الوظيفة..وأنشودة الإصلاح الإداري في التعيين والترفيع..والمعايير الخاطئة
بالرغم من ضيق الحال، وقلة راتب (أبو أحمد) الموظف في بلدية (قطنا) إلا أنه أصر على تعليم أبنائه، وفي كل جلساته يتحدث عن الوظيفة التي تستر صاحبها من الحاجة ومد اليد للآخرين، ولذلك كان يجتهد في تحويل أبنائه على -الأقل- إلى موظفين وإن اختلفت شهاداتهم، وحتى ابنه الطبيب طلب منه أن يتعين في مستوصف المدينة، ولديه القناعة في أن العيادة لا تكفي أجرتها الشهرية، ولا تعطي مردوداً مادياً جيداً، ولهذا يبقى راتب الحكومة على حد رأيه المبلغ الدائم المضمون.
ومع الغلاء وشكوى أغلب الموظفين من قلة أجورهم قياساً للحياة المعيشية الصعبة إلا أن صاحبنا ما زال يقول لأبناء الجيران الذين لم يتمكنوا من حجز كرسي وظيفة في الدولة: لقد خسرتم مستقبلكم... لكن الرجل يبقى من شريحة قليلة ما تزال مؤمنة بهذا النمط من التفكير، وجل موظفي الدولة يشكون من ترهلها، وأنهم أصبحوا عالة على أبنائهم العاملين في القطاع الخاص.
الوظيفة حالة من التخطيط المؤسساتي الذي يشكو من التعثر، ولم تستطع الدولة حتى تاريخه أن تنقذ واقعاً هشاً تتخبط به مؤسساتنا العامة.
الآذن..ملكاً
ليس سراً أن بعض الوظائف لها أهلها، ويتم انتقاء من هم أقرب إلى الولاء، وأحياناً من الأقارب، أو ممن لديهم استعداد لممارسة التستر على أعمال المدراء، وهؤلاء المدراء حدث بلا حدود عما يمكن أن يقترفوه من آثام..مدراء عامّون، رؤساء بلديات، مدراء مدارس، مدير فرع مؤسسة عامة، مدير مكتب، رئيس شعبة، مشرف دوام.. إلى آخر التسميات التي لا تنتهي مما سمح به الفساد، ومما يتيسر لهم من هبات وهدايا ورشاوى.
الآذن أو المستخدم هو من أهم موظفي أية دائرة وسمها ما شئت مديرية، محافظة، وزارة، مدرسة..إلخ، ويكاد يمارس بعض مهام مديره أو مسؤوله المباشر، وبعضهم غير تقديم القهوة والشاي لضيوف المدير قد يحتفظ بختمه.
في بلديات الريف القصي يستمتع المتعهدون بعلاقاتهم مع ممثلي المدراء، فهؤلاء مع تمرسهم في التعهدات، وأولئك مع معرفتهم الدقيقة بخفايا المشاريع تنشأ بينهم علاقات مصلحية مثل تسهيلات التقدم لمناقصات، والدخول في مشاريع البنى التحتية، ومعرفة القرارات التي يخفيها عادة رؤساء البلديات، والإطلاع على المشاريع المقررة، وتوسعات المخططات التنظيمية.
الآذن وظيفة يسعى إليها باجتهاد أصحاب الحظوظ السعيدة، فهي ليست وظيفة نكرة، وقد يدفع لأجلها، ومن الممكن تتبع الوضع المالي لأحدهم لتعرف مثلاً أن الآذن في بلدية (س) له ديون على موظفة الديوان، والمحاسب، وكذلك يسجل لهم حسابهم الشهري من طلبات الشاي والقهوة كديون مؤجلة لأنه يستثمر مكانه في بوفيه (عام).
أنشودة الإصلاح الإداري
إدراك الحكومة لواقع المؤسسات العامة وترهلها، وشكاوى المواطن التي لا تنقطع من عرقلة معاملاته، ومن رشاوى علنية هي أقل ما يمكن أن يثار الحديث عنه، وعن فساد بالألوان في مفاصل هذه المؤسسات يضرب من أسفلها لأعلاها هذا كله أخذها باتجاه عدة إجراءات منها الحكومة الالكترونية، ومشروع النافذة الواحدة، ومديريات قانونية وأخرى للرقابة الداخلية مهمتها ضبط قرارات وأعمال هذه المؤسسات من الداخل.. ولكن هل أفلح كل هذا في الحد من هذا الترهل والفوضى.
الإصلاح الإداري - المشروع الكبير الذي حوى كل تلك المحاولات- كان قاصراً على استيعاب الخلل الكبير الذي ترزح تحت وطأته هذه المؤسسات، والسبب كما يراه أغلب العارفين بهذه المؤسسات وببرنامج الإصلاح الاقتصادي يعود إلى غياب النظرة العملية للأمر، وكل ما تم الحديث عنه لم يتجاوز التنظير في الإصلاح، وضرورة معالجة حالة الروتين التي تجتاح مفاصل الدولة.
المعيار الخاطئ
معايير التعيين المعتمدة لا تريد الخلاص من تركة تسمى القدم الوظيفي والخبرات المتراكمة، وذهب البعض إلى الإبقاء على موظفين فاسدين تحت تسميات مثل (مستشارين) واستمر هؤلاء في ركوب الفساد إلى آخره.
عدا عن رغبة هذه المؤسسات في تعيين حملة الشهادات الدنيا، والذين يفتقرون إلى أبسط أنواع المهارة والمعرفة، وكذلك تدني سقف راتب التعيين لهؤلاء، وعدم تعيين أصحاب الشهادات العليا الذين من الممكن أن يدخلوا في تنافس وظيفي وإبداعي مع ثلة الخبرات القديمة التي لا تجيد إقلاع جهاز كمبيوتر.
المسابقات..تشريع الواسطة
لم يمتدح أحد ممن سألتهم (قاسيون) نظام المسابقات المعتمد للتعيين، وعلى العكس ذهب أغلبهم إلى القول بأنه تشريع للواسطات، وتشريع للموظفين غير المثبتين من أجل إبقائهم في وظائفهم، وعادة ما تشترط هذه المسابقات على وفرة الشاغر، وشهادات حديثة، وتترك خلفها عشرات الألوف ممن تجاوزتهم الوظيفة بسبب العمر، أو حصولهم على درجات أقل من المطلوب.
مريم خريجة جامعية (آداب): أنا خريجة جامعية منذ 10 سنوات، وتقدمت إلى المسابقات التي أعلن عنها، وفي كل مرة لا أنجح بسبب الاكتفاء بالأوائل في درجات التخرج وهي ليست مقياساً، ولدي ساعات تدريس تفوق 10000 ساعة ومع ذلك لم تنفعني في شيء.
البعض من خريجي بعض الأقسام كالإعلام الذي تحول إلى (كلية) لا يجد فرصة في العمل، وإن وجد فهي في القطاع الخاص الإعلامي الذي لا يقدم أية ضمانات، وفي الوقت نفسه يقدم أجوراً بخسة.
محمد (خريج إعلام): يطلب التلفزيون 10 مذيعين من اختصاصات جامعية مختلفة، ويكون عدد المتقدمين بالآلاف، والنتيجة تكون الغاية من المسابقة تعيين العاملين المؤقتين أو من هم على (البون).
العاملون المتعاقدون
تحت سيف الطرد وعدم تمديد العقود كانوا، واليوم أغلبهم ومن له في الوظيفة أكثر من 4 سنوات صار بانتظار قرارات التثبيت بعد صدور عدة مراسيم بتحويلهم إلى موظفين لا يطردهم أحد إلا ضمن حدود القانون.
ولكن هذه الفئة لطالما كانت أخطر ما واجه الحكومات المنصرمة ولم تنه الحكومة الحالية أوضاعهم بالكامل، وأيضاً كانوا معزوفة اتحادات العمال على مدار عقود مضت، وكان العقد مدار صراع وتوصيف مع وزارة العمل، وذات يوم رأى أحد الوزراء أن العالم كله لا يفرق بين عامل بالعقد وعامل دائم.
ومع وزارة العمل والقانون دار الصراع على مفردات هذا العقد من حيث كانت تصفه الجهات المشتكية بأنه عقد إذعان يصب دائماً في مصلحة رب العمل الذي تحابيه القوانين، وتحبه الوزارة، واستمر هذا الصراع حتى بعد أن توصل المشرعون إلى القاعدة الذهبية: العقد شريعة المتعاقدين، ولكن المشتكين ظلوا على رأيهم في أن هذا النص ظل محابياً للجهة الأقوى.
ولم تستطع وزارة العمل أكثر من التعبير عن رغبتها بتعديل بعض مواد القانون التي لم تفعل مثل المحكمة العمالية التي لم تنعقد ولم تنصف عاملاً.
تعيين المحسوبيات
قضت المحسوبيات على فرص نجاح وتطوير العمل في المؤسسات، وزاد من ترهلها، وما أن يستلم مدير جديد مهامه حتى يأتي بالفريق الوفي، وتبدأ جملة التنقلات والتعيينات الجديدة، وما أن يتوفى عامل أو ينقل لسبب ما حتى تفتح الملاكات المغلقة في وجه طالبي التعيين للمقربين وأصدقاء الأصدقاء، وهكذا تدخل المؤسسة في دورة فساد جديدة بوجوه جديدة.
المستغرب الذي يقف في وجه الإصلاح والتغيير أن هؤلاء لا يفتشون في الملاكات العددية المديدة بعد أن يحصل شاغر ما على الكادر الجيد الذي يشكل نقلة نوعية في عمل المؤسسة، ولكن المسألة لا تتعدى استبدال أشخاص، ولعبة أرقام، وفي أفضل الأحوال من باب الشفقة والدعاء للمدير بطول العمر، والبقاء، وأن يصير وزيراً.
نظام الفحص..والترفيع
بالرغم من كل هذا الفساد، وكل هذا الخلل، وآلية التعيين البليدة تكون نتائج اختبارات العاملين جيدة في أغلبها، وفي الترفيع السنوي يحصل الجميع مع استثناءات بسيطة ربما تطال الأفضل على نسبة 9% مضافة كدرجة إلى الراتب المقطوع، وبالتالي تتم مكافأة الفاسد وصاحب المهارة العادية مثله مثل المتمكن والقادر على العطاء.
من الأوراق الثبوتية عند التعيين ورقة من لجنة فحص العاملين تثبت الأهلية الصحية، والفحص الطبي يكون بالسؤال الشفهي هل لديك أمراض سارية، هل تعرضت لحوادث وعمليات جراحية، وأما الفحص العملي فيدخل كل عشرة متقدمين إلى بهو مكتب اللجنة وواحداً تلو الآخر يشير الطبيب أو الموظف إلى مجموعة من الأشكال المقلوبة والمستوية ويسأل: إلى أين تتجه هذه الأشكال، والجميع يحصل على نتيجة إيجابية لفحوصات النظر، ويدفع ثمن الطابع المالي، ويمضي مبتسماً ليجلب بقية الثبوتيات.
الشهادات المهنية
ليس من باب تعداد الأوراق الثبوتية للتعيين ولكنها إحدى أهم هذه الوثائق، ويجب على طالب التعيين أن يأتي بشهادة موقعة من اتحاد العمال، أو من أحد فروعه تثبت جدارته بالتعيين، وعلى أساسها يتم تحديد راتبه الأولي، أو ما يسمى راتب بدء التعيين، وتشمل بالطبع على تسميات مثل (عامل ماهر- نصف ماهر- معلم) ولكل أجره.
للحصول على هذه الوثيقة يقول أحد العارفين: ببساطة يكفي أن تعرف أحد موظفي اتحاد العمال، وتعتبر من الخدمات العادية جداً والتي لا ينظر إليها من باب خرق القانون أو الفساد.
الإصلاح.. تصنعه الإرادة
ن الواضح أن الانتقال إلى الإصلاح الإداري لا يصب في مصلحة الكثيرين لأنه يخرجهم من دائرة النفع وبالتالي ستبقى العراقيل توضع في وجهه حتى يصار إلى إيجاد آلية حقيقية لا تستثني ولا تحابي أحداً، وهذا يرتب تسلم حكومة صارمة مفاصل العمل المؤسساتي، وتخرج من اللعبة أولئك المتمسكين بكراسيهم قبل الموت بلحظات.
لا يمكن أن نصل إلى إصلاح ينقذنا من مؤسسات عاجزة عن خدمة المواطن، وبالكاد تستطيع تأمين أجور موظفيها، وينخر فيها الفساد إلا بالخروج من النص النظري للقانون إلى تطبيقه بقوة القانون، واعتماد إدارة نزيهة ووطنية تسهم في الانتقال إلى مؤسسات تقدم خدمات وطنية دون استثناءات من أي نوع كانت.