آسيا الوسطى: خارطة الصراع الدولي ونقاط الشراكة والتناقض..!
أسفر تفكك الاتحاد السوفييتي عن ظهور ست جمهوريات في آسيا الوسطى، هي: تركمانستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، وقرغيزيا، وكازاخستان وآذربيجان. ومن الناحية اللغوية، تتحدث تلك الدول بلغة قريبة من التركية، باستثناء طاجيكستان التي تستخدم اللغة الفارسية، ويعتبر تراث دول آسيا الوسطى امتداداً لتراث الشرق الأوسط والتراث التركي والفارسي.
نظراً للموقع الجغرافي المهم الذي تحتله هذه الدول، حيث تقع بين روسيا وإيران والصين وأفغانستان، كان من المتوقع أن تكون المنطقة محل اهتمام الدول الكبرى القريبة والبعيدة، ونبرز هنا أهم الدول المعنية بالصراع:
روسيا- الصين.. والاستقرار في آسيا الوسطى
تعد روسيا أكثر القوى الخارجية نفوذاً في المنطقة، لأنها كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، الذي كان يضم دول آسيا الوسطى أيضاً، وتتمحور السياسة الروسية نحو تقوية العلاقات مع دول آسيا الوسطى، خشية تنامي النفوذ الأمريكي فيها بعد انتهاء الحرب في أفغانستان، وتشكيل حكومة انتقالية فيها، وما سيترتب عليها من اصطفافات دولية جديدة.
ونجحت روسيا نوعاً ما في كسب تلك الدول للانضمام الى رابطة الدول المستقلة، التي تشكلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي للتقليل من إمكانية اختراقها من قبل الدول الأخرى كأمريكا وتركيا، لاعتبارات سياسية واقتصادية ودينية وعرقية.
وكان ولا يزال العامل الاقتصادي والعسكري أحد أهم الأسباب التي دعت روسيا للاهتمام بتلك الدول. فاقتصادياً، يرتبط اقتصاد دول آسيا الوسطى بالاقتصاد الروسي بشكل كبير، حيث تحتل الواردات والصادرات الروسية مكانة كبيرة في اقتصاديات دول آسيا الوسطى، والهدف العسكري يتركز أساساً في العمل على تجريد دول آسيا الوسطى من السلاح النووي المتبقي من الترسانة النووية السوفييتية (خاصة في كازاخستان- المحرر)، ومنع تسرب الخبرة والمواد النووية إلى الدول الأخرى، حيث أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى توزع القوة النووية على أربع جمهوريات هي روسيا، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا، وكازاخستان.
ومع اتساع عدد الدول القادرة على إنتاج السلاح النووي واحتمال وقوع تلك القدرات الفتاكة في متناول بعض الأنظمة المغامرة، أو بأيدي حركات إرهابية، تصبح المسألة بحاجة إلى احتراز دقيق، وقيود تمنع استخدامها.
وترى موسكو أن العمليات الارهابية في 11/ايلول 2001، و«الاستعدادات» الأمريكية لمواصلة «الحرب ضد الإرهاب الدولي» بعد أفغانستان وحرب العراق قد حسم من خلال عملية انسحاب واشنطن من معاهدة الحد من الصواريخ (أي بي أم) الموقعة عام 1972، والشروع في استكمال بناء شبكة الدفاع الصاروخية والتي توشك على الإطاحة بالتوازن الاستراتيجي بين موسكو وواشنطن.
هذا سيشجع بعض الدول للدخول في سباق التسلح النووي، ويفتح الطريق أمام انتشار أسلحة الدمار الشامل، باعتبار الانسحاب الأمريكي هو مقدمة لانهيار المنظومة القانونية التي تحرم انتشار أسلحة الدمار الشامل.
أما الصين، فهي تسعى لتوسيع نفوذها الاقتصادي في المنطقة، وتسعى لإنشاء طريق الحرير الجديد عبرها، ليكون خط وصلها بأوروبا. المصالح المشتركة بين الصين وروسيا تلتقي في عدد كبير من النقاط، غير أن الصين لا توافق على سياسات واشنطن في المنطقة، والتي تسعى لإثارة الفوضى والقلاقل، من أجل زعزعة أمن روسيا وإلهائها عن الأزمات الدولية بصراع إقليمي قرب حدودها، بالإضافة إلى عمل واشنطن للحد من النفوذ الاقتصادي الصيني، والذي تواجهه في عدد من المناطق بالعالم، أهمها بحر الصين الجنوبي.
الولايات المتحدة التدخل التاريخي
أما عن الدور الأمريكي، فالوضع يختلف حالياً، ففي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة الممول الأكبر للحركات الإسلامية التي كانت تحارب الوجود السوفييتي في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، ودعمت حركة التمرد الشيشانية إعلامياً ومعنوياً، أصبحت فيما بعد تتعامل بطريقة مختلفة بعد الهجمات الإرهابية على واشنطن ونيويورك، وبدأت ولو ظاهرياً وشكلياً تنسق مع روسيا ودول أخرى من أجل كبح جماح الحركات الأصولية المسلحة في العالم. أما الآن، فقد عادت واشنطن لدعم الحركات المتطرفة، وإن سراً، بهدف إثارة توترات إقليمية، وإطلاق «ثورات ملونة»، وإدارة حروب هجينة، بما يساعدها في حربها الباردة الجديدة، مع روسيا.
تتمثل مصالح واشنطن في آسيا الوسطى انطلاقاً من نقاط عدة، أهمها منع روسيا من بسط نفوذها في تلك المنطقة، حيث تمثل روسيا إحدى أولويات اهتمام السياسة الأمريكية، نظراً لكونها تمتلك قدرات عسكرية وبشرية واقتصادية كبيرة، في حين تحرص موسكو على منع قيام أية انقسامات عرقية في آسيا الوسطى، خوفاً من انتقال عدواها إلى روسيا نفسها، وتسرب التطرف إلى جمهوريات أخرى في المنطقة، ومن ثم إلى القوقاز. وترى أيضاً أن من مصلحتها التزام جمهوريات آسيا الوسطى بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وعدم انتقال الخبرة والتكنولوجيا النووية إلى دول معادية.
من الناحية الاقتصادية لدى واشنطن مصالحها الخاصة، لا سيما في كازاخستان وتركمانستان، بسبب مخزونهما من النفط والغاز، وسيكون من نتائج وجود النفوذ الأمريكي في المنطقة تهيئة الأطراف المعنية كافة للتعامل مع واقع جديد يغلب عليه عنصر المساومة الذي سينتج عنه حسب رغبتها تحالفات جديدة وانقلاب الموازين والحسابات كافة.
تركيا.. والمكانة المفقودة
من الدول المهمة التي لديها نفوذ في آسيا الوسطى، تركيا وإيران والصين، وتعود أهمية تركيا إلى العامل الثقافي المشترك بينها وبين معظم تلك الدول، وكان استقلال جمهوريات آسيا الوسطى قد أعاد إلى تركيا مكانتها الاستراتيجية، مع انهيار الاتحاد السوفيتي.
وبرزت مكانتها لدى واشنطن والغرب، بعد الحادي عشر من أيلول، بسبب علاقاتها التاريخية واللغوية والدينية مع دول آسيا الوسطى وإمكانية استخدامها للترويج للنموذج الغربي القائم على «الإسلام العلماني»، في دولة غالبيتها العظمى من المسلمين، وتتبنى نظام الاقتصاد الحر و«الديمقراطية»، ويواجه التحرك التركي اعتراضاً من روسيا، وتحاول تركيا تبرير ذلك من خلال توظيفها للنموذج «العلماني في مواجهة الأصولية الدينية» التي تخشى منها روسيا، ويهدف النشاط الإقليمي التركي نحو آسيا الوسطى باعتبار أن نجاح تركيا في هذا المسعى سيمثل لها انتصاراً معنوياً يعوض عن فشلها منذ فترة طويلة للدخول إلى السوق الأوروبية المشتركة، فضلاً عن أهميته لانعاش اقتصادها المتدهور.
إيران والعوائق الغربية
أما عن إيران، فتحاول هي الأخرى إيجاد مناطق نفوذ لها، وخاصة في طاجيكستان التي يتحدث معظم سكانها إحدى اللهجات القريبة من اللغة الفارسية، حيث تتنافس مع تركيا في بسط نفوذها. وأهم العقبات التي تواجهها هي الاختلافات المذهبية واللغوية، إضافة إلى محاولة الولايات المتحدة والغرب للحد من النفوذ الإيراني.
وكانت إيران قد حققت نجاحاً على الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي، وعززت دورها الإقليمي والآسيوي عندما نجحت في بناء طريق الحرير في عام 1996، وهو خط سكة حديد يربط السواحل الإيرانية المقابلة للعديد من بلدان «مجلس التعاون الخليجي» بالشبكة العامة لسكك الحديد الإيرانية والتي تربط إيران بدول آسيا الوسطى عبر أراضي تركمانستان، وبذلك حصلت جمهوريات آسيا الوسطى على منفذ على المياه الدافئة في الخليج العربي.
السناريوهات الأسوأ
شكَّلت وفاة الرئيس الأوزبكي، إسلام كريموف، فرصاً جديدةً لتمدد متطرفي آسيا الوسطى، كما ستسمح مع جملة عوامل أخرى للعناصر المتطرفة في خارج البلاد، خاصةً في سورية والعراق فرصة العودة مرة أخرى لموطنهم الأصلي، وإمكانية النمو والتمدد فيه، وذلك لتركيبة البلاد القبلية والإثنية المتنوعة، وما تحظى به من أهمية استراتيجية بسبب رقعتها الجغرافية المترامية الأطراف من آسيا، حيث تقع في قلب آسيا الوسطى، وعلى حدود الصين وروسيا وإيران وأفغانستان.
تسعى الولايات المتحدة لكسب ود النظام الأوزبكي مجدداً، غير أن هذه المساعي يبدو أنها باءت بالفشل، ومن المتوقع أن تنطلق واشنطن للعمل على زعزعة الاستقرار في المنطقة، عبر استخدام العناصر الإرهابية. فحسب العديد من الإحصاءات، التحق حوالي 7 إلى 10 آلاف من مواطني آسيا الوسطى والقوقاز بـ«داعش» وتنظيمات متطرفة أخرى، مما يعني أن أي خلل أمني في هذه البلدان من شأنه أن يخلق حاضنة ملائمة للمتطرفين في المنطقة، وبإمكان الإرهابيين فتح جبهة جديدة هناك، وستكون أفغانستان بوابة هذا التدفق، خاصة أنه من الصعوبة بمكان التحكم بالحدود بين أفغانستان وهذه البلدان الحبيسة في جغرافيتها البرية حيث لا شواطئ لها على البحار المفتوحة.
عن الفاشية الجديدة و«حركة أوزباكستان الإسلامية»
تفيد التقارير أن عناصر من آسيا الوسطى يقاتلون حالياً في صفوف طالبان في أفغانستان وباكستان، وفي صفوف «داعش» في مناطق فارياب وبادغيس وجوزان، بالإضافة إلى أنه في تشرين الأول 2014، كانت «حركة أوزبكستان الإسلامية» قد أعلنت أنها في الصف ذاته الذي يقف فيه «داعش»، دون أن تعلن البيعة بشكل واضح وعلني لأبو بكر البغدادي. وهذه الحركة لها نشاط ملحوظ في المناطق القبلية في باكستان، وكانت على علاقة بتنظيم «القاعدة» من قبل، وأصدر زعيمها، عثمان غازي، بياناً قال فيه: «باسم كل أعضاء حركتنا ووفاء بواجباتنا، أعلن أننا في نفس الصف مع داعش في هذه الحرب بين الإسلام والكفار».
وفي الوقت الذي رحب غازي بإلغاء الحدود بين الدول الإسلامية، وشملت «ولاية خراسان» المعلنة من جانب «داعش» مساحات واسعة من دول آسيا الوسطى بما فيها أوزبكستان، أعرب هذا الزعيم الأوزبكي المتطرف عن أمله في أن تتم السيطرة قريباً على «الأراضي الإسلامية» كافة.
الحركة التي تأسست في تسعينيات القرن العشرين، وصنفتها الولايات المتحدة الأمريكية كمنظمة إرهابية سبق وإن احتل قادتها مراتب رفيعة في صفوف «القاعدة»، وشارك عدد من مقاتليها في هجوم عام 2014 على مطار كراتشي في باكستان، قد تكون حليف واشنطن الجديد في المنطقة، لإشعال الفتن وتحويل خاصرة روسيا إلى ساحة مناوشات تفتح لها الطريق للتغلغل في المنطقة، تحت راية مكافحة الإرهاب ونشر قواعدها وجنودها في المنطقة.
وتحد منطقة «وادي فرغانة» قرغيزستان شرقاً، وهي تضم محافظات قرغيزية من قبيل أوش وجلال آباد وباتكين، وتجاورها طاجيكستان جنوباً، وتضم محافظة سغد الطاجيكية، أما أوزبكستان فتقع غربي الوادي الذي يضم محافظات فرغانة ونمنجان وأنديجان، وهي تعد منبع وبؤرة الحركة المتطرفة.
هذا التلاقي الحدودي المعقد بين الدول الثلاث وصعوبة التحكم بالحدود المتداخلة بين هذه البلدان في وادي فرغانة، سيمهد الظروف الجغرافية والاجتماعية لنمو الحركات المتطرفة في قلب آسيا الوسطى، وكانت أفغانستان دائماً هي المنفذ، خاصة عبر مدينتي ترمذ وطراز الأوزبكيتين، حيث أن الانتقال إلى وادي فرغانة البعيد عن عواصم البلدان الثلاثة إلى حد ما والمحاصر بجبال شاهقة ووعرة، هو الأمر الذي تريده أية مجموعة تتبنى حرب العصابات بغض النظر عن الأيديولوجية التي تحملها.
ولعل هذا التخوف هو الذي يجمع بين الصين وروسيا، فآسيا الوسطى تشكل العمق الاستراتيجي للصين، التي تضم في مقاطعاتها القريبة من المنطقة، شعباً شقيقاً لشعوب هذه المنطقة، وهو الشعب الأيغوري الذي يقطن في ولاية تركستان الشرقية التي تطلق عليها بكين اسم «سين كيانغ».
هل تمد واشنطن يدها لـ«دواعش» آسيا الوسطى؟
بما أن الحركات المتحالفة مع «داعش» لا تشكل خطراً على أمن أوزبكستان فحسب، بل على أمن الدول الخمس كافة في آسيا الوسطى وعلى مصالح كل من موسكو وبكين، فإن خليفة كريموف، ميرزيايف، سيضطر للسير على النهج نفسه الذي رسمه كريموف، والذي يوافق مصلحة الدولة الأوزبكية في التعاون مع روسيا والصين اللتين تنظران بحذر إلى هذه المنطقة بالغة الدقة والحساسية، وهو بالتأكيد سيحاول الحفاظ على الوضع الراهن وفقاً لسياسة براغماتية تخدم الاستقرار في بلاده، وسوف تستخدم طشقند الحاجة الدولية لاستقرارها بصفتها أكبر دولة من ناحية عدد السكان لتقمع أي احتجاج داخلي، والتصدي لأي صراع قبلي في بلد سمته التعددية القبلية.
من جانبه، ذكر جهاز الأمن القومي الأوزبكستاني أن هناك 5 آلاف من أعضاء «حركة أوزبكستان المتشددة»، الممنوعة في دول عدة- بما فيها روسيا والولايات المتحدة- يقاتلون في الوقت الراهن إلى جانب تنظيم «داعش»، مشيراً إلى أن «نصفهم من أوزبكستان». كما يقول خبراء عسكريون إن لدى «داعش» كتائب من أوزبكستان والشيشان، وهم من أخطر الإرهابيين وتم تجنيدهم في مناطق مثل وادي فرغانة الواقع بين أوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان على حدود أفغانستان، وهناك أيضاً داغستان وهي على حدود الشيشان، وأنهم ينتقلون إلى الإرهاب بعد سجل من الجرائم، ولديهم خبرة بالإتجار بالأسلحة والشر والنقود عبر الحدود.
مما سبق نستطيع التأكيد على أن وفاة الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف ستشكل مدخلاً جديداً لتمدد «دواعش آسيا الوسطى»، كما ستمنح الفرصة للعناصر المتطرفة في خارج البلاد وخاصة في سورية والعراق بالعودة مرة أخرى إلى موطنهم الأصلي وإمكانية النمو والتمدد فيه، وذلك لتركيبة البلاد القبلية والإثنية المتنوعة، وهو الأمر الذي قد يشكل مستقبلاً مزدهراً لدواعش آسيا الوسطى، خاصة إذا قدمت الولايات المتحدة لهم العون والسند.
نقلاً عن «Katehon»