الإمبراطورية الأمريكية في مواجهة موجة الثورات الشعبية في شمال إفريقيا
بدت ناشزة تلك الدعوات إلى التزام الهدوء التي وجهها إلى المتظاهرين في مصر نصيرا الإمبريالية الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، وكذا دعوتهما إلى الرئيس المصري – في حينه- بضرورة إجراء إصلاحات سياسية واجتماعية «فورية» وحثّهما على كبح قوى النظام والجيش. لقد تحدّث ساكنا البيت الأبيض «للمطالبة بإصلاحات سياسية (صريحة) وإلى توقّف أعمال العنف». وقد صرّح الرئيس أوباما قبيل أن يتحدّث مع الرئيس المصري هاتفيا يوم 28 كانون الثاني المنصرم قائلا: «أودّ أن أذكّر بوضوح السلطات المصرية بضرورة الامتناع عن استخدام العنف ضدّ المتظاهرين السلميين»..
من جانبها، كانت السيدة كلينتون قد دعت الرئيس مبارك إلى «بذل كلّ جهده للجم قوى الأمن».. في حين علمنا أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل تتعاونان تعاونا وثيقا مع نظام مبارك في قمع انتفاضة الشعب المصري.
الأحرى بالقوى العظمى أن تصمت
البنتاغون بدوره، حذا حذو سابقيه، فقد دعا الجيش إلى إظهار «ضبط النفس» في وقت كان يفرض فيه حظر التجول ويسقط القتلى في الشوارع المصرية.. يا له من رياء من جانب أولئك الذين يروّجون للجوء إلى الحرب من أجل حلّ النزاعات التي غالبا ما يولّدونها هم أنفسهم!
وسرعان ما انضمّ الاتحاد الأوروبي إلى جوقة التظلّم هذه عبر مساندة «الخطّة المنظّمة» الأمريكية: «لهذا نريد انتقالا منظّما نحو انتخابات حرّة وعادلة» (رويترز، 1/2/2011).
كما أكّد الرئيس أوباما أنّ «الشعب المصري له حقوق هي حقوق كونية. وهذا يتضمّن الحق في الاجتماع السلمي والحق في حرّية التعبير وفي إمكانية اختيار مصيره، وهي من حقوق الإنسان». حين نعلم أنّ الولايات المتحدة قد أيّدت بقوّة نظام مبارك القمعي وساندته وموّلته طيلة العقود الثلاثة المنصرمة، وأنّها طالما سلّحت هذا البلد من دون حساب، واشترت بذلك إخلاص النظام المصري لها، ضدّ إرادة الشعب، لا يكون بوسعنا إلاّ أن نشكّك تشكيكا قويّا في قيمة تلك الأقوال.
إنّ التدخّل المباشر في شؤون مصر الداخلية كبير الدلالة بصدد الأهمية الاستراتيجية التي يمثّلها هذا البلد بالنسبة إلى الإمبريالية الأمريكية في هذه المنطقة من العالم. بالنسبة إلى البيت الأبيض، ستمثّل خسارة التحكّم السياسي والاقتصادي بهذا البلد عنصر انشغال كبير لمختلف المصالح التي لديها فيه وفي المنطقة، إضافة إلى تخوّف كبير بصدد أمن إسرائيل.
إن ما جرى في مصر سرعان ما راح يمتد إلى عدد كبير من البلدان. وإن تصاعد الأحداث في ليبيا يؤكد أن موجة تحرّر الشعوب ستتعاظم أكثر فأكثر لتتّخذ شكل تسونامي. لقد اقتنع المواطنون الآن بأنّ السلطات المغتصَبة والمتحكّم بها عن بعد والفاسدة هشّة، وأنّ قوّة الشعوب وحيويتها سوف تسقطها ذات يوم. هكذا نشهد تلك العملية في البلدان العربية، لكنّ الأمر سيكون مماثلا في القارّات جميعا. كما يمكن أن تضرب هذه الموجة بقوّة البلدان الغنية المسمّاة بالديمقراطية.
... وصدقت تنبؤات تشي غيفارا!!
تنبّأ إرنستو تشي غيفارا في خطاب شهير ألقاه في الأمم المتحدة بنيويورك في العام 1964، أن ثورة الشعوب أو نضالها الثوري ستتّخذ شكل موجة لن تتوقّف أبدا:
«في أراضي بلدان العالم الأخرى التي تناضل من أجل حرّيتها، الأمر يعني دائما الشيء نفسه: صورة ما يمكن الحصول عليه عبر النضال الثوري، الأمل في عالم أفضل، الصورة التي تستحقّ أن يخاطر المرء بحياته معها، أن يضحّي بنفسه حتّى الموت في ميادين المعارك في جميع قارات العالم، ليس فقط في أمريكا بل في كلّ بلدان العالم التي سيقوم فيها نضال ثوري... لن تتوقّف أبدا هذه الموجة من الضغينة الهائجة والعدالة المطالب بها والحقوق المداسة، التي بدأت ترتفع في أراضي أمريكا اللاتينية. سوف تكبر هذه الموجة كلّ يوم. لأنّ هذه الموجة يشكّلها أولئك الذين هم الأكثر عددا، أولئك الذين يمثّلون الأغلبية بجميع مظاهر الكلمة، أولئك الذين بعملهم يراكمون الثروات ويخلقون القيم ويتيحون لدولاب التاريخ أن يدور ويخرجون الآن من النوم العميق المرهِق الذي أُغرقوا فيه».
«لأنّ هذه البشرية الكبيرة قد قالت: (كفى)، ومضت تسير. ولن تتوقّف مسيرتها الجبّارة طالما لم تنل الاستقلال الحقيقي الذي مات كثيرون من أجله وغالبا ما ماتوا دونما فائدة. على كلّ حال، من يموتون الآن سيموتون مثل أولئك الذين في كوبا وبلايا جيرون، سيموتون من أجل استقلالهم الحقيقي والنهائي».
من المناسب أن نذكّر أيضا بأقوال تشي التالية التي تفوّه بها في العام 1960:
«... على جميع شعوب العالم أن تتّحد لتنال أكثر الأمور قداسة، أي الحرّية والرخاء الاقتصادي والشعور بعدم وجود مشكلات غير قابلة للحلّ...»
كيف بوسع المسؤولين الرئيسيين عن الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الكارثي الذي يتكبّده المصريون أن يتنطّحوا لتحديد التصرفات الواجب سلوكها لوضع حدّ للمظاهرات المعادية للسلطة المركزية في مصر؟ كيف يستطيعون أن يجرؤوا على التظاهر بأن لا علاقة لهم بأصل حالة القمع والبؤس السائدة في هذا البلد؟
لقد دعمت القوى الغربية السلطة التي حكمت مصر طوال أكثر من ثلاثين عاما، إذ اعتبرتها السلطة التي تستطيع تقديم الاستقرار اللازم للحفاظ على المصالح الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط.
علاقة التبعية المصرية- الأمريكية
فيما يلي استعراض لمساعدة الولايات المتحدة لمصر وفق المعطيات التي قدّمتها فيدرالية العلماء الأمريكيين:
«بين اتفاقات كامب ديفيد للسلام في العام 1978 والعام 2000 (العام الذي تتوافر أحدث الأرقام عنه)، قدّمت الولايات المتحدة مساعدة للقوات المسلحة المصرية بلغ مجملها 38 مليار دولار. هكذا تلقّت مصر كلّ عام مساعدة بلغت ملياري دولار، منها 1.3 مليارا على شكل تمويل خارجي للدفاع ونحو 815 مليون دولار لصندوق للدعم الاقتصادي، ما يضعها، بعد إسرائيل، في المرتبة الثانية للبلدان المتلقية للمساعدة العسكرية والاقتصادية المنتظمة من الولايات المتحدة (الجدول 1). فضلا عن ذلك، ألغى الأمريكيون في العام 1990 دينا متراكما للنفقات العسكرية المصرية بقيمة 7.1 مليار دولار تعويضا عن كلفة مشاركة مصر في عملية عاصفة الصحراء. علاوة على ذلك، تلقّت مصر كلّ عام من البنتاغون مساعدة لشراء معدّات عسكرية غير مخطّط لها بقيمة مئات ملايين الدولارات» (فيدرالية العلماء الأمريكيين).
الجدول 1. مبيعات الأسلحة للبلدان النامية بين العامين 2001 و2009: المستوردون الرئيسيون
بملايين الدولارات
قيمة التوريدات 2002 | المتلقي |
المرتبة |
500.31 |
المملكة العربية السعودية | 1 |
400.14 | الصين | 2 |
200.14 | الهند | 3 |
200.12 | مصر | 4 |
100.10 | إسرائيل | 5 |
600.8 | الإمارات العربية المتحدة | 6 |
500.7 | تايوان | 7 |
200.7 | كوريا الجنوبية | 8 |
000.6 | باكستان | 9 |
700.3 | سنغافورة | 10 |
• المصدر: ملاحظات الحكومة الأمريكية.
ملاحظات: القيم مدوّرة إلى أقرب 100 مليون دولار. وعند تساوي إجمالي البيانات المدوّرة، أبقينا على الترتيب.
المصدر: http://www.warisbusiness.com/wp-content/uploads/2010/09/crs-arms-sales-customers-02-09.jpg
وفق المعطيات التي قدّمتها وسيلة الإعلام المواطنية آغورا فوكس، كانت البلدان الخمسة الرئيسية المصدّرة للأسلحة في العالم في العام 2004 بالترتيب هي التالية: الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، بريطانيا العظمى، فرنسا وإسرائيل. هذه البلدان مزوّدة بصناعة تسلّح مهمّة وابتكارية بما يكفي لتتمكّن من تصدير معدّاتها. ومنذ العام 2004، أكبر ثلاثة مستوردين لإنتاجها هي الصين والهند ومصر (http://www.agoravox.fr/actualites/international/article/bilan-des-ventes-d-armes-dans-le-2332). بين العامين 2001 و2008، احتلت مصر وفق هيئة الأبحاث في الكونغرس الأمريكي المرتبة الخامسة بين أكبر عشرة مستوردين للمعدات العسكرية في العالم بعد المملكة العربية السعودية والهند والإمارات العربية المتحدة والصين، بنفقات تبلغ قيمتها 12.3 مليار دولار أو 5 بالمائة من المشتريات في العالم (http://fr.wikipedia.org/wiki/Industrie_de_l>armement).
ثمن «السلام»..
العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة ومصر والتعاون الواسع بينهما، يقف خلفهما العمل المشترك من أجل الاستقرار و«السلام» في الشرق الأوسط، فوفق وزارة الخارجية الأمريكية:
«تقيم الولايات المتحدة ومصر علاقات وثيقة وودّية تتأسّس على مصالح مشتركة من أجل الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط، وذلك كلّه عبر حقن الاقتصاد المصري بالأموال وتعزيز العلاقات التجارية والترويج للأمن الإقليمي. على مدى السنين، عملت مصر والولايات المتحدة معا عملا حثيثا على تطوير مفاوضات السلام في الشرق الأوسط، فاستضافتا محادثات السلام والمفاوضات في إطار المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA). مناورات عسكرية متعددة القومية، مساعدة أمريكية لمشاريع تحديث الترسانة العسكرية المصرية... ومساهمة مصر في مختلف عمليات حفظ السلام قد عزّزت تعزيزا مستمرا علاقات التعاون العسكري الأمريكي المصري» (وزارة الخارجية الأمريكية).
نلاحظ أيضا أنّ «أحد أعمدة العلاقات الثنائية يستند إلى مساعدة الولايات المتحدة على أمن مصر واقتصادها، وهي مساعدة تزايدت تزايدا كبيرا لحظة توقيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية في العام 1979. تبلغ المساعدة العسكرية الأمريكية لمصر 1.3 مليار دولار سنويا. فضلا عن ذلك، قدّمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو إس إيد) أكثر من 28 مليار دولار لاقتصاد مصر وتنميتها منذ العام 1975. في السنوات الأولى، كانت المساعدة تمنح لإقامة البنى التحتية والصحة والسلع الغذائية والزراعة» (وزارة الخارجية الأمريكية).
عقدت مصر في الرابع والعشرين من العام 2009 صفقة لشراء 24 طائرة قتالية من طراز إف 16 مع شركة لوكهيد مارتن الأمريكية للأسلحة بقيمة 3.3 مليار دولار (24 طائرة قتالية أمريكية من طراز إف 16 لمصر).
«وفق معلومات أكيدة، رفضت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بيع طائرات إف 16 حديثة جدا لمصر، بسبب وضع حقوق الإنسان والديمقراطية السائد في ذلك البلد، وكذلك للإبقاء على التفوق العسكري الإسرائيلي. تمتلك مصر طائرات إف 16 منذ العام 1982، وقد امتلكت 220 من تلك الطائرات بعد عقود كانت تتزوّد أثناءها بالأسلحة السوفييتية على نحو رئيسي» (24 طائرة قتالية أمريكية من طراز إف 16 لمصر).
تزعم وزارة الخارجية الامريكية بأنّ التعاون العسكري الأمريكي مع مصر قد عزّز الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط..
وفق الولايات المتحدة، ساهم التعاون العسكري الأمريكي في تحديث القوات المسلحة المصرية وعزّز الأمن الإقليمي. مع برامج تمويل مشاريع الدفاع، قدّمت الولايات المتحدة قاذفات من طراز إف 4 ومن طراز إف 16 ودبابات إم 60 إيه 3 وكذلك إم 1 إم 1، وسلّحت عربات نقل أفراد وباعت حوامات أباتشي وصواريخ أرض جو وأجهزة مراقبة جوية وتجهيزات أخرى. كما شاركت الولايات المتحدة ومصر في مناورات عسكرية، بما في ذلك نشر القوات القتالية الأمريكية. على مدى السنوات، استقبلت مصر عملية النجم المضيء، وهي مناورة عسكرية مشتركة متعددة الأطراف... ينظر إليها بوصفها أهم مناورة في المنطقة. غالبا ما تستخدم وحدات الأسطول السابع المرافئ المصرية (وزارة الخارجية الأمريكية). نستطيع إذا أن نفهم لماذا تشكّل مصر سوقا ممتازا لصناعات الحرب الأمريكية.
الخلاصة
إنّ التحركات التحررية الشعبية في عدّة بلدان عربية ذات دلالة كبيرة في الوقت الذي تتكثّف فيه إجراءات قمع الشعوب في سياق الفاقات الناجمة من الأزمة الاقتصادية العالمية والقمع القوي الممارس، بتحكّم من القوى الكبرى، من أجل تخفيض النفقات العامة وبالتالي التراجع الكبير في شروط حياة الأغلبية.
إنّ الدعوة الحازمة ولكن المتأخرة، التي وجّهتها واشنطن للرئيس مبارك لإجراء انتخابات تشريعية كانت بالنسبة إليها وسيلة لمحاولة ضمان ألاّ تعدّل التغيرات التي يمكن أن تحدث من المسار الذي انتهجته البلاد منذ نحو ثلاثين عاما. وفق هيلاري كلينتون، وفي صدى لموقف إدارة أوباما، «هنالك ضرورة لعملية انتقالية منظّمة كي لا يأتي أحد ليملأ فراغا، كي لا يكون هنالك فراغ، بل خطّة حسنة الإعداد لمجيء حكومة ديمقراطية تشاركية» (هيتو، ب.، 2011، الصفحة أ2). أي حكومة خاضعة تماما للأمر الذي تمليه الولايات المتحدة.
أخيرا، سوف نكرّر من دون ملل أنّ اختيار الدرب المناسب في السياق الحالي استجابة لحاجات الشعب المصري الأساسية واستعادة بيئة من الحرّية والاستقلالية والعدالة والسلام تعود لهذا الشعب، على مثال الشعوب الأخرى التي تسعى للتخلّص من قبضة القوى العظمى.
المراجع:
جويل دوني بيلفانس، 2011. التوترات في مصر: أوتاوا تدعو إلى ضبط النفس. لابريس، Cyberpresse.ca، 28 كانون الثاني 2011.
ميشيل شوسودوفسكي، 2011. حركة الاحتجاج في مصر: «الدكتاتوريون» لا يملون، بل يطيعون الأوامر. مونتريال، مركز أبحاث العولمة، 29 كانون الثاني 2011.
فرانتشيسكا سيكاردي، 2010. مصر تحت المراقبة: حين يصبح الاستثناء قاعدة.Cafébabel.com. المجلة الأوروبية، 19 تشرين الأول 2010.
جول دوفور، 2011. رسالة تونس من أجل عالمٍ عادلٍ ومتضامن. مونتريال، مركز أبحاث العولمة، 17 كانون الثاني 2011.
هانية الملواني (وكالة أسوشييتد برس)..
فيدرالية العلماء الأمريكيين. جداول مبيعات الأسلحة. بيان زبائن الأسلحة الأمريكية. مصر.
ج. فيليب. 2005. حصيلة مبيعات الأسلحة في العالم. أغورافوكس. 2 أيلول 2005.
برنارد هيتو، 2011. خشية أمريكا من الفراغ. لابرس، 31 كانون الثاني 2011، أ2.
وكالة رويترز. 2009. 24 طائرة قتالية أمريكية من طراز إف 16 لمصر. Ara.reuters. 30 أيلول 2009.
رويترز. القاهرة. 2011. «الأمر بالعملية الانتقالية». صحيفة كيبيك، الأول من شباط 2011، الصفحة 15.
كريستوف شميدت. وكالة فرانس بريس ـ واشنطن. 2011. أوباما يضغط على مبارك. Cyberpresse.ca. 20 كانون الثاني 2011. وزارة الخارجية الأمريكية.