في عيد العمال العالمي: للطبقة العاملة دور جوهري في إيجاد مخرج من الأزمات والأمراض التي جلبتها الرأسمالية للإنسانية
مع تعدد نشاطات رأس المال المحلي والعالمي، يبقى السؤال التاريخي عن مصدر ربح ذلك الرأسمال حاضراً وملحاً. "تحدد حسابات الشركات الأرباح بجمع العائدات الناتجة عن توظيفات متنوعة لرأس المال. والربح هو مقياس قدرة الشركة على تحسين وضع ممتلكاتها الرأسمالية الإجمالية في فترة محددة من الزمن. وعلى أية حال، فبقدر ما يتم التركيز على إعادة الإنتاج الإجمالي لرأس المال، لا تكون الأمور على هذا النحو من البساطة. وفي الواقع فإنّ عائدات شتى أنواع الاستثمارات النقدية ليست أكثر من خلاصة لفضل القيمة، الذي اكتشفه ماركس، والمنتج في القطاع الإنتاجي من الاقتصاد.
كما "يمكن النظر إلى القروض التي يقدمها المصرفيون والأموال المأخوذة على شكل إصدارات أسهم، أو سندات، بوصفها مكملات للتراكم. فهي تسمح لدورة رأس المال المنتج بانتشار غير مقيد بإكراهات مالية جدية. وهي من جانب آخر حبلى بعدد من النزاعات المتعلقة بتوزيع حصص فضل القيمة الناتج عن عملية الإنتاج". (سرفاتي 1996، هوسون 1996).
ويفسر نمو الأسواق المالية جزئياً في السنوات الثلاثين الأخيرة "بفضل الأرباح التي امتنعت البيوتات الصناعية الكبيرة عن إعادة توظيفها في الإنتاج. إذ حولت أجزاء هامة من القيمة المضافة الناتجة عن العمليات الإنتاجية إلى المجال المالي منذ الثمانينيات. تخالف الخبرة تنبؤات كينز القائلة إنّ أصحاب الدخل الذين يعيشون على الأرباح سيختفون خلال عملية "القتل الرحيم"! فالعمل ودورة الإنتاج يدوران أكثر من أي وقت مضى حول ضرورة إشباع حاجات رأس المال حامل الفائدة".(1)
وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة التي يبذلها مروجو النيوليبرالية حول مصادر الربح، يبقى فضل القيمة، مهما جرى تمويهه، هو أساس بقاء وتراكم رأس المال. وتدفع هذه الحقيقة القوى المنتجة، والطبقة العاملة،بشكل مباشر، أو غير مباشر إلى النضال في سبيل استرداد حقوقها، وإصلاح الجوانب المشوهة في نشاط النيوليبرالية، ويقف معهم كثير من أصحاب الأصوات العقلانية حتى من كبار الاقتصاديين البرجوازيين. وهكذا بدأت أمور مروجي العولمة النيوليبرالية تتدهور. ففي أسفل السلم الاجتماعي، في بلدان المركز، والمحيط على السواء تواصلت أفعال المقاومة... وتتقدم الأفكار الداعية إلى التقدم الاجتماعي في مواجهة استبداد الأسواق (الرأسمالية). ففي الوقت الذي "تملّك إيمان شبه ديني بالسوق، لاسيما الأسواق المالية، كل الزعماء السياسيين عملياً، سواء أكانوا من اليسار التقليدي، أم من اليمين، ومن دول الشمال أم من دول الجنوب، وهم أنفسهم بالأحرى كبار كهنة هذا الدين"... وأضحت "الأسواق المالية هي أرباب هذا الدين الجديد، والبورصات معابده، لم يعد ممكناً لغير كبار الكهنة ومعاونيهم دخولها... وجمهرة المؤمنين تدعى لمناجاة رب السوق عبر التلفاز، والمذياع، والصحف اليومية والمصارف. وبفضل المذياع والتلفاز يدعون الملايين من البشر الذين أنكر عليهم حق إشباع حاجاتهم الأساسية للاحتفال برب السوق.."كما يقول إيريك توسان في كتابه "المال ضد الشعوب، البورصة أو الحياة" في هذا الوقت بالذات أخذت تظهر أصوات عقلانية تدعو للبحث عن بدائل التقدم الاجتماعي.. حتى جوزيف ستيغليتز الاقتصادي الكنيزي والمستشار الأسبق لكلينتون وكبير اقتصاديي البنك الدولي أخذ ينتقد اعتباراً من العام 2000 بحماس السياسة النيوليبرالية لخزينة الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي... والأمر الجديد أن يقوم شخص احتل تلك المناصب، ونال بعد استقالته جائزة نوبل للاقتصاد، بتشخيص مريع للسياسات التي تطبقها منذ عشرين عاماً حكومات البلدان المصنعة الرئيسية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وحكومات البلدان المسماة بالنامية، وبلدان الكتلة السوفيتية سابقاً...
إنّ قرار فتح الاقتصاد أمام المنظمات الاقتصادية العالمية والقوى الواقفة خلفها ـ قرار سياسي قبل كل شيء. هناك دول صغيرة تسير في طريق الاستقلال، فضلاً عن أكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم، ألا وهي الصين.
ليس عبثاً ذكر حقيقة أنّ البلدان التي تملك الإرادة السياسية، تمتنع عن اللعبة وفق قواعد الطغمة المالية العالمية، تحقق نجاحات اقتصادية ذاتية، وتحافظ على استقلالها. ومثال الصين مثير للانتباه. حسب معطيات العالم الأكسفوردي أندريه بولتو، ملكت الصين أعظم اقتصاد طوال "التاريخ المكتوب". فقد كانت لديها أكبر مداخيل الفرد حتى عام 1500، وبقيت من أكبرها حتى عام 1850، حتى تاريخ احتلال الصين من قبل بريطانيا. كان نصيب الصين حتى عام 1830 حوالي 30% من الإنتاج العالمي، الذي انخفض حتى 3 ـ 4% في النصف الأول من القرن العشرين. اليوم تعرض الصين المستقلة وتائر النمو الاقتصادي بمعدل 7 ـ 10% في العام. في السنوات الثلاثين الماضية نما اقتصادها 15 خمسة عشر ضعفاً. يبلغ ربح الميزان التجاري السنوي مع الولايات المتحدة 200 مليار دولار ـ حوالي ثلث رصيد العجز في التجارة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.
المجتمع المدني، واستمرار الصراع المفتوح
ويدخل في إطار جبهة الاتجاهات العقلانية والمقاومة للنيوليبرالية المتوحشة، فضلاً عن نشاط الطبقة العاملة، وأحزابها، نشاط بعض مؤسسات المجتمع المدني العالمي، التي تثبت أن الصراع يبقى مفتوحاً. فكما هو واضح يخلق رأس المال عبر عملية التراكم نظاماً ثقافياً واقتصادياً خاصاً على صعيد الإنتاج والتداول، ويجمع مختلف أشكال القيمة في النقد (معادلها العام)، ويفرض قوانينه الكامنة في صلب آلية عمل رأس المال بالذات: قوانين معدل الربح، ووتيرة تحقيق فضل القيمة، إلخ... أي يخلق آلية وجوده وسلطته الخاصة. ويحصل نوع من التمايز بين سلطة رأس المال وسلطة سيادة الدولة الحديثة... وهنا يأتي، كما يقول مايكل هاردت، وأنطونيو نيغري، دور المجتمع المدني كوسيط "بين القوى الكامنة لرأس المال، والسلطة المتسامية للسيادة الحديثة. لقد اعتمد هيغل عبارة "المجتمع المدني" التي اقتبسها من كتابات الاقتصاديين البريطانيين، وفهمه على أنّه نوع من التوسط بين المساعي الأنانية لرهط من الأفراد الاقتصاديين، والمصلحة الموحدة للدولة. يقوم المجتمع المدني بالتوسط بين الكثرة (الكامنة)، والواحد (المتسامي). فالمؤسسات التي تؤلف المجتمع المدني، شكّلت قنوات عبور لتيارات القوى الاجتماعية والاقتصادية المتدفقة، رافعة إياها إلى وحدة متماسكة، ومتدفقة رجوعاً، مثل شبكة للري، وهي دائبة على نشر تحكم الوحدة عبر الحقل الاجتماعي الكموني كله. قامت هذه المؤسسات غير الرسمية، بعبارة أخرى بتنظيم المجتمع الرأسمالي واخضاعه لنظام الدولة، وعملت بالتالي على نشر حكم الدولة عبر المجتمع... غير أنّ المجتمع المدني لم يعد، في أيامنا، يشكل نقطة توسط ملائمة بين رأس المال والسيادة. فالبنى والمؤسسات التي تؤلفه باتت اليوم متلاشية تدريجياً... إنّ من الممكن التقاط هذا التلاشي، بوضوح، على صعيد تدهور الديالكتيك بين الدولة الرأسمالية والعمل، على صعيد تدهور فاعلية النقابات، والاتحادات العمالية، وتلاشي أدوارها، على صعيد انهيار أهمية المساومة الجماعية مع العمل، وعلى مستوى تضاؤل تمثيل العمل في الدستور. من الممكن أن نرى اضمحلال المجتمع المدني مصاحباً لعملية العبور من مجتمع الانضباط إلى مجتمع التحكم.
إنّ البشرية تقف مرة أخرى على مفترق طرق في لحظة حاسمة من التاريخ... إذ تعود السجالات الكبرى حول خيارات المجتمع. ويرجح كثيرون من المفكرين ألا ينحصر الأمر في هذه المرة في إعادة صياغة الرأسمالية، بل على البشرية أن تتمكن من إيجاد مخرج من الأزمات والأمراض التي جلبتها الرأسمالية لها، وتبقى الاشتراكية كتاباً مفتوحاً على البشرية حسن قراءته. وللطبقة والعاملة، والنقابات والاتحادات العمالية دور جوهري ضروري وهام، في المعركة التي تخوضها الإنسانية لإيجاد مخرج من تلك الأمراض والأزمات التي جلبته الرأسمالية المتوحشة لها.
تحية لعمال العالم في عيدهم العالمي!
الهوامش والمراجع:
(1) إيريك توسان ـ المال ضد الشعوب، البورصة أو الحياة ـ ترجمة عماد شيحة ـ رندة بعث ـ دار الرأي دمشق ـ ص14
■ شاهر أحمد نصر
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.