الليبراليون يتحدثون عن الأزمة....

الليبراليون يتحدثون عن الأزمة....

المادتان التاليتان لإثنين من كبار الإقتصاديين الدوليين,ليبراليي التوجه, جوزيف ستيغلتز الحائز على جائزة نوبل بالاقتصاد والنائب الأول السابق لمنظمة التجارة العالمية وكبير إقتصاديي البنك الدولي سابقا والمحاضر حاليا في جامعة كولومبيا الأميركية,بالإضافة لـ  كمال ديرفيس وزير اقتصاد سابق في تركيا و المدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية و النائب السابق لرئيس البنك الدولي, و حاليا نائب رئيس مؤسسة بروكينغس. ننشر المادتين التاليتين كعينة عن مجموعة من الدراسات والمقالات الحديثة التي تتناول العلاقة بين النمو و العدالة الاجتماعية , إذ يسجل ميلا عند الاقتصاديين الليبراليين للإقرار بضرورة العدالة الاجتماعية من أجل رفع و استدامة معدلات النمو، مع التحفظ على بعض الاراء فيهما

فخ التفاوت

 ◄ كمال ديرفس  

 مع تراكم الدلائل التي تشير إلى اتساع فجوة التفاوت في الدخول في العديد من أنحاء العالم، تحظى المشكلة الآن بقدر متزايد من الانتباه من قِبَل الأكاديميين وصناع القرار السياسي. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، ارتفعت حصة شريحة الواحد في المائة العليا من السكان في الدخل إلى أكثر من الضعف منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، من نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي إلى أكثر من 20% مؤخرا، وهو مستوى غير مسبوق منذ عشرينيات القرن العشرين.

وعلى الرغم من الأسباب الأخلاقية والاجتماعية التي تدعو إلى القلق إزاء عدم المساواة والتفاوت بين الناس، فإن هذه الأسباب لا تؤثر كثيراً في حد ذاتها عندما يتعلق الأمر بسياسة الاقتصاد الكلي. ولكن هذا الارتباط كان مرئياً بوضوح في القسم المبكر من القرن العشرين: فقد زعم البعض أن الرأسمالية تميل إلى توليد ضعف مزمن في الطلب الفعّال بسبب التركيز المتزايد للدخل، والذي يؤدي إلى «تخمة المدخرات» لأن الأثرياء يدخرون الكثير. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى اندلاع «الحروب التجارية» عندما تحاول الدول إيجاد المزيد من الطلب في الخارج.

ولكن منذ أواخر الثلاثينيات فصاعدا، تلاشت هذه الحجة مع النمو السريع الذي حققته اقتصادات السوق في الغرب في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وبعد أن أصبح توزيع الدخل أكثر مساواة. ورغم تعاقب الدورات التجارية فلم يظهر ميل ملحوظ نحو ضعف الطلب المزمن. وقد يزعم أغلب خبراء الاقتصاد الكلي أن أسعار الفائدة القصيرة الأجل من الممكن خفضها دوماً إلى المستوي الكافي لتوليد معدلات معقولة من الطلب وتشغيل العمالة.

ولكن الآن، ومع ارتفاع مستويات التفاوت من جديد، عادت الحجج التي تربط بين تركيز الدخل ومشاكل الاقتصاد الكلي إلى الظهور مرة أخرى. في كتابه الأخير «خطوط الصدع» الحائز على عدة جوائز، يروي لنا راغورام راجان من جامعة شيكاغو، وهو كبير خبراء الاقتصاد سابقاً لدى صندوق النقد الدولي، يروي لنا قصة معقولة عن العلاقة بين التفاوت في الدخول والأزمة المالية في عام 2008.

ويرى راجان أن التركيز الكبير للدخل عند الشرائح العليا في الولايات المتحدة أدى إلى سياسات تهدف إلى تشجيع الاقتراض بمستويات غير قابلة للاستمرار من قِبَل المجموعات ذات الدخول المنخفضة والمتوسطة، من خلال إعانات الدعم وضمانات القروض في قطاع الإسكان والسياسة النقدية المتساهلة. كما اشتمل الأمر على زيادة هائلة في ديون بطاقات الائتمان. وكان سلوك هذه المجموعات سبباً في حماية النمو في الاستهلاك الذي اعتاد عليه أبناء هذه المجموعات من خلال المزيد من الاستدانة. وبشكل غير مباشر قَدَّم أبناء الشريحة الأكثر ثراء، وبعضهم من خارج الولايات المتحدة، القروض لمجموعات الدخل الأخرى، في ظل وساطة القطاع المالي بأساليب شرسة. ثم انتهت هذه العملية غير المستدامة إلى التوقف العنيف في عام 2008.

ويروى لنا جوزيف ستيجليتز في كتابه  «السقوط الحر»  وروبرت رايخ في كتابه  «ما بعد الصدمة»  قصصاً مماثلة، في حين ابتكر الخبيران الاقتصاديان مايكل كومف ورومين رانسييه نسخة حسابية رسمية للعلاقة المحتملة بين تركيز الدخول والأزمة المالية. وعلى الرغم من اختلاف النماذج الأساسية فإن النسخ الكينزية تؤكد أنه إذا زاد أبناء الشريحة الأكثر ثراءً مدخراتهم بشكل كبير فإن تركز الدخول المتزايد من شأنه أن يؤدي إلى زيادة مزمنة في المدخرات المخططة مقارنة بالاستثمار.

ومن الممكن أن تحاول سياسة الاقتصاد الكلي التعويض من خلال الإنفاق بالعجز (بالاستدانة) وخفض أسعار الفائدة إلى مستويات متدنية للغاية. أو قد يساعد سعر الصرف المقوم بأقل من قيمته الحقيقية في تصدير الافتقار إلى الطلب المحلي. ولكن إذا استمرت حصة الشرائح الأعلى دخلاً في الارتفاع، فإن المشكلة سوف تظل مزمنة. وعند نقطة ما، عندما يصبح الدين العام أضخم من أن يسمح باستمرار الإنفاق بالاستدانة، أو عندما تقترب أسعار الفائدة من الصفر، فإن النظام يفقد كل ما لديه من حلول.

إن هذه القصة تنطوي على بُعد مناف للمنطق. ألم تكن الحجة أن المشكلة في الولايات المتحدة كانت نقص المدخرات وليس فرطها؟ ألا يعكس عجز الحساب الجاري المتواصل في هذا البلد الاستهلاك المفرط وليس ضعف الطلب الفعّال؟

إن الأعمال الأخيرة لكل من راجان وستيجليتز وكومف ورانسييه وغيرهم تفسر هذا التناقض الظاهري: فقد موَّل هؤلاء عند القمة الأعلى طلب كل الشرائح الأخرى، الأمر الذي مكَّن كل من مستويات تشغيل العمالة المرتفعة والعجز الضخم في الحساب الجاري. وعندما أتى الانهيار في عام 2008، كان التوسع المالي والنقدي الهائل سبباً ف منع الاستهلاك في الولايات المتحدة من الانهيار. ولكن هل نجح هذا التوسع في علاج المشكلة الأساسية؟

رغم أن الديناميكيات التي أدت إلى تزايد تركيز الدخول لم تتغير، فإن الاقتراض لم يعد سهلاً كما كان، وبهذا المعنى يصبح حدوث دورة أخرى من الرواج ثم الكساد أمراً غير مرجح. ولكن هذا يقودنا إلى صعوبة أخرى. فعندما نسأل الشركات لماذا لا تزيد من استثماراتها فإن الغالبية العظمى منها تستشهد بعدم كفاية الطلب. ولكن كيف من الممكن أن يصبح الطلب الداخلي قوياً إذا استمر الدخل في التدفق إلى القمة؟

إن الطلب الاستهلاكي على السلع التَرَفية الفاخرة من غير المرجح أن يحل المشكلة. فضلاً عن ذلك فإن أسعار الفائدة من غير الممكن أن تصبح بالناقص من حيث القيمة الاسمية، وقد يعمل الدين العام المرتفع على تعطيل السياسة المالية على نحو متزايد.

وعلى هذا، فإذا لم يكن من الممكن عكس اتجاه الديناميكيات التي تغذي تركيز الدخول، فإن أبناء الشريحة الأكثر ثراء يدخرون قسماً ضخماً من دخولهم، وتعجز السلع الفاخرة عن تغذية الطلب الكافي، وتفقد المجموعات ذات الدخول المنخفضة القدرة على الاقتراض، وتبلغ السياسات المالية والنقدية مداها الأقصى، ويصبح من غير الممكن تصدير البطالة، وقد يصبح الاقتصاد مشلولا.

إن التحسن الذي طرأ على النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة في أوائل عام 2012 لا يزال يدين بالكثير لسياسة نقدية توسعية إلى حد غير عادي وعجز مالي غير قابل للاستمرار. وإذا تسنى لنا الحد من تركز الدخول مع خفض العجز في الموازنة، فسوف يصبح في الإمكان تمويل الطلب بالاستعانة بالدخول المستدامة ذات القاعدة العريضة في القطاع الخاص. ولكن الديون العامة يمكن خفضها من دون خوف من الركود، لأن الطلب الخاص سوف يصبح أكثر قوة. وسوف تزيد معدلات الاستثمار مع تحسن توقعات الطلب.

الواقع أن هذا الخط من التفكير يتصل بالولايات المتحدة بشكل خاص، وذلك نظراً لمدى تركز الدخول والتحديات المالية التي تنتظرها. ولكن الاتجاه العام نحو تضخم حصص الدخل عند القمة عالمي، ولا ينبغي لنا بعد الآن أن نتجاهل المصاعب التي قد يفرضها هذا الاتجاه على سياسة الاقتصاد الكلي.

ثمن الظلم

◄ جوزيف ستيغليتز

إن أميركا تحب أن تفكر في نفسها باعتبارها «أرض الفرص»، وينظر إليها آخرون في الضوء نفسه تقريبا. ولكن في حين نستطيع جميعاً أن نفكر في أمثلة لأميركيين صعدوا إلى القمة اعتماداً على أنفسهم، فإن الإحصاءات هي العنصر المهم حقاً في هذا الصدد: إلى أي مدى تعتمد فرص أي فرد في الحياة على دخل وتعليم أبويه؟

الواقع أن الأرقام في الوقت الحاضر تشير إلى أن الحلم الأميركي مجرد أسطورة. إن المساواة في الفرص في الولايات المتحدة اليوم أقل من حالها في أوروبا ــ بل في أية دولة صناعية متقدمة تتوفر البيانات عنها.

وهذا واحد من الأسباب التي تجعل من أميركا الدولة صاحبة أعلى مستوى من التفاوت وعدم المساواة بين كل الدول المتقدمة ــ والفجوة بينها وبين بقية الدول المتقدمة آخذة في الاتساع. فأثناء فترة «التعافي»، 2009-2010، استحوذ المنتمون إلى شريحة الواحد في المائة الأعلى دخلاً في الولايات المتحدة على 93% من نمو الدخل. ولا تقل مؤشرات التفاوت الأخرى ــ مثل الثروة والصحة ومتوسط العمر المتوقع ــ سوءا، بل ولعلها أسوأ. والاتجاه الواضح يشير إلى تركز الدخل والثروة عند القمة، وتفريغ الوسط، واشتداد الفقر عند القاع.

وكان الأمر ليصبح مقبولاً إذا كانت الدخول المرتفعة التي يحصل عليها هؤلاء عند القمة نتيجة لزيادة مساهماتهم في المجتمع، ولكن أزمة الركود العظمى أثبتت خلاف ذلك: فحتى كبار المصرفيين الذين قادوا الاقتصاد العالمي، فضلاً عن شركاتهم الخاصة، إلى حافة الخراب، تلقوا مكافآت بالغة الضخامة.

وبنظرة أكثر تدقيقاً إلى هؤلاء عند القمة، سوف نكتشف دوراً غير متناسب لعبه هؤلاء المستغلون: فقد حصل بعضهم على ثرواتهم من خلال ممارسة القوة الاحتكارية؛ وكان آخرون رؤساء تنفيذيين استغلوا أوجه القصور في إدارة الشركات لكي يستخلصوا لأنفسهم حصة بالغة الضخامة من أرباح الشركات؛ وآخرون استغلوا اتصالاتهم السياسية للاستفادة من سخاء الحكومة ــ إما من خلال الأسعار البالغة الارتفاع التي يتقاضونها عما تشتريه منهم الحكومة (العقاقير على سبيل المثال)، أو الأسعار البالغة الانخفاض التي يدفعونها في مقابل مشترياتهم من الحكومة (حقوق التعدين).

وعلى نحو مماثل، فإن جزءاً من ثروات هؤلاء العاملين في مجال التمويل يأتي من استغلال الفقراء، من خلال ممارسات الإقراض الجشع وبطاقات الائتمان. وهؤلاء القابعون على القمة يصيبون الثراء في مثل هذه الحالات على حساب أولئك المنسيين عند القاع بشكل مباشر.

قد لا يكون الأمر بهذا السوء لو اشتملت نظرية تقاطر الثروة إلى الأسفل على ذرة من الصدق ــ الفكرة الغريبة القائلة بأن الجميع مستفيدون من إثراء هؤلاء عند القمة. ولكن أغلب الأميركيين اليوم أصبحوا أسوأ حالا ــ مع انخفاض الدخول الحقيقية (المعدلة تبعاً للتضخم) ــ مما كانوا عليه في عام 1997، قبل خمسة عشر عاما. وكل المنافع المترتبة على النمو ذهبت إلى القمة.

ويزعم المدافعون عن التفاوت في أميركا أن الفقراء وأهل الطبقة المتوسطة لا يجوز لهم أن يشتكوا. ففي حين أنهم قد يحصلون الآن على حصة أصغر من الكعكة مقارنة بحصتهم منها في الماضي، فإن الكعكة تنمو كثيرا، بفضل مساهمات الأغنياء وفاحشي الثراء، حتى أن حجم شريحتهم أصبح أكبر في واقع الأمر. ومرة أخرى تتناقض الأدلة مع هذا الزعم بشكل قاطع. بل إن أميركا سجلت في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، عندما كان الجميع ينمون معا، نمواً أسرع كثيراً مقارنة بالنمو الذي سجلته منذ عام 1980، عندما بدأ النمو يتفاوت ويتباعد.

 ولا ينبغي لهذا أن يشكل أي مفاجأة بمجرد أن نفهم مصدر التفاوت وعدم المساواة. إن الممارسات الاستغلالية الجشعة تشوه الاقتصاد. لا شك أن قوى السوق أيضاً تلعب دوراً مهما، ولكن الأسواق تتشكل تبعاً للسياسة؛ وفي أميركا، في ظل نظامها شبه الفاسد لتمويل الحملات وأبوابه الدوارة بين الحكومة والصناعة، يعمل المال على تشكيل السياسة.

على سبيل المثال، يعمل قانون الإفلاس الذي يميز المشتقات المالية على أي شيء آخر، ولكنه لا يسمح بإعفاء الديون الطلابية بصرف النظر عن مدى عدم كفاءة التعليم المقدم، يعمل على إثراء المصرفيين وإفقار العديد من الناس عند القاع. وفي بلد حيث يتفوق المال على الديمقراطية، فإن مثل هذا التشريع أصبح مألوفاً بشكل متوقع.

بيد أن التفاوت المتنامي ليس حتميا. فالعديد من اقتصادات السوق أداؤها أفضل، سواء من حيث نمو الناتج المحلي الإجمالي أو ارتفاع مستويات معيشة أغلب المواطنين. بل إن بعض اقتصادات السوق نجحت في الحد من التفاوت.

إن أميركا تدفع ثمن استمرارها في الاتجاه العكسي باهظا. فالتفاوت بين الناس يؤدي إلى انخفاض معدلات النمو والكفاءة. ونقص الفرص يعني أن أعظم أصولها قيمة ــ شعبها ــ لا يستغل بشكل كامل. إن العديد من أهل القاع، أو حتى أبناء الطبقة المتوسطة، لا يحققون كل إمكاناتهم، وذلك لأن الأثرياء الذين يحتاجون إلى أقل القليل من الخدمات العامة ويخشون أن تعمل أي حكومة قوية على إعادة توزيع الدخول يستخدمون نفوذهم السياسي لخفض الضرائب وتقليص الإنفاق الحكومي. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى نقص الاستثمارات في البنية الأساسية والتعليم والتكنولوجيا على نحو يعرقل محركات النمو.

كانت أزمة الركود الأعظم سبباً في اتساع فجوة التفاوت، مع تسبب خفض الإنفاق الاجتماعي الأساسي وارتفاع معدلات البطالة في فرض ضغوط نزولية على الأجور. فضلاً عن ذلك فإن لجنة الأمم المتحدة من خبراء إصلاح النظامين النقدي والمالي الدوليين، التي تحقق في الأسباب التي أدت إلى الركود العظيم، وصندوق النقد الدولي، حذرا من أن التفاوت يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي.

ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أن التفاوت في أميركا يعمل على تقويض قيمها وهويتها. فمع بلوغ التفاوت مثل هذه المستويات المتطرفة، لم يعد من المدهش أن تتجلى التأثيرات المترتبة عليه بوضوح في كل القرارات العامة، من إدارة السياسة النقدية إلى تخصيص بنود الموازنة. إن أميركا لم تعد دولة «العدالة من أجل الجميع»، بل إنها دولة تحابي الأثرياء وتمنح العدالة لهؤلاء القادرين على تحمل ثمنها ــ وهي حقيقة بالغة الوضوح في أزمة حبس الرهن العقاري، حيث تصورت البنوك الكبرى أنها ليست أكبر من أن تُترَك للإفلاس فحسب، بل إنها أيضاً أكبر من أن تخضع للمساءلة.

الآن لم يعد بوسع أميركا أن تعتبر نفسها أرض الفرص كما كانت ذات يوم في الماضي. ولكن هذا الواقع ليس قدراً محتما: فالأوان لم يفت بعد لمحاولة استعادة الحلم الأميركي.

 ترجمة: مايسة كامل