لننكر، ولكن ...
بعد سقوط بغداد دأبت الصحف الوطنية على الحديث، في كل عدد، وأحياناً عدة مرات في العدد الواحد، عن كذب ادعاءات بوش بخصوص أسلحة الدمار الشامل في العراق؛ فالقوات الأمريكية لم تجد شيئاً منها بعد الاحتلال. الإلحاح على كذب الادعاءات يرسخ في الذهن أن الحرب كانت مشروعة في حال وجود هذه الأسلحة. وكان أحلى بهذه الصحف أن تركز على عدم اختصاص أمريكا وعلى انتقائيتها وعدوانيتها.
وكتكملة لـ«كذب» بوش أتت «اتهاماته» لسورية بامتلاك أسلحة الدمار الشامل؛ فسورية «متهمة» ولا تملك أسلحة دمار شامل. هذا الموقف الدفاعي ينطوي على إنكار حق يجب إبرازه، هو حق سورية في امتلاك أسلحة، سبقتها إلى امتلاكها، إسرائيل المعادية لها والتي قامت على العدوان.
الإلحاح على الشكوى من «اتهام» بوش لسورية يجعل لحربه عليها مشروعية في حال امتلاكها هذه الأسلحة. على الأقل يجعل العمل الاستخباري من المفتشين «الدوليين» مشروعاً.
هكذا كانت حال صحفنا ذات النزعة الوطنية الصريحة، لذلك تكرر الأمر نفسه مع إيران، لكن على نحو أكثر قبحاً، ذلك لأن الشباطية المدعمة بالعصبيات المختلفة فعلت فعلها في تغطية الصراع بين إيران والدول الاستعمارية حول حق إيران في امتلاك الطاقة النووية السلمية والعسكرية؛ لم تتم الإشارة، إلا ما ندر، إلى أن مجموعة من الدول التي تتحكم بمصير العالم هي التي فوضت نفسها بالتفاوض مع إيران وبتهديدها والضغط عليها، وأن كل هذه الدول عدا ألمانيا تمتلك الطاقة النووية العسكرية، وأن إحداها هي الوحيدة التي استعملت السلاح الذري سابقاً وتستعمل اليوم مع آخرين اليورانيوم المنضب في قذائفها، وأن إحداها وهي فرنسا هددت باستعماله ضد الإرهابيين في الوقت الذي كانت تعترض على الطاقة النووية السلمية الإيرانية!.
إلا ما ندر، لم يبد أحد، خاصة الديمقراطيين ودعاة حقوق الإنسان والقيم العالمية، أية غيرة على المنظمات الدولية؛ لم يدافعوا عن مطلب إيران العادل بتحويل الملف إلى وكالة الطاقة الذرية؛ لم يدعوا لإصلاح المنظمات الدولية، خاصة بعد أن تحولت إلى مسخرة المساخر على يد هذه الدول بالذات..
الآن عادت أمريكا للضغط على سورية من هذه الناحية؛ عادت أمريكا إلى «الاتهام»، وعدنا إلى إنكار «التهمة»، والتهمة لاتكون إلا بفعل مشين. الجهات الرسمية لاتنكر إنكار إيران أو كما يجب أن يكون الإنكار؛ فهي لاتنكر تأكيداً لالتزامها بتوقيعها على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية، أو تأكيداً لالتزامها الأخلاقي بعدم السعي لامتلاك هذه الأسلحة الهمجية المخالفة للقانون الدولي باعتبارها أسلحة قتل جماعي للمدنيين؛ يأتي ردها وكأنها تنكر حقها في امتلاك هذه الأسلحة وتقر بشرعية ازدواجية المعايير وباختصاص بعض الدول العدوانية في المنع أو الترخيص.
غداً قد يُضغط على سورية من أجل فتح جميع مواقعها العسكرية وغير العسكرية أمام مفتشين جواسيس، وهي الدولة التي تنفق على التسلح على حساب رفاهية شعبها لأن دولة عدوانية عنصرية إجلائية استيطانية تربض على حدودها، وقد يكون التفتيش عملاً استخبارياً ممهداً لضربة عسكرية من أمريكا أو من إسرائيل، فهل يجب أن ترضخ وتستقبل الجواسيس؟!
قبل تحويل هذه الأسلحة إلى معمل الصهر، أو قبل صهرها بالقصف المعادي يجب استهلاكها فيما وجدت من أجله.
هذا القرار ليس بيد صناع الرأي، لكن بيدهم استعادة الوعي والفطرة السليمة؛ بيدهم أن يصفوا خطابهم فلا يركزون على إنكار «التهمة»، وإن أنكروا فبطريقة لا تشل إرادة الناس في المقاومة ولا تهيئ النفوس لتقبل عمل عدواني؛ بيدهم أن يرصدوا جيداً ما سيصدر عن الشباطيين؛ فهؤلاء سيهيئون التربة لعمل المفتشين مثلما هيؤوها لعمل ميلس وبديله؛ سيقولون إن السلطة، وحسب مصلحتها الخاصة بعيداً عن المصالح الوطنية العليا للشعب والوطن، تواصل انتهاج سياسة حافة الهاوية مع لجنة التحقيق الدولية وقرارات مجلس الأمن. مما يضع سورية في مواجهة المجتمع والشرعية الدوليين، ويعرضها لاحتمالات عقوبات وحصار، يزيدان في إضعاف الوطن ومعاناة الشعب؛ بيدهم التصريح بأن ستين عاماً من الهروب لم تنجنا، بل زادت ظروف الصراع قسوة، إذ هيأت التربة للشباطية بما تحمله من مشروع فتنة داخلية، وهدرت ماسبق من خسائر دون أن تعفينا من ثمن التحرير واجب الدفع، بل زادته فداحة.
أن ننكر نعم، لكن مع تأكيد الحق، ودون القبول بازدواجية المعايير، ودون أن نمنح البلطجي الأمريكي الحق بفرض قوانينه.