غوردون جي تشانغ* / ترجمة وإعداد قاسيون غوردون جي تشانغ* / ترجمة وإعداد قاسيون

الصين تغَِّر نموذجَها الاقتصادي.. عودة تدريجية إلى «الدور التدخلي للدولة»..

بعد شهرين من صراعها مع الحكومة الصينية، وسط متابعة حقيقية من وسائل الإعلام، تخلت شركة غوغل عن عملها الرئيسي في دولةٍ تعد الأكبر في عدد السكان. ففي 22 آذار الماضي، أعلنت ماونتن فيو، وهي شركة يقع مقرها في كاليفورنيا، أنها توقفت عن مراقبة نتائج البحث في أكبر بلدان العالم من حيث عدد السكان، ومن الآن فصاعداً سيوجّه المستخدمون، كما نشرت في مدونتها الرسمية، أنظارهم إلى أحد مواقعها باللغة الصينية في منطقة هونغ كونغ ذات الحكم الذاتي الخاص.

التشدد مع الشركات الأجنبية

تساءل المحللون ما إذا كانت شركات أخرى ستتبع التحدي الذي واجهت به غوغل إجراءات بكين المتشددة وتنسحب من الصين. في 24 آذار، أعلنت شركة غو دادي، أكبر شركات تسجيل أسماء النطاقات في العالم، أنها لن تقوم بتسجيل عناوين الشبكة في الصين بسبب المتطلبات الجديدة المتشددة لإثبات الهوية الشخصية. كما أوقفت غو دادي، الشركة المنافسة في حلول الشبكات، قبول الشركات الصينية في كانون الأول 2009 للسبب نفسه.

تستدعي هذه الحوادث سؤالاً: هل مضت بكين بعيداً في تشددها مع الشركات الأجنبية؟ تقدم غوغل نفسها دراسة حالةٍ مدهشة: «أخرج أكبر محركات البحث من البلاد مع غالبية مستخدمي الإنترنت». مع ذلك، هنالك قوىً واسعةٌ في الميدان. ففي حين تطور بكين نموذجاً جديداً للتطور الاقتصادي، تعيد الشركات الأجنبية تقييم السوق الاستهلاكية الأكثر جذباً على سطح الكوكب، وتعيد النظر في إمكانات الصين.

تغلغلت السياسات الاقتصادية للزعيم الصيني الراحل دينغ كسياو بنغ بالشعار الرسمي، (إصلاح وانفتاح)، وكانت نتائجها استثمارات ضخمة، وخصوصاً لرأس المال الأجنبي. فقد بدأ خليفة ماو أولاً بتفكيك الاقتصاد الماوي الموجه، ثم قام بفتح الأسواق الصينية أمام المنافسين الأجانب.

خلال الفترة التي أطلقت عليها تسمية «عهد الإصلاح»، والتي بدأت عموماً في كانون الأول 1978 وتواصلت حتى اليوم، ازداد الناتج المحلي الإجمالي بمعدل سنوي يعادل 9.9 بالمائة وفق الإحصاءات الرسمية (بغض النظر عن حصص توزعه)، التي ربما تبخس مدى التوسع بسبب نقص البيانات في مختلف القطاعات.

مع ذلك، فربما يكون الاسم الذي أطلق على هذه المرحلة غير دقيق، فالحزب لم يقم بإصلاح الصين، بل صادق على التغيرات التي قام بها مئات ملايين الفلاحين وعمال المصانع والمقاولين. من وجهة نظر دينغ، كانت الصين بحاجة لرأس المال والتقانة والخبرة الأجنبية، فعبّد الدرب لدخولها بإجازة الانفتاح المؤقت، وحالما دخل الأجانب، سمح بإزالة الحواجز تدريجياً حين اندفع عشرات آلاف المديرين والموظفين لتخفيف القواعد التي تقيدهم.

حدثت دينامية التغيير نفسها خلال ولاية خليفة دينغ، جيانغ زيمين، ورئيس الوزراء الواقعي زو رونغ جي. ومع أنّ «الإصلاح» بدأ بالتباطؤ خلال سنوات الجيل الرابع من القيادة، بزعامة هو جينتاو ووين جياباو، فقد تابع الاثنان منذ ارتقائهما في تشرين الثاني 2002 مبادرتين واسعتين للعودة إلى إصلاح دينغ وانفتاحه.

أولاً، سعيا إلى إعادة تأميم الاقتصاد. ففي النصف الثاني من هذا العقد، بدأت بكين باستخدام الفوائد على المستوى الوطني، مثل صندوق الأمن الاجتماعي الوطني ومؤسسة الاستثمار الصيني (صندوق الثروة السيادي)، لشراء حصصٍ من المصارف والمشاريع المخصخصة جزئياً. كان هدف هذه المناورة زيادة نسبة حصة الحكومة. 

التأميم مجدداً

اكتسبت إعادة التأميم زخماً بعد خطة تنشيط قيمتها 586 مليار دولار أعلنها مجلس الدولة في تشرين الثاني 2008. وفي العام 2009، عام الخطة الأول، ضخت بكين، على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، حوالي 1100 مليار دولار في الاقتصاد وفقاً لحسابات المؤلف.

أدى برنامج بكين للتنشيط المالي إلى اقتصادٍ حكوميٍ أكبر واقتصادٍ خاصٍ أصغر. فنحو 95 بالمائة من النمو الحالي يعزى للاستثمار، وغالبيته من مصادر حكومية (وكالة كسينهوا للأنباء)، فضلاً عن أنّ استثمار الحكومة يتوجه إلى القطاع العام بطبيعة الحال.

تفضل خطة التنشيط الحكومية مشاريع الدولة الكبيرة على شركات القطاع الخاص الصغيرة والمتوسطة، كما حولت المؤسسات المالية الحكومية اعتمادات إلى البنى التحتية التي تشرف عليها الدولة. ومثلما يقولون، «الحزب هو الآن الاقتصاد». يواصل التنشيط، على الرغم من انخفاضه هذا العام كما يبدو، توسيع هيمنة القطاع الحكومي (صحيفة ساوث تشاينا مورننغ بوست).

لا يقوض هذا التحول المتواصل المشاريع الخاصة المحلية فحسب، بل يسبب الضرر كذلك للشركات الأجنبية، مقلصاً فرصها، ومع ذلك، فإعادة التأميم هي دون شك عائقٌ أساسي في وجه المنافسين غير الصينيين.

المبادرة الثانية لـ«وين» هي استخدام القوانين النافذة لمنع دخول هذه الشركات إلى السوق المحلية، فمنذ أواسط العام 2006، تبنت بكين، عبر إصدار الكثير من القرارات والتعليمات، موقفاً عدائياً لا لبس فيه تجاه الشركات الأجنبية عابرة القومية.

صدرت النواظم ذات الصلة في شهر آب من ذلك العام، مجيزةً لوزارة التجارة منع الأجانب من التملك. لم تتردد بكين التي خشيت من «فقدان السيادة الاقتصادية»، والتي تتضمن من وجهة نظرها فقدان السيطرة على الشركات الكبيرة، في مجابهة عمليات التملك التي تقوم بها الشركات عابرة القومية. في نهاية العام 2007، على سبيل المثال، منعت مايكروسوفت من شراء حصةٍ في شركة سيشوان تشانغ هونغ إلكتريك، أحد مصنعي أجهزة التلفاز، ظاهرياً بسبب مخاوف بكين من كون سعر الشراء بالغ الصغر.

كذلك، أوقفت السلطات المركزية صفقتين مع غولدمان ساكس في العام 2007. يظن أنّ القلق من الاستثمار كان بسبب سهولة التفاوض على صفقة لشراء حصص في شركتي ميديا إلكتريك أبيليانس ومجموعة فوياو.

أما كارليل، وهي مجموعة استثمار أمريكية، فقد وافقت على شراء 85 بالمائة من شركة كسو غونغ كونستراكشن ماشينري الحكومية، ثم خفضت الحصة المقترحة إلى 50 بالمائة، ثم إلى 45 بالمائة. ألغت وزارة التجارة في نهاية المطاف الاتفاق، الموقع أصلاً في العام 2005، من خلال التعطيل والتأجيل، بين وسائل أخرى، (تشاينا ديلي). استسلمت كارليل في نهاية المطاف في العام 2008. 

مكافحة الاحتكار

ما يثير الانتباه أكثر، استخدام الصين لقانونها الخاص بمكافحة الاحتكار، المطبق في العام 2008، لأول مرةٍ حين رفضت عرض شركة كوكا كولا بتملك شركة العصائر الصينية الرائدة. قالت وزارة الخارجية في آذار 2009 إنّ عرض الاندماج المقدر بـ2.4 مليار دولار مع مجموعة هوي يوان للعصائر قد ينتهي بزيادة الأسعار والتسبب بإفلاس صغار المنتجين. ثبت أنّ الإجراء الحكومي، الذي عدّ «معلماً»، هو قرارٌ موضع تساؤل عن الاستراتيجيات اللاحقة.

سيطرت هوي يوان في هونغ كونغ على أقل من عشر سوق العصائر الصينية البالغ 2 مليار دولار، وكانت حصة كوكا كولا 9.7 بالمائة. على أية حال، لم تقدم وزارة التجارة أي شيءٍ في توصيفها أو عرضها للأسباب. مع ذلك، تكمن السخرية في أنّ بكين حمت كوكا كولا من أن تدفع أكثر مما يجب لقاء هوي يوان. حقيقة أنّ المسؤولين الصينيين أوقفوا استيلاء شركة أجنبية على مشروع عادي في صناعة غير حساسة بالرغم من رغبتها في دفع سعر مبالغٍ فيه هي إشارة على وجود تبدل أساسي في الوجهة.

تنكر الحكومة الصينية، بطبيعة الحال، وجود أي تغير في سياستها. مع أنه لا خلاف في أنّ بكين، منذ ثلاثة عقود، تعهدت بجذب رأس المال الأجنبي، إلاّ أنها غيرت موقفها الآن على ما يبدو. ما يوحي به الاتجاه الجديد أنّ الأجانب استولوا على حصصٍ «مفرطة» من السوق ويملكون المزيد من التقانة. كذلك هنالك خوفٌ من الاعتماد على الاستثمار الأجنبي المباشر.

علاوةً على ذلك، فطموحات الصين في الوقت الحاضر أكبر بكثير. تحاول الصين بناء «أبطال وطنيين»، وتريد لخمسين من أكبر شركات العالم التي تعدّ خمسمائة أن تكون صينيةً في غضون العقد القادم. باختصار، يريد الصينيون أن يحتفظوا بسوقهم المتوسعة لأنفسهم.

هكذا، ومن بين عوامل أخرى، يشجع برنامج هو جينتاو لـ«اعتماد الإنتاج المبتكر المحلي» الذي يتطلب، للحصول على تفويض بالبيع للحكومات في الصين، امتلاك التقانة الأجنبية والعلامات التجارية بوساطة المشاريع المحلية. هذه المحاولة للحصول على حقوق الملكية أثارت بشكلٍ طبيعي جدالاً مع الشركات والحكومات الأجنبية، وغالباً رفضاً شاملاً. في هذا المناخ، ما من عجبٍ في أنّ المسح الأخير الصادر عن غرفة التجارة الأمريكية في الصين يظهر معدلاً متزايداً للشركات ـ 38 بالمائة حالياً ـ التي تشعر بأنها غير مرحب بها في البلد.

تشعر غوغل بالتأكيد أنها غير مرحب بها. ما من شكٍ في أنه يتم النظر إليها بوصفها كبيرةً جداً، وأجنبيةً جداً، وناجحةً جداً، وبالتالي فالسلطات المركزية تشعر أنها ملزمةٌ بتقويض أعمالها. في مدخل 12 كانون الثاني لمدونة الشركة الرسمية، أعلنت أنها لن تقوم بعد الآن بفلترة عمليات البحث الصينية. مع ذلك، فالنزاع، أياً كان شكله، أكبر من مجرد كفاحٍ ضد رقابة الحكومة. في البيان، صرّح محرك البحث أنه اكتشف في أواسط كانون الأول «هجوماً معقداً يستهدف البنية المشتركة لنا [غوغل] مصدره الصين نتج عنه سطوٌ على حقوق الملكية من غوغل». وفقاً للبيان، فقد هوجمت عشرون شركةً أخرى على الأقل. في حالة غوغل، استهدفت الهجمات حسابات البريد الإلكتروني لنشطاء حقوق الإنسان في الصين والولايات المتحدة وأوروبا وشيفرة الشركة الأصلية.

بوساطة هذه الشيفرة، يستطيع المتطفلون اختراق محرك البحث بسهولة، وبسبب «سور الحماية العظيم»، أحد الأسماء الأخرى لرقابة بكين المتشددة على الإنترنت، لا تستطيع أية مجموعة من الهاكرز تنفيذ هجماتٍ منسقة دون دعمٍ رسمي أو موافقة ضمنية. علاوةً على ذلك، فما من منظمة في الصين، خارج الحكومة المركزية والحزب الشيوعي والجيش، لديها الموارد للإبقاء على جهود مشتركة وواسعة النطاق. 

هل هناك عودة إلى دور كبير للدولة؟

لذلك، فالنتيجة التي لا مفر منها أنّه إذا كانت الهجمات على شبكة غوغل قد نشأت في الصين، فمن يقف وراءها هي دولة الحزب الواحد الصينية. «الحقيقة أنّ كل شخصٍ في حكومة الولايات المتحدة ينظر إلى الهجمات على الإنترنت يعترف على نحوٍ شخصي أنها بينات: فمصدر الهجمات هو الحكومة الصينية، وليس أفراداً»، هذا ما قاله جون تاسيك، المختص بشؤون الاستخبارات الصينية السابق في وزارة الخارجية ومؤلف كتاب تنانين طروادة، وهو مسحٌ لعمليات التجسس الصينية على الإنترنت قامت بطبعه مؤسسة هيريتيج فانديشن. في الواقع، تتبعت شركة فيرسانيز إي ديفنس لابر، وهي شركة أمن أمريكية خاصة بالإنترنت، آثار الهجمات على غوغل وصولاً إلى الحكومة الصينية «أو مفوضيها».

بدأت حكومة الولايات المتحدة علناً بمناقشة حملة حرب الإنترنت التي تخوضها الصين، لأنّ غوغل أجبرتها على ذلك. كانت بكين مسؤولةً عن هجمة «تسميم نظام أسماء النطاقات»، الذي أدى لانهيار غوغل عالمياً في حزيران الماضي، كما أنهك الشركة بصورة مستمرة الهاكرز الصينيون منذ وصولها إلى البلد في العام 2006.

ذلك أحد أسباب عدم قدرة غوغل على الإقلاع في الصين، إذ لم تتجاوز حصتها في سوق الصين أكثر من 36 بالمائة قبل انسحابها، متخلفةً عن منافسها المحلي باي دو الذي كانت حصته في ذلك الوقت 58 بالمائة. ربما ارتكبت غوغل غلطةً في دخولها السوق الصينية، لكن باي دو وصلت إلى مكانتها بفضل المساعدة الحاسمة التي قدمتها سلطات الحكومة المركزية.

تعتقد غوغل أنّ بوسعها إنقاذ شركتها هناك. بدأت بكين، كما هو متوقع، بحجب عمليات البحث التي تسلك قناة هونغ كونغ، وما ينذر بالسوء أكثر أنّ المسؤولين الصينيين قاموا بالضغط على شركات الهاتف المحمول الكبيرة التي تمتلكها الدولة ـ تشاينا موبايل ويونيكوم، هما المشغلان الأكبر ـ لقطع صلاتها مع غوغل، التي تريد إطلاق هاتفها الآلي. وكانت الشركة الأمريكية هدفاً لهجماتٍ على نمط الثورة الثقافية في وسائل إعلام الحكومة التي لا تقوم إلاّ بالحديث عن «الإمبريالية المعلوماتية» الأمريكية، و«المؤامرة المتعمدة» لغوغل، والرابط بين الشركة وبين حرب الأفيون. «غوغل ليست الرب، وليست العذراء المقدسة»، كما كتبت صحيفة بيبولز ديلي، كبرى مطبوعات الحزب الشيوعي، بعد إعلان الشركة الأمريكية أنها ستغلق محرك بحثها في الصين.

حتى الآن، نشاهد رداً قاسياً من حكومةٍ غاضبة. حكومة ستمضي إلى أبعد مدىً لتأكيد بقاء السوق الصينية حكراً على المتنافسين الصينيين. تظهر لنا مشكلات غوغل الأخيرة أنّ لدى بكين نموذجاً اقتصادياً جديداً، وهو نموذجٌ ينذر بعودة تدريجية إلى دور كبير للدولة.  

*غوردون جي تشانغ:

معلق في «فوربس دوت كوم»، ومؤلف كتاب «انهيار الصين القادم».