ســورية: رؤيا.. وآفاق..
ألقيت هذه المحاضرة في حلب بحضور العشرات من الرفاق والأصدقاء في نشاط رعته لجنة محافظة حلب لوحدة الشيوعيين السوريين بتاريخ 25/4/2008..
«في بداية المحاضرة يجب تحديد منهجها، كما يجب تحديد فرضيتها التي سنحاول إثباتها من خلال السياق:
«في المنهج: لا داعي للتأكيد على اعتمادنا المنهج الماركسي، ولكن من المهم الإشارة السريعة أن كل النظريات السابقة للماركسية كان هدفها تفسير العالم، بينما أعلنت الماركسية بوضوح كامل أنها تسعى للتغيير من خلال التفسير، وكما هو معلوم فإنه لا يمكن التغيير دون التفسير، وعندما يرتبط تفسير الواقع بضرورة تغييره، فإن هذا يعني إجرائياً: دراسة معطيات الواقع دراسة علمية مجردة... معالجة هذه المعطيات بكل ما يتوفر من أدوات معرفية.. الخروج بعد معالجة معطيات الواقع بالقوانين المتحكمة بموضوع البحث.. ومن ثم، التحكم بالقوانين المستنتجة بهدف السيطرة عليها وتحقيق التغيير المطلوب عبر التأثير الواعي بها لتحقيق الأهداف العلمية والعملية.. والتي ستغدو بدورها إذا ما تعاملنا بها على هذا النحو أهدافاً واقعية ممكنة التحقيق، لا شعارات جوفاء تدغدغ عواطف المتلقين دون نتائج ملموسة على الأرض..
«في الفرضية: يفترض بحثنا الحالي البديهية التالية التي يعرفها جميع الناس ولا يقتنعون بها في الوقت ذاته.
البديهية هي: سورية تعيش اليوم نقطة تحول تاريخي.. الأداء السياسي للقوى الوطنية السورية سوف يحدد مآلات التطور لعشرات السنين اللاحقة.
فما الواقع ؟ وما موقعنا من هذا الواقع؟
«تاريخياً: بعد الاستقلال جرى في سورية تطور طبيعي أدى إلى:
تطور الإقطاع إلى برجوازية.
فرز طبقي شديد.
نشوء طبقة عاملة صاعدة ( عمال المدن – العمال الزراعيين).
التطور الطبيعي أدى إلى أن تصبح البرجوازية السورية طبقة مسيطرة.
البرجوازية السورية قدمت معادلاً سياسياً لها تمثل في الديمقراطية تحت ضغط عنصرين:
1 - حلمها وسعيها إلى بناء دولة على النمط الأوربي.
2 - مصلحتها في تطوير القوى المنتجة والقضاء على بقايا الإقطاع والقنانة.
هذا الوضع يدعونا إلى إجراء مقاربة نظرية سريعة لمسألة الديمقراطية.
«الديمقراطية: لكي لا ندخل في التفاصيل النظرية الكثيرة علينا أن نؤكد على الثوابت التالية:
1. الديمقراطية هي شكل. شكل حكم طبقة لطبقة أخرى.
2. تتحدد درجة نضوج وتطور هذا الشكل بدرجة الحاجة إلى ضرورة إنضاج وتطوير القوى المنتجة.
3. الديمقراطية أداة حكم وليست قيمة أخلاقية مرتبطة بهذه الطبقة أو تلك (تكون البرجوازية ديمقراطية وديكتاتورية). (حبابة، وغير حبابة.. توجد أمثلة كثيرة عن برجوازيات حكمت ديمقراطياً، وأمثلة أكثر عن برجوازيات حكمت بالحديد والنار).
4. أقصى ما يمكن أن تقدمه الديمقراطية البرجوازية هي أنها ستسمح للمطحونين أن يقرروا وينتخبوا من سيطحنهم في البرلمان مرة كل بضع سنوات من بين ممثلي الطبقة الطاحنة على حد تعبير ماركس.
5. كل طبقة تحتاج إلى شكل حكم:
- في مجتمعي الرق والإقطاع تطور القوى المنتجة كان بطيئاً جداً، ولم يكن هنالك حاجة إلى شكل حكم ديمقراطي يطور القوى المنتجة.
- في المجتمع الرأسمالي شكل الحكم هو الديمقراطية البرجوازية أي ديكتاتورية الطبقة المهيمنة.
- في المجتمع الاشتراكي شكل الحكم ديكتاتورية البروليتاريا أي ديكتاتورية الطبقة المهيمنة.
- في المجتمع الشيوعي تضمحل الدولة، وبالتالي تضمحل الديمقراطية معها، ثم تزول، وتحل الحرية مكان الديمقراطية.
6. تعرية الديمقراطية البرجوازية لا يعني عدم الاستفادة منها، فلطالما حرض لينين شعوب الشرق على ضرورة الاستفادة القصوى من القيم الديمقراطية التي توصل إليها الغرب.
الواقع السوري
نعود إلى الواقع السوري.. ما الذي جرى في الخمسينات؟
«نهوض عاصف في تطور القوى المنتجة.. هيمنة كاملة للبرجوازية على تفاصيل الحياة الاقتصادية.. نمو الطبقة العاملة السورية بشكل غدت فيه طبقة بذاتها، ولذاتها.. المعادل السياسي لذلك هو أن يعيش الحزب الشيوعي السوري وبصفته حزب الطبقة العاملة السورية الصاعدة فترته الذهبية.. وصول قوته إلى درجة تهدد حكم البرجوازية السورية.. هروب البرجوازية من الخطر الأحمر والاحتماء بثورة يوليو في مصر والتي كانت في حينه متحالفة بشكل كامل مع البرجوازية المصرية.. قيام الوحدة بين مصر وسورية وتخلي البرجوازية عن حلمها في بناء دولة على الطراز الأوربي وتخليها عن الديمقراطية التي باتت تهدد وجودها، والقيام بوحدة مع ثورة يوليو التي كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية.. أواخر عام 1960 تتخلى ثورة يوليو عن تحالفها مع البرجوازية المصرية، وتقوم بضرب مواقعها الاقتصادية (تأميم بنك مصر في أواخر 1960).. البرجوازية السورية تهرب مجدداً وتقوم بالانفصال لكي لا يلحقها البل.. انتهاء عهد الوحدة بخارطة طبقية تظهر لنا الضعف السياسي الشديد للبرجوازية، وضعف حزب الطبقة العاملة السورية نتاج القمع الشديد الذي مورس ضده في فترة الوحدة.. حدوث فراغ سياسي.. الطبقة الوحيدة المؤهلة لاستلام الحكم هي البرجوازية الصغيرة.. لنصل إلى ما سمي حينها بالإجراءات التقدمية».
الإجراءات التقدمية
«من المهم جداً ملاحظة أن البرجوازية الصغيرة في حكمها لم تطرح معادلاً سياسياً يتمثل في الديمقراطية، إذ لم يكن لديها حلم في بناء دولة على الطراز الأوربي، كما أنها وجدت أن تطوير القوى المنتجة يتم بتقمص بعض جوانب التجارب الاشتراكية في العالم وإضافة إبداعات محلية عليها، لنخرج بخلطة عجيبة غريبة – بزت كل خلطات التجميل والريجيم في الفضائيات اليوم - أسمتها (الاشتراكية العربية)»..
«إذاً، كان هنالك ( إجراءات تقدمية) ، تأميم، إصلاح زراعي، نمو كبير لقطاع الدولة، سيطرة الدولة على كل مفاصل الاقتصاد.
لينين: إن رفع مطلب التأميم وسيطرة الدولة على الاقتصاد في ظل غياب الديمقراطية، يعني صب الماء في طاحونة البيروقراطية، كل بيروقراطية.
خالد بكداش في (سورية على الطريق الجديدة 1966) يتحدث عن أن هذه الإجراءات التقدمية إذا لم يرافقها ديمقراطية ورقابة شعبية على جهاز الدولة، ستنتج طبقة ترث امتيازات البرجوازية وإن لم ترث ملكيتها».
«في النتيجة: نمت في سورية طبقة بيروقراطية ورثت امتيازات البرجوازية عبر الفساد الذي استشرى، وتوسعت شيئاً فشيئاً إلى درجة صار يصعب معها الحديث عن مواقع في جهاز الدولة لم تسيطر عليها هذه الآلية وهذه الطبقة»..
«بالتشخيص اليوم نجد:
أن هذه البيروقراطية قد شكلت هرماً يمكننا تقسيمه إلى ثلاثة أقسام. ويعتمد تقسيمنا هذا من الناحية المنهجية على جدلية الكم والكيف، إذ أن حجم الفساد والنهب الذي تقوم به كل فئة من فئات البرجوازية البيروقراطية هذه، وحجم الثروة التي نهبتها، والدور الوظيفي السياسي الحالي لهذه الثروة هو الذي يحدد كيفيتها، وبنيتها، ومشروعها السياسي.
تقسيمات لابد منها
• الفساد الكبير ومعادله السياسي هو (الليبرالية الجديدة). وهو يتقاطع مع المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، ويطمح في نهاية المطاف إلى الإطاحة بالمشروع السياسي التاريخي لسورية وبدورها الإقليمي، ويمكن ملاحظة شريحتين فيه:
الشريحة الأولى: التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، والتي عقدت صفقة مع المشروع المعادي يتلخص دورها في هذه الصفقة بأن تقدم سورية كقطعة حلوى له على طبق من ذهب مقابل أن يقبلها في محفل رأس المال الإجرامي العالمي. وقد توغلت هذه الشريحة في مشروعها الخياني إلى أقصى مدى ممكن. عبد الحليم خدام نموذجاً لها.
الشريحة الثانية: لا تختلف عن الشريحة الأولى سوى في الأسلوب، فهي تسعى إلى تقديم سورية كقطعة حلوى ناضجة تحت شعارات: الليبرالية، اقتصاد السوق، بيع القطاع العام أو تأجيره، انسحاب الدولة من دورها الاقتصادي والاجتماعي، الشراكة الأوربية المتوسطية..
• الفساد المتوسط: يختلف بنيوياً مع الفساد الكبير، بل، ويناقضه في مشروعه السياسي. وخطورته السياسية تتجلى في أمرين:
خطر أن يتحول إلى كبير في المراحل التالية ويشكل سنداً أو بديلاً لقوى الفساد الكبير التي خسرت في السنوات القليلة الماضية جزءاً هاماً من مواقعها، نتيجة تناقضها مع المشروع السياسي الوطني ذو البنية التاريخية.
رغبته الجامحة في إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، وبالتالي كبح أية إمكانية للانتقال من سورية الممانعة إلى سورية المقاومة.
• الفساد الصغير: أدعي أنه صنع تصنيعاً من قِبَل الفساد الكبير التاريخي، بهدف شل أية رقابة أو أية عرقلة محتملة من جهاز الدولة الكبير والعريض والذي يشكل نسبة لا يُستهان بها من المجتمع، كما أنه يمكن أن يشكل كابحاً جيداً لكل القوى الخيرة في المجتمع عندما توجد لديها الرغبة في ضرب الفساد الكبير، لتجد القوى الخيرة في المجتمع نفسها في حالة إحباط أمام هذا الإسشراء الهائل للفساد، وبالتالي تحمي قوى الفساد الكبير نفسها به. والكل يعلم أن قوى الفساد الكبير التاريخية اتبعت سياسة إفساد من لم يُفسد بعد و(ما في حدا أحسن من حدا، بس كل واحد على مقاسه)».
موازين القوى الآن..
ومآلات التطور اللاحق:
«نستمر في منهجنا، في الانطلاق من العام إلى الخاص، الذي سيملي علينا تحديد موقع سورية في الخارطة السياسية الإقليمية، ومن نافل القول أن المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة أو ما اصطلح على تسميته مشروع الشرق الأوسط الكبير، يضع سورية في مقدمة أهدافه. ولكي لا ندخل في ترهات صغار السياسيين حول إمكانية عقد صفقة أو عدم عقدها مع المشروع الأمريكي يجب أن نؤكد مجدداً أن المشروع الأمريكي وبسبب الأزمة الخانقة للرأسمالية العالمية لا يستطيع أن يعقد صفقة حتى ولو أراد. لأن معنى وجود صفقة يفترض تبادل شيء بشيء، والأمريكان يريدون أخذ كل شيء وعدم إعطاء أي شيء ( إنهم يريدون أحد أمرين: أما أن يقتلونا وأما أن ننتحر)، هذه هي خياراتهم الموضوعة أمام سورية، وبالمجمل: فإن جوهر المشروع الأمريكي الصهيوني نراه ماثلاً أمامنا اليوم في العراق.. العراق اليوم هو النموذج الأمثل لمشروع الشرق الأوسط الجديد. وهذا الأمر يفترض بطبيعة الحال وجود مقاومة مستميتة من كل القوى الخيرة في سورية، فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن البنية الأساسية لصناعة القرار السياسي في سورية تتسم بخصائص تاريخية لا تسمح لها بحال من الأحوال أن تنتحر؛ فإنه يبقى الخيار الوحيد أمام سورية هو المقاومة الشاملة الذي سيؤول إلى نتيجتين لا ثالث لهما: إما خيار يوسف العظمة بالاستشهاد، وإما خيار المقاومة اللبنانية في تموز 2006 الذي حقق انتصاراً مدوياً. والمنطق يقول لكل عاقل: إن الخيار الثاني هو الأمثل بالنتيجة النهائية للأوطان، وإن إمكانياته كبيرة، وكبيرة جداً، فيما لو تم حسم الترددات القاتلة»..
«الفيروس – الايدز - الوحيد القاتل لخيار المقاومة الشاملة المقترنة بالانتصار هو الفساد الكبير بمشروعه الليبرالي الجديد. هذا المشروع الليبرالي الجديد ما زال يكبر ويترعرع بسبب التردد الدائم في حسم الموقف منه واستئصاله»..
«وأمام القوى الخيرة في المجتمع، طريقتين لضربه: إما بتشديد النضال ضده وتعريته واستئصاله وبذلك يتم توجيه ضربة قوية لمشروع الشرق الأوسط الكبير وممثليه في الداخل، فإن لم تستطع القوى الخيرة فعل ذلك، فإن ازدياد شراسة هذا المشروع، وتحكم آجال زمنية محددة به، ستجبره على شن حرب واسعة النطاق ضد سورية، لتندمج حينها مهامنا الوطنية بالمهام الاقتصادية الاجتماعية.. وستشكل هذه الحرب مطهراً يزيل كل الفيروسات والجراثيم التي علقت بجسم الوطن»...
«وما تزال، وللأسف الشديد، القوى الخيرة في المجتمع السوري مشتتة ومبعثرة بسبب ضبابية الرؤيا، بينما وصل المشروع الليبرالي الجديد إلى أرقى مستوى له في تنظيم نفسه وتوزيع الأدوار بين قواه، بل يستفيد إلى الحد الأقصى من الضغوط الخارجية ومن خبراء رأس المال الإجرامي العالمي... من هنا أرى: أن أهم خطوة يمكن أن تخطوها القوى الخيرة في المجتمع، هي أن تشكل ائتلافاً فيما بينها على قاعدة برنامج وطني، اقتصادي – اجتماعي، ديمقراطي ضد الليبرالية الجديدة الممثل الشرعي والوحيد لمشروع الشرق الأوسط الكبير في سورية..».