قمة مجموعة العشرين: تمويه على الخلافات الأمريكية - الأوروبية
أخفقت قمة مجموعة العشرين التي اختتمت يوم الخميس 9/4/2009 في تبني مطالب رئيسية لكلٍ من بريطانيا والولايات المتحدة، اللتين قدمتا إلى اجتماع لندن مدافعتين عن منشط مالي عالمي منسق، وكتلةٍ أوروبيةٍ تقودها ألمانيا وفرنسا، اللتان دعتا إلى تنظيمٍ دولي للمؤسسات المالية الرئيسية.
عوضاً عن ذلك، أخفى الجانبان خلافاتهما ببيانٍ من تسع صفحات، يتضمن في معظمه عباراتٍ طنّانة من قبيل التأكيد على أنّ جميع رؤساء الدول المجتمعين «اتفقوا على استحسان إجماعٍ عالميٍّ جديد يتعلّق بقيمٍ ومبادئ رئيسية ستروّج لنشاطٍ اقتصاديٍّ مستدام».
كما ورد في البيان تأكيدٌ ـ رددت صداه فعلياً وسائل الإعلام كافةً ـ على أنّ القمّة اتفقت على «برنامجٍ إضافي بقيمة 1.1 ألف مليار دولار لدعم إعادة الائتمان والنمو وفرص العمل في الاقتصاد العالمي».
وعود خلبية
نقلت الفايننشال تايمز الصادرة في لندن واحداً من بضعة تقارير عالجت هذا التعهد بالتشكيك الذي يستحقه. «كان فشل قمة مجموعة العشرين بالغ الإيلام لزعماء العالم ليمعنوا النظر، واختتم رئيس وزراء بريطانيا غوردون براون اللقاء بسيلٍ من أرقامٍ ضخمةٍ ليموّه على حقيقة أنّ الزعماء لم يتفقوا على منشطٍ مالي جديد، مثلما أراد السيد أوباما والسيد براون».
كما لاحظت الصحيفة أنّ «معظم مبلغ 1.1 ألف مليار دولار الذي تمّ الوعد بتقديمه لمساعدة العالم على التعافي من الركود يتمثّل في التزاماتٍ وتعهداتٍ موجودةٍ أو عن وعودٍ لم تتجسّد بعد».
زعم البيان أنّ الحكومات المحتشدة في لندن ستعزز الموارد المالية لصندوق النقد الدولي بـ500 مليار دولار لمساعدة ما يطلق عليه تسمية البلدان «الناشئة». ووفق تقارير أولية، ليس واضحاً على الإطلاق مصدر هذه الأموال.
يقال إنّ اليابان تعهدت بتقديم 100 مليار دولار؛ والاتحاد الأوروبي 100 مليار دولار؛ والصين نحو 40 مليار دولار. في مؤتمره الصحفي الذي أعقب القمة، لم يقدم الرئيس الأمريكي باراك أوباما أية مؤشرات على أنّ واشنطن تخطط لتقديم مبالغ مالية مماثلة، مشيراً بدل ذلك أنّه خطط ليطلب من الكونغرس الموافقة على مبلغٍ ضئيلٍ مقداره 448 مليون دولار لمساعدة «السكان الأكثر ضعفاً من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية».
تعرف الشعوب المضطهدة من التجارب المريرة أنّ تعهداتٍ كهذه لا تتحقق غالباً، فقد أبلغ جين بينغ رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي هيئة الإذاعة البريطانية أثناء انعقاد القمة بأنّه قد يرفع مطلباً ببيع احتياطيات صندوق النقد الدولي من الذهب لتأمين النقود لإفريقيا. «لا نطلب من البلدان أنّ تدسّ أياديها في جيوبها وتقدم لنا المال لأنهم قدموا العهود، ثم لم يفعلوا شيئاً»..
في واحدةٍ من بضع نقاطٍ في اتفاق مجموعة العشرين، قررت السماح لصندوق النقد الدولي بخلق 250 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة، عملتها الاصطناعية الخاصة المؤسسة على الدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني. هدف ذلك تعزيز احتياطيات البلدان من العملات الأجنبية، ولو أنّ حصة الأسد ستذهب إلى الأمم الأكثر ثراءً.
في تلخيصٍ للاتفاق، قال رئيس الوزراء البريطاني براون إنّ الحكومات اتفقت على أن ينفق صندوق النقد الدولي مبلغ 250 مليار دولار إضافية خلال العامين القادمين كجهدٍ لمواجهة انهيار التجارة العالمية. وكما لاحظت صحيفة فايننشال تايمز، «كانت مساهمات بلدان مجموعة العشرين الفورية تتراوح بين 3 و4 مليار دولار فقط، كما ينصّ عليه ملحق للبيان».
حتى لو كانت حزمة الـ1.1 ألف مليار دولار الهائلة حقيقية ـ وهي ليست كذلك ـ فستعادل وضع ضمادةٍ لاصقة على جرحٍ فاغرٍ في الصدر. خلال السنوات الماضية، كان انهيار أسواق الأسهم الدولية وتهاوي أسعار السلع وانهيار قيم الموجودات الحقيقية قد محا أثر ما يقدّر بـ50 ألف مليار دولار من الثروة. علاوةً على ذلك، أنفقت حكومة الولايات المتحدة ومصرف الاحتياط الفيدرالي وحدهما، كمساعداتٍ أو تعهدات، ما مقداره 12.8 ألف مليار دولار لإنقاذ المصارف الأمريكية دون أي أثرٍ ملموسٍ على وقف المدّ المتصاعد من فقدان الوظائف..
كلاب حراسة دون أنياب
سلّط براون الضوء على نقاطٍ أخرى في اتفاق مجموعة العشرين، وهي مرةً أخرى ظاهريةٌ أكثر مما هي حقيقية.
أحد المقاييس التي تبرز فشل الحكومتين الألمانية والفرنسية في تحقيق هدفهما في وضع قيودٍ دوليةٍ على المؤسسات المالية يتمثّل في تحويل منتدى الأمن المالي القائم إلى مجلس الاستقرار المالي. التغيير الرئيس، بعيداً عن تغيير الاسم، سيكون إضافة أعضاء إلى مجموعة العشرين لم يكونوا موجودين فيها سابقاً، ومن ضمنهم الصين والهند والبرازيل. ومع ذلك، ستبقى هذه الهيئة كلب حراسةٍ دون أنياب، ولا تملك قدرة فرض عقوباتٍ على المصارف الخاصة والبيوتات المالية التي تعرّض بتصرفاتها الاقتصاد العالمي للمخاطر.
في الواقع، رفضت الولايات المتحدة فرض أية قيودٍ دوليةٍ على نظامها المصرفي. وبدل ذلك، أعلن بيان مجموعة العشرين ما يلي: «اتفقنا جميعاً على ضمان أن تكون أنظمة الرقابة المحلية لدينا قوية».
جدّد زعماء المجموعة كذلك تعهداً مقدساٌ بعدم استخدام الحمائية. وفق البنك الدولي، قام 17 من أعضاء المجموعة بتبني معايير حمائية جديدة منذ آخر مرةٍ أقسموا فيها على ذلك، أي منذ تشرين الثاني الماضي.
وقد ذكرت وسائل الإعلام على نطاقٍ واسعٍ بأنّ الزعماء المجتمعين قد اتفقوا على خطواتٍ «صارمة» في مواجهة المستويات الفاحشة لرواتب المصرفيين ومكافآتهم. فقد ذكرت صحيفة ديلي تيليغراف البريطانية يوم اختتام القمة أنّه تمّ التوصّل إلى اتفاقٍ «ضمان تناسب هياكل التعويضات للشركات مع الأهداف البعيدة المدى والمخاطرة الحذرة».
في مؤتمرٍ صحفي أعقب القمة، أوضح الرئيس أوباما أنّه ما من نيةٍ لتنفيذ معايير دولية تضع حدوداً لمئات ملايين الدولارات التي يجنيها المديرون التنفيذيون في وول ستريت: «هذا لا يعني أنّ تدير الدولة ذلك رسمياً، لا يعني أن تملي الدولة سلالم الرواتب. نحن نؤمن بنظام حرية السوق، وأظنّ أنّ الناس يتفهّمون ذلك في الولايات المتحدة على الأقل، لا يستاء الناس من الثراء، فهم يرغبون في أن يصبحوا أغنياء، وهو أمرٌ حسن».
كان أوباما وبراون هما من وضعا المطالب الطموحة لقمة لندن. فقد دعاها أوباما بأنها «انعطافةٌ في سعينا لجعل الاقتصاد العالمي يسترد عافيته»، ومن جانبه، أكّد براون أنّ لقاء مجموعة العشرين يدلّ على أنّ نظاماً عالمياً جديداً ينبثق، أساسه حقبة جديدةٌ من التقدّم والتعاون الدولي.
هذا كله هراء. فحتى أثناء انعقاد القمة، كان تصاعد مستويات البطالة واضحاً. فقد أُعلن في الولايات المتحدة أنّ 742 ألف وظيفة أخرى قد ألغيت في الشهر المنصرم. وفي إسبانيا، أعلن وزير العمل أنّ معدل البطالة تجاوز 15.5 بالمائة، وهو الأسوأ في أوروبا، ما يعني بطالة 3.6 مليون عامل إسباني. وفي بريطانيا نفسها، موقع انعقاد القمة، تمّ الإعلان عن جولاتٍ جديدةٍ من التسريح داخل شركتين هما عملاق التأمين نورويتش يونيون، وصانع الطائرات بومبارديه، تسببت بإلغاء 2500 وظيفة.
تداعيات الزلزال مستمرة
سيتواصل هذا التدمير العالمي للوظائف ويشتد، مهدداً مئات الملايين من البشر بالفقر والجوع. تنبّأ البنك الدولي بانكماش الاقتصاد العالمي بمعدل 1.7 بالمائة. كما أبلغ رئيس البنك الدولي روبرت زيليك هيئة الإذاعة البريطانية: «لم نر أرقاماً كهذه منذ الحرب العالمية الثانية ـ وهذا يعني فعلياً منذ الكساد العظيم». ثمّ حذّر قائلاً: «نعتقد أنّ هذا النمو المنخفض سيؤدي لوفياتٍ بين الأطفال في هذا العام تتراوح بين 200 و400 ألف. هكذا سيكون التأثير العام مأساوياً».
أما الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، فقد كان أكثر وضوحاً في التفاصيل التي ذكرها حول مدى الأزمة الراهنة ومفاعيلها، حيث ذكر للغارديان: «نشهد سرعةً مرعبةً في التغير. ما بدأ بوصفه أزمةً ماليةً أصبح أزمةً اقتصاديةً عالمية. أخشى أنّ القادم أسوأ: اندلاع أزماتٍ سياسيةٍ شاملة تتميّز بتنامي الاضطرابات الاجتماعية وضعف الحكومات وتفاقم غضب الرأي العام الذي فقد الإيمان بقادته وبمستقبله». وتابع: «في أزمنة الرخاء، يتم التطور الاجتماعي والاقتصادي ببطء، أما في الأزمنة الصعبة، فتتداعى الأمور وينبغي أن نقلق لذلك.. المسافة قصيرةٌ بين الجوع والمجاعة، بين المرض والموت، بين السلم والاستقرار وبين الصراعات والحروب التي تتجاوز الحدود وتؤثر فينا جميعاً، سواءٌ أكنا قريبين أم بعيدين. وإن لم نتمكن من تحقيق معافاةٍ على المستوى العالمي، سنواجه كارثةً في تطور البشرية».
أما بصدد الزعم المتكرر أنّ القمة أشارت إلى انبثاق «نظامٍ عالمي جديد» قائمٍ على التعاون الدولي، فهي لم تفعل في الواقع إلا التأكيد على انهيار النظام العالمي القديم الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية، القائم على التفوق المالي والاقتصادي غير المنازع لرأسمالية الولايات المتحدة، وعلى نظامٍ نقدي عالمي قائمٍ على الدولار.
تعدّ الولايات المتحدة اليوم، والتي كانت في الماضي محرّك الاقتصاد العالمي، أولى الأمم المدينة في العالم، وستصبح أزمتها المالية، حصيلة عقودٍ من تدهور قواها المنتجة وتبني أشكالٍ من المضاربة أكثر طفيليةً وإجراماً، محرك كسادٍ عالميٍّ يزداد عمقاً.
كان أوباما سيتعرّض لمزيدٍ من الذلّ لولا وجود الصين..
تهديد متعاظم للدولار
في تعليق جيوف ديير على اللقاء الذي سبق القمة وجمع أوباما مع الرئيس هو جينتاو، حيث أعلنت الصين موافقتها على تقديم الأموال لصندوق النقد الدولي، كتب أنّ النقاش بصدد ظهور مجموعة الاثنين «يعكس واقعاً أنّه في ظلّ تنامي القضايا الدولية، لن يحدث الكثير من غير اتفاق الولايات المتحدة والصين»..
كما لاحظ أنّ الصين أطلقت هي أيضاً سلسلةً من المبادرات «تظهر بوضوحٍ رغبتها في التحرك إلى مقدمة الحلبة»، ومن ضمنها مطالبة رئيس البنك المركزي الصيني زهو كسياتشاون بـ«الاستبدال النهائي للدولار الأمريكي بوصفه عملة احتياط عالمية». وقد اقترحت الصين إحلال حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي محلّ الدولار.
مثل هذا التحدي المفتوح لسيادة الدولار العالمية ودوره كعملة احتياطية يهدد قابلية استمرار الاقتصاد الأمريكي الذي يعتمد كلياً على شراء الأمم الأخرى للدولار لتسديد ديونها. كما أنّ روسيا شهدت المطلب نفسه، عبر إلحاح فلاديمير بوتين رئيس الوزراء والرئيس ديمتري ميدفيديف على قبول الروبل كعملة احتياط إقليمية وإيجاد عملة احتياط عالمية جديدة تصدرها المؤسسات المالية الدولية.
عن القمة، قال الرئيس أوباما إنّ الذين ركزوا على الاختلافات والصراعات الرئيسية بين شتى الأطراف «خلطوا بين النقاش المفتوح والصريح وبين خلافاتٍ غير قابلة للحلّ».
كانت الخصومات بين الإمبرياليات ظاهرةً خلال القمة، واشتدادها هو أمرٌ محتمٌ طالما تزداد الأزمة الاقتصادية سوءاً. بعيداً عن طرح برنامجٍ عالمي منسّقٍ لإنقاذ الرأسمالية العالمية، عبّرت قمة لندن عن التناقض الحتمي بين اقتصادٍ مندمجٍ عالمياً وبين نظام الدول الأمم، واستحالة تبني الدول الأمم المتنافسة مقاربةً دوليةً حقاً للأزمة. في الختام، لن تكون قمة لندن 2009 ومسكناتها المتنوعة أفضل من قمة لندن في العام 1933، أي نقطة علاّمٍ أخرى في الانهيار العالمي للرأسمالية.
- أمريكا
- أوروبا
- بريطانيا
- الولايات المتحدة الأمريكية
- لندن
- ألمانيا
- فرنسا
- النمو
- الدولار
- الكونغرس الأمريكي
- الكونغرس الأمريكي
- الصين
- اليورو
- صندوق النقد الدولي
- رئيس الوزراء
- الاحتياطي النقدي
- وول ستريت
- الحرب العالمية الثانية
- الرأسمالية العالمية
- الرأسمالية
- اقتصاد
- أوباما
- المصرف المركزي
- البنك المركزي الأمريكي
- البنك الدولي
- روسيا