الاغتراب والتموضع.. تفريق ضروري (3/4)

الاغتراب والتموضع.. تفريق ضروري (3/4)

إنّ الفهم الدقيق لتفريق ماركس بين الاغتراب (كتموضع مستَلَب) والتموضع الإنساني، يمكّننا من توجيه نقد علمي للأخطاء النظرية والعملية في هذا المجال، والتي وجدت في تاريخ الحركات الثورية والشيوعية، وازدادت وتعمّقت مع بدء تراجعها منذ ستينيات القرن العشرين.

بين صنمية المال وصنمية الفقر:

العمال وجميع الكادحين هم أصحاب المصلحة الأولى في نفي الواقع اللاإنساني الحالي، في تحويل تجاوز الاغتراب من إمكانية إلى واقع عبر برنامج ثوري للانعتاق الإنساني، إلا أنّه لا يمكن تحقيق هذا الهدف عبر التفرّج على الفقر وهو يتّسع ويتعمّق. فانخفاض المستوى المعيشي للجماهير نتيجة انعدام العدالة في توزيع الثروة لا يعدّ بحد ذاته مقياساً لدرجة حرارة الحالة الثورية الصحيحة في المجتمع، لأنّ هذا المصدر الموضوعي للحرارة إنْ لم يجد الوعي الذاتي الذي  يوجّهه ويقوده نحو إنضاج المجتمع إلى حالة أفضل تحقق مصالح الجماهير الكادحة فإنّه يهدد المجتمع بالاحتراق والفناء.

ليس من الثورية العلميّة في شيء التنظير للتقشف والإنكار العدمي للذات، وتحويل الهدف من الدفاع عن الفقر إلى دعوة إلى الفقر وتمجيده نظرياً، والقيام بممارسات ترسّخه عملياً. فهذه إمّا أنّها دعوة طوباوية تمثل ردة الفعل السلبية الساذجة غير العلمية لبعض الحركات الخارجة من ثنايا الطبقات المستغلَّة أو المتضررة، والتي نجد في التاريخ أمثلة كثيرة عنها، مثل الكلبيين عند الإغريق، والبوذيين الهنود، وحركات الزهد والتقشّف، وصولاً إلى الاشتراكيين الطوباويين..أو أنّها حتّى تتلاقى مع الاقتصاد السياسي البرجوازي الذي وصفه ماركس بأنّه «علم أعاجيب الصناعة وفي الوقت نفسه علم التقشّف، وأمثولته الحقيقية هي البخيل المتقشف ولكن الجشِع، والعبد المتقشِّف ولكن المنتِج... إنكار الذات، إنكار الحياة وجميع الحاجات الإنسانية، مذهبه الأساسي».1 ولا شكّ أنّ كادحي العالَم اليوم، بما فيهم كادحو الشعب السوري، سيفهمون هذا أكثر من أيّ وقت مضى، لأنّهم يشعرون بمرارة المفارقة الكامنة في الدعوات السّخيفة والوقحة إلى «التوفير» وفرض خطط التقشّف في الفتات الذي تُركَ لهم من إنتاجهم المُستَلَب المَنهوب.

 وإذا كان إنكار الذات العدمي شكلاً انسحابياً سلبياً من صنمية الفقر عبر إضافة حرمان ذاتي طوعي إلى جانب الحرمان الموضوعي الاضطراري، فإنّ التدمير العدمي للموضوع أو للذات يؤدي نتيجة مشابهة ويعتبر شكلاً آخر لصنمية الفقر. وبالطبع ليس المقصود هنا القتال والاستشهاد دفاعاً عن الوطن والقضايا الإنسانية العادلة، أو التضحيات النضالية بأشكالها المختلفة كالإضراب عن العمل والطعام، والمقاطعة، الخ.. فجميعها بطولات مشرّفة، وخطوات ضرورية على درب الانعتاق الإنساني. بل المقصود ما نجده مثلاً عند الفوضويين واليسار الطفولي، كالإجرام أو الانتحار المجّاني أو تدمير ما له فوائد إنسانية من وسائل إنتاج أو منتوجات. هذه الأفكار والممارسات وجدت مرتعاً لها ضمن الحركات الثورية عبر العالَم، وخاصة في مرحلة التراجع العام للحركة الثورية العالمية، مما انعكس بشكله الخاص في أوساط الحركات السياسية المحلية، ومن ضمنها الحركة الشيوعية في بلادنا، فانتشرت باسم الماركسية والشيوعية أفكار وممارسات بعيدة عنها كلّ البعد، من قبيل التصوّر الذي مفاده أنّ المرء كي يكون شيوعياً حقيقياً مدافعاً عن الفقراء والكادحين، يجب أن يبقى فقيراً، أو إنْ كان ميسوراً أنْ يصبح مُعدَماً، وكأنّ الخيارين الوحيدين أمامه إمّا الفقر، وإما توزيع حسنات خيرية على الفقراء، هي من إنتاجهم أصلاً، لشراء صمتهم أو صوتهم أو راحة ضمير منافقة بأحسن الأحوال. وبدل الدفاع عن الفقراء والنضال من أجل رفع مستواهم وتحريرهم، يتمّ تمجيد الفقر وتقديسه. وكأنّ الردّ على الانتهازية والأنانية، التي تنقل صاحبها من فقر مغترب إلى غنى مغترب، واللتين تصبّان في صنمية المال، لا يكون إلا باستبدالها بصنمية الفقر! وما هما إلا طرفان في ثنائية وهمية لأنهما وجهان لاغتراب واحد، أولهما يرسّخ التموضع الاغترابي القائم، والثاني يحاول عبثاً التخلّص من كلّ تموضع على العموم احتجاجاً على شكل تاريخي خاصّ ولاإنساني من التموضع.

إنّ الحسم في هذه المسألة يكتسب أهمّية خاصّة فيما يتعلّق بالنضال الفكري. ففي ظلّ الظروف الموضوعية للتقسيم الطبقي للمجتمع وانعدام العدالة في توزيع الثروة، تُحرَم أغلبية الكادحين من الحصول على كمّية ونوعية عالية من المنتوج العلمي، والثقافي، والفكري، لأنّه كأيّ منتوج يكون مغرَّباً عنهم على هيئة بضاعة لا يملكون المال ولا الوقت الضروريين من أجل شرائها واستهلاكها، بحيث يستطيعون بأنفسهم اكتساب الوعي الاشتراكي العلمي. إذ أنّ «الإنسان المثقل بالهموم والعوز لا يملك إحساساً حتى بأجمل المسرحيات»2. ويؤكد لينين في مؤلفه «ما العمل؟» على أنّه «لا يمكن للعمال أن يحصلوا على هذا الوعي إلا من خارج نطاقهم. ولنا في تاريخ جميع البلدان شاهد على أن الطبقة العاملة لا تستطيع أن تكتسب بقواها الخاصة فقط غير الوعي التريديونيوني، أي الاقتناع بضرورة الانتظام في نقابات والنضال ضد أصحاب الأعمال ومطالبة الحكومة بإصدار هذه أو تلك من القوانين الضرورية للعمال، الخ.. أما التعاليم الاشتراكية، فقد انبثقت عن النظريات الفلسفية والتاريخية والاقتصادية التي وضعها المتعلمون من ممثلي الطبقات المالكة، وضعها المثقفون».3 لذلك فإنّ خوض نضال فعّال على المستوى الفكري في ظلّ ظروف كهذه مهمّة تحتاج إلى فئة معيّنة من الثوريين ممّن يتوفّر لديهم ما يكفي من المال والوقت لإنجازها. هؤلاء المثقفون الثوريون ضرورة لا غنى عنها لكلّ حركة ثورية ولاسيّما أنّ الأعداء الطبقيين لا يقفون متفرجين بل يربّون هم أيضاً مثقفيهم الرجعيين. وليس في هذا انتقاص من أهمّية التحرك العفوي لجماهير الشغيلة والشعوب المضطهدة، التي تثبت انتفاضاتها اليوم قدرة جبارة على التضحية والنضال، وتتقدّم خطوات واسعة عن النخب والأحزاب السياسية، التي مازالت في المؤخرة، والتي بدلاً من الاعتراف علناً بعدم كفاية استعدادها، تُلقي، كما قال لينين: «تبعة كل شيء على (أنه لم توجد ظروف)،... وكيف نصف ذلك بغير الخضوع الذليل للعفوية؟ بغير هيام (الأيديولوجيين) بنواقصهم؟».3

الاغتراب السياسي:

تلك الصُّور الكاريكاتورية المختزلة والمشوّهة عن الشيوعيين تنتقل إلى الجماهير المتعطّشة للخلاص والكرامة الإنسانية، والتي عندما لا تسمع خطاباً ولا ترى ممارسةً يستجيبان لمصالحها وآمالها، بل يكتفيان فقط بالتغنّي بآلامها، يحقّ لها أن تفقد الثقة بمن يفترض بهم أن يكونوا كشيوعيين التمثيل السياسي الصحيح لها. وبغياب أي تمثيل سياسي صحيح بديل يجسد فعلاً وقولاً حزمة متكاملة من مصالح الطبقة العاملة وسائر الكادحين من النواحي الاقتصادية-الاجتماعية والوطنية والديمقراطية، كون التراجع العام لم ينعكس على الشيوعيين فقط بل وعلى كلّ ألوان الطيف السياسي، تفقد الجماهير الثقة بالسياسة وبجميع الأحزاب السياسية، رغم استمرار الوجود الموضوعي لهذه الأخيرة كهياكل وبنى، وأفراد، ولكن في اغتراب عن جماهيرها، وعن نفسها، أي عن دورها الوظيفي. ولا يصبّ ذلك إلا في مصلحة الطبقات المستغِلّة عبر تسليمها سلاحاً مجانياً تستخدمه في صراعها الأيديولوجي والعملي لتثبيت موقعها الاستغلالي، وموقع الكادحين كمستغَلين، وبالتالي استمرار حالة الاغتراب المضادّة للإنسانية برمّتها.

الهوامش

ماركس، مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية – المخطوط الثالث – الفصل الثالث (الحاجة والإنتاج وتقسيم العمل)

المصدر السابق – المخطوط الثالث – الفصل الثاني (الملكية الخاصة والشيوعية)

لينين، ما العمل؟ - الفصل (2) عفوية الجماهير ووعي الاشتراكية-الديمقراطية، الفقرة (أ) بدء النهوض العفوي.