معاناة عمّال المطاعم....

معاناة عمّال المطاعم....

عودة إلى أيام بدايات البشرية في التشكيلة المشاعية قبل آلاف السنين، أيام كان الإنسان منتمياً إلى عمله وقوة عمله المصروفة في سبيل إشباع حاجاته وممارسة دوره الاجتماعي تجاه أبناء قبيلته، فمثلاً إذا ما عملنا مقارنة بين عامل المطعم (الشيف) في الوقت الحالي مع ما يقابله بنفس الوظيفة تقريباً أيام النظام المشاعي، نجد أن مقابله في تلك الحقبة الرجل الصياد الذي يقوم بتأمين الطعام له وللقبيلة، وبناء على هذه المقارنة سنوضح فيما يلي بعض الفروقات الاجتماعية والروحية والمادية والاقتصادية بين عبد الكريم عامل المطعم المعاصر، وبين الصياد في الحقبة المشاعية:

الانتماء إلى العمل والاغتراب عنه

عبد الكريم من سكان منطقة الدحاديل، يعمل بأحد المطاعم الموجود في مدينة المزة، يختص عبد الكريم بإعداد وتحضير الوجبات الغربية، ويمتد يوم عمله فعلياً إلى ما لا يقل عن 10 ساعات يومياً وعلى مدار أيام السنة كاملةً. في حين أن الصياد المشاعي تقدر ساعات عمله بحوالي 6 إلى 7 ساعات بشكل متوسط، يقوم من خلالها باصطياد ما تيسر له من الفرائس وتأمين الحاجة اليومية له وللقبيلة. عودة إلى عبد الكريم الذي يتقاضى شهرياً راتباً لا يتجاوز 300,000 ليرة فقط لاغير هذا الراتب الذي لا يعادل تقريباً فاتورة أو فاتورتين بأحسن الأحوال من الطعام الذي يعده ويعمل عبد الكريم على تقديمه بأفضل صورة ممكنة للزبائن.
إذا ما نظرنا إلى المسألة بعمق أكبر نجد أن عبد الكريم مغترب تماماً عن ذاته وعمّا يستطيع فعله، مغترب تماماً عن جوهره كانسان منتج، كل ما يبرع به وما يتقنه وما يستهلكه من قوة عمل عضلية وذهنية، لا يستفاد منها على الصعيد الشخصي ولا بمقدار ذرة، على عكس الصياد البدائي المنتمي بالمطلق لعمله وقدرته على الصيد، فهو (أي الصياد) يعمل لذاته ومن أجل ذاته، وكل ما يستهلكه من قوة عمل يعود له. فإذا كانت الوجبات التي يبرع عبد الكريم بإعدادها وغير القادر حتى على التفكير بتذوقها فإن الصياد المشاعي يستفاد كل الاستفادة من منتجات عمله.

ما هو المقابل؟

ذكرنا سابقاً أن عبد الكريم يتقاضى حوالي 300,000 ليرة شهرياً، أي ما يعادل 75,000 ليرة أسبوعياً و 10,70 يومياً على مدار أيام الأسبوع السبعة، وبالتالي فإن أجرة الساعة تبلغ 1070 ليرة فقط لا غير. مقابل هذا الدخل المتواضع تبلغ احتياجات عبد الكريم بحدها الأدنى وتبعاً لمؤشر قاسيون حوالي 2,500,000 ليرة شهرياً، فإن ما يتقاضاه عبد الكريم لا يغطي إلا 12% من الحد الأدنى لاحتياجاته وعوامل تجديد قوة عمله. 12% من الطعام والشراب، 12% من الطبابة، 12% من اللباس والسكن. هذه النسبة المرعبة – القابلة للانخفاض أكثر وأكثر – نتيجتها الحتمية موت عبد الكريم وعائلته، لأننا عندما نتكلم عن الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة، وإن ما يغطيه عبد الكريم لا يزيد عن 12% من هذا الحد وبالتالي فإن الموت والفناء هو النتيجة الحتمية لهذا الأمر. في حين أن الصياد البدائي يحصل فعلياً مقابل عمله على احتياجاته الكاملة بحدها الأعلى بنسبة 100%، لأنه إذا كانت وظيفته تأمين الطعام للقبيلة، هذا يعني أن هناك أفراداً آخرين يهتمون باحتياجات القبيلة الأخرى من الطبابة والأمان ومختلف الاحتياجات الأخرى. وبالتالي فإن الصياد لقاء عمله يضمن مسبقاً مجمل احتياجاته فهو يضمن طباباته والاهتمام بصحته في حال تعرض للمرض، ويضمن أمانه، ويضمن لباسه، ويضمن كل ما يمكن ضمانه في تلك الحقبة.

الحاجات الروحية

نظراً إلى أن عبد الكريم يعمل 10 ساعات يومياً وعلى مدار السنة بشكل كامل، فإنه لا يمارس أياً من الطقوس الروحية المعروفة، فما يعتبر نعمة لمعظم أفراد الطبقة العاملة مثل الأعياد والمناسبات، يعتبر نقمة لعبد كونه يرتفع ضغط العمل إلى أعلى مستوياته، فهو لا يحضر أياً من الأعياد المتعارف عليها لا مع عائلته ولا حتى وحده، ويكون منغمساً في العمل إلى حد لا يمكن تصوره، إضافة إلى ذلك فهو فعلياً غير قادر على فعل أي شيء سوى العمل والعمل مقابل بضع ليرات بالكاد تغطي تكاليف المواصلات، وإضافة إلى اغترابه عن عمله، فهو مغترب عن زوجته وطفلته، مغترب عن أهله وطقوسه هو فعلياً مغترب عن الحياة بمجمل تفاصيلها، يكاد لا يعرف في حياته سوى الوجبات التي يعدها وباقي أدواته التي تساعده على العمل.
بالمقارنة مع الكائن البشري المشاعي الذي يقابله وظيفياً فإن الصياد المشاعي يتمتع بمارسة مجمل طقوسه الروحية ولو كانت بدائية جداً فعند الانتهاء من الصيد وتأمين الطعام يتفرغ هذا الصياد إلى ملذاته واحتياجاته الروحية والتفكير بمختلف ما يجهله الإنسان في تلك الحقبة سواء من ناحية الظواهر الطبيعية، أو اكتشاف القوانين التي تحكم الطبيعة، أو قضاء الوقت مع عائلته وإلخ من مجمل الطقوس والاحتياجات الروحية في ذلك الوقت. فما كان يعتبر من الحاجات الأساسية – المادية والروحية – قبل آلاف السنين أصبح الآن في القرن الحادي والعشرين يعتبر ترفاً لا يمكن الوصول له بالمطلق.
إن السعي وراء مراكمة الربح أكثر وأكثر في ظل المنظومة الرأسمالية الحاكمة، جعل من حياة المواطن في الوقت الحالي لا تقارن بالمطلق حتى مع الكائن البشري البدائي، وذلك بالرغم من كل التطور والتقدم الذي وصلت إليه البشرية وحققته على كافة الأصعدة وفي كل المجالات، إلا أن لهاث النخب المالية المتحكمة (بكل ما يمكن التحكم به) خلف نهب واستغلال 90% من الشعب، قد قضى على ما تبقى من قوة عمل الطبقة العاملة، علماً أن هذه القوة باتت تحتاج إلى إعادة خلق وإحياء من البداية، ومن ثم حاجاتها إلى التجديد، وذلك في ظل هذه المعادلة التي تجسد بشكل كلي حال قوة العمل هذه، علماً أن الحد الأدنى للأجور لا يتجاوز 92,790 ليرة في حين أن متوسط تكاليف المعيشة يتجاوز 4,000,000 ليرة شهرياً، أي إن دخل الطبقة العاملة يغطي في أحسن الأحوال 2.3% من متوسط المعيشة.
إن هذه المعطيات والوقائع تؤكد على أن النخبة المالية الحاكمة لا تأبه إلى أي اعتبار وطني أو اجتماعي، فمن يضحي بـ 90% من الشعب سيضحي بكل مكونات البلاد مقابل إرضاء 10% من الشعب ومراكمة أرباحهم وثرواتهم.
هذه الأوضاع التي وصلت إليها البلاد تؤكد على أن الحل الوحيد الذي يؤمن الخلاص وإنقاذ ما تبقى من مقومات وموارد هو التغيير الجذري الشامل والعميق واقتلاع هذه المنظومة من جذورها وذلك عبر تنفيذ القرار الدولي 2254 الذي يضمن حق الشعب السوري في تقرير مصيره وخلاصه ونجاته من تسلط المتنفذين بشؤونه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1105
آخر تعديل على الإثنين, 16 كانون2/يناير 2023 09:54