتها، إلّا أنّها لا تزال بعيدة عن إجمالي يزيد عن 10 مليارات دولار سنوياً في بداية إعلان مبادرة الحزام والطريق. كما استأنفت الصين الإقراض لمشاريع الطاقة في عام 2023 بعد انقطاع دام عامين، ولكن بكميّة ضئيلة، الأمر الذي فسّره البعض بأنّه «يعكس تحوّلاً بعيداً عن مشاريع الوقود الأحفوري الكبيرة، وزيادة تفضيل أفريقيا للاستثمارات في الأسهم، بدلاً من تحمّل المزيد من الديون».
لكن، وكما أسلفنا، فتصدير التكنولوجيا والبضائع المنتهية الصينية ليس نوعاً من العمل الخيري، بل هو وسيلة لدى الصينيين للتخلّص من الكثير من مشاكل الإنتاج الداخلي لديهم، وأداة للحفاظ على النمو. ولهذا، فإنّ تقلّص حجم التمويل يعود بشكل أساسي إلى اضطرار الصين لمواجهة تداعيات ركود الوباء، والحرب التجارية التي تتسع بينها وبين الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي.
تحدّث الصينيون بكلمات مؤثرة في منتدى التعاون الإفريقي الذي عقد منذ مدّة قصيرة، لكنّ الالتزام الذي وضعه الصينيون على أنفسهم كان تخصيص 360 مليار يوان صيني على مدى ثلاث سنوات. إنّ هذا الرقم يتفق في واقع الحال مع التدفقات الماليّة المُتقلّصة في السنوات الأخيرة.
لكن لا يجب أن ننسى بأنّ الصينيين نجحوا في التغلّب، ولو بشكل جزئي، على التحدّي المتمثل في تمكين البلدان من الصعود إلى أعلى السلسلة، والهروب من مصيرها كمجرّد مصادر للسلع الخام. لكنّ تركُّزَ هذا النجاح الجزئي في منطقة جنوب شرقي آسيا، وهي البلدان التي تعدّ بنيتها التصنيعيّة وارتباطاتها بالسلاسل العالمية أكثر نضوجاً من غيرها، يدفع البعض للقلق. ففي جنوب أفريقيا، وأميركا اللاتينية، وجنوب آسيا، لم تتجاوز شراكات التصنيع في مجال «التكنولوجيا النظيفة» التي أقامتها الصين حتّى الآن قيام ورشات أو مصانع صغيرة بعمليات التجميع النهائي للأجزاء المنتهية والمصنّعة بقيمتها الزائدة الكاملة في الصين (knockdown kits).
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1197