الإمبراطورية الأمريكية.. الجري وراء الهزيمة بالسرعة القصوى!!

تعاني سياسة الولايات المتحدة الإمبراطورية من هزائم عسكرية ودبلوماسية واسعة المدى..

بدعم من الكونغرس الأمريكي الذي يسيطر عليه الحزب الديمقراطي، أدت متابعة البيت الأبيض الذي يسيطر عليه الحزب الجمهوري لمقاربة عسكرية لآلة الإمبراطورية إلى تضاؤل المدى العالمي للنفوذ الأمريكي، وإلى إعادة اصطفاف أنظمة - عملاء قدامى إلى جانب خصوم الإمبراطورية (الأمريكية)، ونشوء قوى مهيمنة منافسة وخسارة المصادر الحيوية من المواد الأولية الاستراتيجية. غير أنّ الهزائم والخسائر لم تطفئ إطلاقاً حماس المخططين الاستراتيجيين، ولم تضع حداً لجموح إنشاء إمبراطورية.

البيت الأبيض والأعضاء الحاليون في الكونغرس ما يزالون متشددين في المواقف العسكرية، ويكررون أسلوباً عدوانياً في السياسة وتبعيةً متزايدةً لما وراء البحار، وكذلك موقفاً حربياً يهدف إلى إلهاء الشعب الأمريكي عن تدهور شروط حياته. وفي حين أنّ الكلفة الاقتصادية والسياسية للإبقاء على الإمبراطورية لا تني ترتفع بينما تكرس الحكومة الفيدرالية مئات مليارات الدولارات لقطاع ماليّ تآكل بفعل الأزمات، وتجري اقتطاعات بعشرات مليارات الدولارات من الضرائب على فوائد الشركات بهدف محاولة تجنب الإفلاسات والانحسار، فإنّ العاملين بأجر هم الذين يتحملون مجمل العبء الاقتصادي على شكل انخفاض مستوى المعيشة، كما يعاني اثنا عشر مليون عامل مهاجر من قمع وحشي تمارسه الدولة.

 

القوى المستفيدة من الحرب

حالات الفشل في ما وراء البحار، والأزمات في الداخل، لم تؤدّ إلى ظهور أي بديل تقدمي، فقد ترافقت الهزائم وانحسار آلة الإمبراطورية الأمريكية الخاضعة للقبضة العسكرية مع تراجع الحركات المناهضة للحرب في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، وكذلك مع انحسار مخيف للأحزاب والأنظمة السياسية المعارضة للإمبريالية الأمريكية في عواصم كل البلدان الرأسمالية المتقدمة. بعبارات أخرى، لم تنتج الخسائر التي تعاني منها الإمبراطورية الأمريكية من اليسار الغربي، ولم تنتج بالتالي أي «ربح للسلام»، ولا حتى تحسناً في شروط المعيشة بالنسبة للطبقات الكادحة أو الفلاحين.

لقد أفادت نخبةٌ ضئيلة من الطبقات الحاكمة لدول جديدة، إفادةً كبيرة من التوسع الأمريكي ما وراء البحار، وهذه النخب لا تمثّل أكثر من خمس السكان. أدى الانحسار النسبي للإمبراطورية العسكرية الأمريكية وصعود قوى إمبريالية اقتصادية جديدة إلى إعادة توزيع الثروة وحصص السوق بين البلدان، لكن ليس بين الطبقات، بل داخل القوى الصاعدة. إذا كان المضاربون العسكريون ـ الصهاينة ـ الماليون هم الذي يديرون الإمبراطورية الأمريكية، فالصناعيون من أصحاب المليارات الجدد ومضاربو العقارات ومصدرو المواد الأولية الغذائية ـ المعدنية هم الذين يديرون الإمبراطوريات الاقتصادية الجديدة الناشئة.

إنّ القوى السياسية التي تقوم حالياً بزعزعة الإمبراطورية الأمريكية العسكرية المركزية ليست القوى نفسها المستفيدة من الحرب.

إذا كانت المقاومتان العراقية والأفغانية قد فرضتا كلفةً بمليارات الدولارات على الخزينة الأمريكية سنوياً، وثبّتتا أرضاً أكثر من مليوني عسكري أمريكي يجولون بين هذه الأصقاع منذ ست سنوات، فالمستفيدون من ذلك على الصعيد الاقتصادي هم في غالبيتهم إمبرياليون ونخبويون.. هناك تفاوتات اقتصادية صارخة تتطور بسرعة هائلة، تمليها طبقاتٌ حاكمة تروّج لنسخها «الوطنية» الخاصة من الاستراتيجيات النيوليبرالية على أساس حرية الأسواق واستراتيجيات تزيد الأرباح إلى الحد الأقصى، عبر الاستغلال الاقتصادي للعمل واستخراج الموارد الطبيعية حتى استنزافها ونهب البيئة. طالما أنّ الحركات الجماهيرية والمثقفين ومناضلي الغرب لا يتخلون عن سلبيتهم وولائهم الأعمى لأكبر الأحزاب السياسية المتواجدة، فستبقى هزيمة النزعة العسكرية الأمريكية عبئاً مكلفاً، تتكبده جماهير العالم الثالث في حين تتدفق الأرباح نحو الإمبرياليين الاقتصاديين الجدد وأصحاب المليارات الجدد الآخذين بالتوسع.

 

جغرافيا هزائم الإمبراطورية

العراق وأفغانستان

مرةً أخرى، أظهر صعود آلة الإمبراطورية ذات الاتجاه العسكري في الولايات المتحدة عجزها المطلق عن فرض نظام إمبراطوري جديد. بعد ستة أعوام ونصف العام من الحرب والاحتلال في العراق، تكبدت الولايات المتحدة خسائر عسكرية مريعة وخسائر اقتصادية تتجاوز نصف مليار دولار دون أن تتمكن مع ذلك من ضمان أي ربح، لا على المستوى السياسي ولا على المستوى العسكري ولا بابتذال في مجال الموارد الطبيعية. أدت الخسائر التي نتجت عن الحرب إلى معارضة داخلية للتدخل العسكري الأمريكي يخرّب باستمرار قدرة الإمبراطورية العسكرية الحالية والمستقبلية. ولا يتوقف الأمر عند الرئيس الرخيص الذي عينته الولايات المتحدة على رأس السلطة في العراق، الذي لم يتجرأ على فرض تاريخ حاسم لانسحاب الولايات المتحدة. أما عميل الولايات المتحدة الآخر في أفغانستان، الرئيس كارزاي، فقد طالب بحقّ متزايد في الاطلاع على العمليات العسكرية الأمريكية التي قتلت عشرات من غير المقاتلين والمدنيين، وعمّقت بذلك ووسعت دعم السكان الأفغان للمقاومة الوطنية، التي أصبحت تعمل في كل أرجاء أفغانستان.

طيلة السنوات الست التالية لغزو الولايات المتحدة للعراق، لم تنجح شركات النفط الأمريكية في الحصول على أية صفقة نفطية جديرة بالذكر، فعبر الالتحاق بالأجندة الإسرائيلية/ الصهيونية الأمريكية في الحروب المتتالية والعقوبات ضد بلدان نفطية إسلامية غنية، خسرت واشنطن النفاذ إلى الأرباح الناتجة عنها والتحكم بهذه الأرباح، لصالح منافسين اقتصاديين عالميين، في منطقة استراتيجية للغاية.

 

إفريقيا

في الصومال، اختارت واشنطن التدخل العسكري عبر نظام ميليس زيناوي الإثيوبي الدكتاتوري الكومبارس بهدف دعم نظام عبد الله يوسف الألعوبة والموالي لأمريكا. بعد نحو عامين، لم تعد إثيوبيا والنظام الألعوبة يسيطران إلا بصعوبة بالغة على رقعتين من منازل العاصمة مقاديشو، في حين أصبحت بقية البلاد في يد المقاومة الصومالية. وفق صحيفة فايننشال تايمز، فقد «عبّر النظام الإثيوبي عن رغبته في إنقاص، لا بل توقيف، انخراطه العسكري في الصومال». لقد هزم تابع الولايات المتحدة عسكرياً بقدر ما هزم سياسياً، وفشلت الولايات المتحدة في تأمين دعم من الاتحاد الإفريقي لاحتلالها بالتفويض. في مجمل إفريقيا، حققت الصين والاتحاد الأوروبي واليابان وروسيا، وكذلك (بقدر أقل) الهند والبرازيل، اختراقات كبيرة نحو يقين الحصول على مشاريع مشتركة في مجال النفط والمواد الأولية وأسواق التصدير والاستثمارات الواسعة المدى (وذات الأجل الطويل جداً في مجال البنى التحتية)، في حين كانت الولايات المتحدة تدعم رجال عصابات انفصاليين في السودان، وتمول نظام مبارك الفاسد في مصر، بمبلغ سنوي يفوق مليار دولار. لم يقتصر الأمر على تخلي الإمبراطورية الأمريكية عن المكان، في المجال الاقتصادي، لمنافسيها العالميين، بل تكبدت أيضاً خسارةً عسكريةً دبلوماسيةً هائلة في الصومال وأضعفت إلى حد خطير تابعها الإثيوبي، سياسياً ومالياً.

 

آسيا

في جنوب آسيا، اضطر الدكتاتور الباكستاني مشرّف، الحاكم الاستراتيجي الألعوبة في يد الولايات المتحدة، للاستقالة، ولم يكن التحالف الانتخابي قادراً على أن يكون على مستوى الدعم العسكري والدبلوماسي والاستخباراتي الذي كان يؤمّنه مشرّف للحرب الأمريكية على أفغانستان بسبب ضعفه وانقسامه. الحدود الباكستانية الأفغانية هي نظرياً أرضٌ مفتوحة للهجمات العابرة للحدود وللتجنيد ولتزويد المنظمات المقاومة الأفغانية بالسلاح. لم تؤد خسارة الإمبراطورية الأمريكية لمشرّف إلا إلى مزيد من تخريب جهود الولايات المتحدة  الهادفة لفرض مركزها المتقدم في أفغانستان.

بوساطة الهجمات البرية والجوية المتواترة ضد المناطق الباكستانية على حدود أفغانستان، كرر التحالف الأمريكي الأطلسي وعمّق المعارضة المدنية السياسية وجعلها جماهيرية، وكذلك المقاومة المسلحة، وذلك في مجمل أرجاء البلاد. اعترف جنرالات وضباط رفيعو المستوى من حلف الناتو بأنّ ما يدعى «الطالبان"» قد أعادوا تنظيم أنفسهم، وبسطوا نفوذهم على مجمل أراضي أفغانستان، وبأنهم أصبحوا يسيطرون على معظم دروب الوصول إلى المدن الكبيرة، ويعملون ضمن العاصمة كابول وحولها. وقد أثارت عمليات قصف وضربات متكررة بالصواريخ الأمريكية معارضة شبه إجماعية للحاكم الرخيص كارزاي. ولا تؤدي التزامات مرشحي الرئاسة الأمريكيين بتعزيز قوات الاحتلال في أفغانستان تعزيزاً قوياً ما إن يمسك الفائز بأعنة السلطة، إلا إلى إطالة أمد الحرب وتعميق ضعف الإمبراطوريات الاقتصادية، وكذلك أسسها الداخلية.

 

القوقاز

لقد أدت محاولة واشنطن لبسط دائرة نفوذها إلى القوقاز بفضل اختلاس للأراضي يقوم به تابعها الجورجي التسلطي، الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي، إلى هزيمة عميقة للتطلعات الإقليمية لهذا المرزبان الإقليمي. يمثل الانفصال السياسي والانسجام بين أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وبين روسيا نهاية توسع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي غير المحدود في هذه المنطقة من العالم ـ وكذلك تراجعاً معتبراً من هذه المنطقة المتنازع عليها. لقد أدت نزعة المغامرة لدى ساكاشفيلي وتدمير الاقتصاد الجورجي الناتج عنها إلى فوضى داخلية معممة (في جورجيا).

بل هنالك ما هو أسوأ، إذ تدعو جورجيا والولايات المتحدة وعملاؤها الأوروبيون الشرقيون إلى فرض عقوبات على روسيا، مهددين بتخريب أنابيب النفط الاستراتيجية التي تغذي أوروبا الغربية بالطاقة، وبوضع حد لمشاركة موسكو في سياسة الولايات المتحدة  العسكرية في أفغانستان وإيران والشرق الأوسط. إذا واصلت واشنطن تصعيد تهديداتها العسكرية والاقتصادية ضد روسيا، فربما تقدم هذه الأخيرة لإيران وسورية وأعداء آخرين للولايات المتحدة صواريخ قوية مضادة للطائرات فائقة الحداثة ومتوسطة المدى. وهنالك ما لا يقل خطورةً: ربما تتخلص روسيا بسرعة شديدة من السندات التي تمتلكها في الخزينة الأمريكية والبالغة 200 مليار دولار، ما سيضعف الدولار ويحدث بذلك تبدداً عالمياً لهذه العملة.

في جورجيا كما في أماكن أخرى، تولي آلة الإمبراطورية الاقتصادية الأمريكية الأولوية لسرقاتها الفاشلة سلفاً للأراضي في بلد تابع من الفئة الثالثة، على حسب العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية المثمرة مع قوة رئيسية عالمياً في مجال الطاقة، هي أيضاً معاونٌ حاسم في عملياتها الجارية في الشرق الأوسط. وفي حين تتفتت علاقات الولايات المتحدة الاقتصادية مع روسيا بسبب سياستها العسكرية العدوانية في حصار موسكو ـ مع إقامة القواعد العسكرية في الجمهورية التشيكية وبولونيا وجورجيا وبلغاريا ورومانيا ـ  يمتنع بناة الإمبراطورية الأوروبية الغربية عن إطلاق تهديدات عسكرية، مكتفين ببلاغة ذكورية وبـ«الحوار»، بغية تعزيز علاقاتهم الاستراتيجية مع روسيا في مجال الطاقة.

 

العالم العربي

أدى دعم الولايات المتحدة غير المشروط للعدوان العسكري الإسرائيلي في لبنان وفلسطين وسورية، وكذلك الدعم الأمريكي المقدم لتابعين عرب ضعفاء وخرقاء إلى هبوط سريع للنفوذ الأمريكي. ففي لبنان، ومنذ فشل الغزو الإسرائيلي في العام 2006، أصبح حزب الله يحكم عملياً الجزء الجنوبي من البلاد ـ كما يتمتع بحق النقض ضد الحكومة اللبنانية، ما يعني أنّه قادرٌ على الإطاحة بالحكومة اللبنانية الحالية التابعة للأمريكيين.

وفي غزة، فشلت المحاولات الأمريكية والإسرائيلية للاستيلاء على السلطة وطرد حماس، عبر حليفهما عباس وألعوبتهما دحلان، ولم تبلغ غايتها، في حين عززت حماس سلطتها.

السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط خاضعة تماماً لدولة إسرائيل، المتحكمة بالكونغرس وبخيار المرشحين للرئاسة وبوسائل الإعلام الجماهيرية و«مراكز أبحاث» البروباغندا الرئيسية.

لقد برهن الصهاينة على سلطتهم بإملاء ما يمكن وما لا يمكن، حتى لو لم يتعد ذلك التحدث في التوافق الوطني للحزب الديمقراطي، الذي مارس ـ وتلك هي القشة التي قصمت ظهر البعير ـ منعاً غير مسبوق تجاه الرئيس جيمي كارتر بسبب انتقاداته الإنسانية ضد السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. وأدى الاغتصاب الصهيوني ـ الإسرائيلي للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط إلى خسارة استثمارات وأسواق وأرباح محتملة وشراكات استراتيجية لمجمل الصناعة متعددة القومية في مجال النفط والغاز.

 

العالم الغربي

في أواخر العام 2001، تحدت واشنطن الرئيس الفنزويلي شافيز وهددته بإجراءات انتقامية بسبب رفضه الانصياع لحرب بوش على «الإرهاب». حينذاك، قال شافيز لممثل خاص للولايات المتحدة (غروسمان) ما يلي: «لن نحارب الإرهاب بالإرهاب!». بعد أقل من ستة أشهر، في نيسان 2003، دعمت واشنطن انقلاباً عسكرياً مدوياً ضد شافيز، كما دعمت بين كانون الأول 2002 وشباط 2003 إضراباً اقتصادياً (أخفق تماماً) قام به أرباب عمل فنزويليون.

لقد دمّر فشل الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الجيش وزبائن واشنطن في الطبقة الحاكمة الفنزويلية، وساهم في مزيد من تجذير حكومة شافيز. نتيجةً لذلك، أمم زعيم فنزويلا النفط والغاز، وطور علاقات استراتيجية مع بلدان منافسة، لا بل معارضة تماماً للإمبراطورية الأمريكية مثل كوبا وإيران والصين وروسيا. وفي أمريكا اللاتينية، عقدت فنزويلا اتفاقات اقتصادية استراتيجية مع الأرجنتين وبوليفيا والإكوادور وكوبا ونيكاراغوا. وفي حين قدّمت واشنطن لكولومبيا أكثر من 6 مليار دولار كمساعدة عسكرية، وقعت فنزويلا عقود استثمارات للنفط والغاز، وكذلك اتفاقات تجارية، مع معظم بلدان أمريكا الوسطى ومنطقة الكاريبي، واضعةً بذلك جدياً موضع التساؤل نفوذ واشنطن في هذه المناطق من العالم.

 

سياسات منذورة للفشل

لا يمكن حل العزلة الأمريكية في أمريكا اللاتينية، لأنّ بحث واشنطن عن تأسيس إمبراطورية عبر عدوانها العسكري المتواصل ـ في باقي أرجاء العالم، وبصورة خاصة في أمريكا اللاتينية ـ لا يستطيع منافسة الأرباح والثروة وفرص الاستثمار والتجارة التي تقدمها للطبقات الحاكمة في أمريكا اللاتينية الأسواق الجديدة في روسيا والشرق الأوسط وآسيا، وكذلك فنزويلا، البلد الغني، بفضل نفطها.

تظهر الاستراتيجية الإمبريالية العسكرية لواشنطن بوضوح شديد في سياستها المزدوجة: منح الأولوية لإنفاق 7 مليار دولار كمساعدة على القمع في كولومبيا، مع التضحية بأكثر من 10 مليار دولار على هيئة مبادلات تجارية واستثمارات وأرباح مع أكثر البلدان النفطية ثراءً، أي فنزويلا. لقد بدّدت واشنطن أكثر من 500 مليار دولار في اعتداءاتها على أفغانستان والعراق؛ ويجري تخصيص مليارات الدولارات تحضيراً للاعتداء على إيران؛ في كل سنة، يجري تبديد أكثر من 3 مليار دولار لصالح الطغمة العسكرية الإسرائيلية؛ هذا كله، دون التوقف لحظةً واحدة عن خسارة مئات مليارات الدولارات من التجارة والاستثمارات المتبادلة مع أمريكا اللاتينية.

يكمن المظهر الأشد إثارةً لهذا التناقض التاريخي في أنّ النفقات العسكرية المرتبطة بآلة إمبراطورية تركز على الجيش قد فشلت حتى في تحقيق هدفها الأدنى المتمثل في نيل سيطرة سياسية ومراكز عسكرية متقدمة وموارد استراتيجية لشن الحرب. بل على العكس، فمنافسو الولايات المتحدة  في السوق المعولمة ضمنوا وصولهم (ويليه تحكمهم) إلى الموارد الطبيعية الاستراتيجية، ووقعوا اتفاقات تعاون سياسي مربحة دون أي تورط عسكري مكلف...

 

الصهيونية  والعسكرتاريا

كان ثمن بقاء آلة الإمبراطورية تحت الرعاية الصهيونية العسكرية باهظاً بالنسبة للاقتصاد الأمريكي: انخفضت القدرة على المنافسة، وأصبح التضخم يقضم مستوى المعيشة، العمل بأجر مستقر ولائق في سبيله إلى الاختفاء، البطالة والتسريح يزدادان كالسهم، النظام المالي منفصلٌ تماماً عن الاقتصاد الحقيقي وهو في سبيله للانهيار، الحجز على البيوت يبلغ مستويات كارثية ودافعو الضرائب يستنزفون تماماً لتسديد دين المضاربين بضمانة القروض العقارية الذي بلغ مليار دولار. الارتباك السياسي عامٌ وشامل. في وسط أزمة عالمية المدى، وسعت دولةٌ بوليسية سيطرتها: جرى اعتقال آلاف العمال المهاجرين، شرعيين وغير شرعيين، في ورشاتهم ومصانعهم واحتجازهم في معسكرات، بعيداً عن أبنائهم. تتعرض اتحادات إسلامية وعربية لملاحقات عنيفة، كما تلاحق قضائياً بموجب شهادة مخبرين مأجورين، من بينهم «شهود» إسرائيليون مخفيون وفق الأصول.

تمارس الشرطة الفدرالية (في كل أرجاء الولايات المتحدة) والشرطة المحلية (الخاصة بكل ولاية) «الاحتجاز الوقائي» لمناضلين وصحافيين، وتوقفان المحتجين وتدمران بصورة منهجية كاميرات الفيديو وكاميرات التصوير والأفلام التي ينجزها مواطنون يحاولون تسجيل ضرب أولئك المحتجين. إنّ الإمبريالية العسكرية المهزومة تأتي ببطء لكن بصورة أكيدة بدولة بوليسية دموية ـ يدعمها الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء ـ بهدف محاولة مواجهة الأزمات الاقتصادية التي تهدد الأسس السياسية والاجتماعية لإمبراطورية هشة.

 

خلاصة

لم تؤدّ الأزمات المتراكبة والهزائم العسكرية المتعددة إلى أية إعادة اعتبار لالتزامات الولايات المتحدة عالمياً، سواءٌ الاقتصادية منها أم العسكرية. عوضاً عن ذلك، نشهد تجذيراً لليمين الأمريكي الذي يسعى إلى مفاقمة المواجهات مع الصين وروسيا وإيران. وتسحب الولايات المتحدة خلفها الأنظمة التابعة لها في أوروبا الشرقية والقوقاز ودول البلطيق، بهدف معاكسة تأكيد أوروبا الغربية على السيطرة «الاقتصادية» لآلة الإمبراطورية الخاصة بها.